صوت مجلس النواب على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لمتابعة ملف الاتصالات (مصطفى جمال الدين)
في البرلمان اللبناني، حين يُقرَع الجرس، ويُفتح الباب لدخول الرئيس، ويقف الحضور احترامًا، وتُعلَن العبارة التقليدية: "افتُتحت الجلسة" - لا يعني ذلك أن البلاد على وشك اتخاذ قرارات مصيرية. بل، بتجربة المُشاهِد المتمرس، نعرف أن ما يُفتَتح حقًا هو فصل جديد من عرض قديم: ستارة المسرح السياسي تُرفَع، والممثلون يصعدون إلى الخشبة، ليؤدوا نصًا مألوفًا، حفظوه عن ظهر قلب، وإن تبدّلت بعض الأدوار والوجوه.
هذا مسرح له قواعده الخاصة، مسرح عام ـ مسرح سياسي، حيث تُصاغ مصائر الناس ويُحدَّد مسار البلاد، ولكن بلغة مزدوجة: فيها من الجديّة ما يُقنع العابرين بأن ما يجري حقيقي، ومن الهزل ما يكفي لطمأنة الفاعلين أن لا شيء سيتغير.
في هذا العرض، يتقاطع الوطني بالمصلحي، ويُلامس الخطاب الساخر حافة القاتم، ويُفصَّل الموقف على قياس اللحظة. تتصاعد في القاعة روائح البونبون، وتختلط بعرق الصيف، وبأنين الكهرباء التي تُطفئ نفسها كما تُطفئ الدولة نفسها. أما الورق فيُستعمل للتهوية أكثر مما يُقرأ، للتسلية أكثر مما يُفكَّر به.
وهكذا، وبين مهفّة ورقة، ونظرة تائهة إلى الهاتف، وهمسة على الهامش، تُدار الجلسة كما تُدار البلاد: بشيء من الوقار المصطنع، وكثير من التمثيل الرديء، وبحضور جمهور غائب إلا حين تقع الكاميرا على لقطات جانبية… لنواب يملّون من السياسة كما ملّت السياسة من البلد.
"مع" تشعل البرلمان بالضحك
خلع الرئيس نبيه بري سترته. تَبِعَهُ العديد من النواب، والوزراء، وحتى الصحافيين في خلعهم لستراتهم. لا لكسر الأعراف ولا تقليدًا لبروتوكولات "ما بعد الحداثة"، بل لأن "الطاقة الوطنية" قررت أن تتوقف عن العمل، كما هي عادتها، قبل أن تبدأ الجلسة. والمكيفات لا "تكيّف" النواب، ولا الهواء السياسي يسري في القاعة إلا بعد قليل من الهرج والإرجاء، حيث توقّفت الجلسة لدقائق تحت عنوان "مشكلة الشوب" ووجوب حلها.
ما جرى كان مشهدًا رمزيًا، مسرحيًا، تجريديًا، عن البلد كله: "شوب" في الإدارة، شوب في الجلسة، وشوب في السياسة، حيث لا تهوئة ولا تداول هواء… بل فقط دوران في العدم.
وبعد قليل من التهوئة، حان موعد التصويت بالمناداة على رفع الحصانة عن الوزير جورج بوشكيان. طُلب من النواب أن يجيبوا بصوت واضح: "مع" أو "ضد". جاءت الردود، واحدًا تلو الآخر، بنغمة متكررة: "مع… مع… مع". ثم… صمت خفيف، حين تحولت المفردة إلى صوت متصل "مع مع مع". نظرات تائهة، خفّة في التعبير. ثم ارتفعت ضحكة من هنا، تعليق من هناك. ضحك النواب على أنفسهم، لا على ما يقوله القانون. اختلطت المفردة القانونية بعبث اللغة، وصار الجواب أقرب إلى نكتة مرتجلة في مسرحية مدرسية. ولتفادي اللغط، راح البعض يقول "نعم"، والآخر "موافق"، كي لا يُحسب عليه أنه شبّه نفسه بقطيع سياسي، أو صار أضحوكة في البث المباشر. لقد تحوّلت لحظة التصويت إلى عرض جانبي، إلى "سكيتش" وسط مشهد يُفترض أنه لحظة مساءلة نيابية تاريخية.
ورغم ضحك الكلمات، مرّ التصويت كما تمرّ معظم الأمور في هذا البلد: مرور الكرام. بسلاسة لا تثير الشبهات، وبهدوء شكلي لا يعكس ثقل اللحظة، ومن دون أي جلبة تُذكَر. 99 نائبًا صوّتوا بالموافقة، فيما امتنع النائب جميل السيّد عن الإدلاء برأيه، متذرّعًا بعضويته في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. هكذا، وبكلمات مقتضبة وأيدٍ مرفوعة، رُفعت الحصانة عن النائب والوزير جورج بوشكيان،
لكن الرمزية هنا تتجاوز الإجراء نفسه. فهذه أول مرة يُرفع فيها الغطاء النيابي عن نائب منذ ربع قرن. المرة الأخيرة تعود إلى عام 2000، عندما رُفعت الحصانة عن النائب حبيب حكيم. سبقه إليها الوزير شاهي برصوميان في 1999، والنائب يحيى شمص في 1994.
سجال الاتصالات: المحاكمة الجماعية أم العدالة الانتقائية؟
لاحقًا، صوّت المجلس على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لمتابعة ملف الاتصالات، وبأغلبية 88 صوتًا. اللجنة التي ستنظر في ممارسات وزراء الاتصالات السابقين: بطرس حرب، نقولا صحناوي، وجمال الجراح.
هنا، اشتد السجال الحقيقي. حزب الكتائب مع بعض النواب طالب بأن يُفصل التصويت على كل وزير. أن يُحال كل واحد على حدة. فلكل منهم ملف مستقل، وكل حالة لها ظروفها، وللمحاسبة شروطها الخاصة. لكن الرئيس بري رفض. قال إن "الملف واحد، والقانون واحد". بدا المشهد كأن الكتائب تطالب بعدالة مخصصة، بينما بري يردّ بعدالة جماعية… أما العدالة الحقيقية، فغالبا ما تكون غائبة.
حين يختار المجلس العتمة
عند لحظة انتخاب أعضاء لجنة التحقيق النيابية، اتُخذ القرار بصمت: لا نقل مباشر، ولا حضور للإعلام. بدا المشهد كمن يسحب الستارة في منتصف المسرحية، لا خجلاً من الحبكة، بل حرصًا على ألا يراها أحد. وكأن المجلس قالها صراحة، من دون أن يرفع صوته: "كفانا نشر غسيل". كأن الجلسات المفتوحة صارت عبئًا على الكرامة السياسية، والمكاشفة لم تعد من صفات المؤسسات، بل من مثالبها.
في الجلسات المنقولة، يرتفع الصوت، تُشدّ اللهجات، ويعلو الخطاب كمن يخطب في ساحة ثورة. لكن خلف الأبواب المغلقة، يعود النواب إلى حقيقتهم: أقل تهريجًا، أكثر تفاهمًا، وأشدّ حاجة إلى ما يُسمّى "تنسيق الكواليس".
ما جرى ليس مجرد إجراء تقني بإقفال النقل، بل موقف سياسي بكامل وعيه: المجلس لم يعُد يريد أن يرى الناس نفسه. لا لأنه تغيّر، بل لأنه تعب من "الفرجة". أو بالأحرى، خاف من انعكاس صورته في أعين جمهوره.
لكن الغريب، أن هذه الفرجة، بكل ما فيها من طرافة، وبطء، وعبث، كانت جدية إلى درجة الرعب. المشاهدون، وإن ضحكوا على زلات النواب، يعلمون تمامًا أن في هذا المسرح تُطبخ مصائرهم، وتُوزّع ميزانياتهم، وتُعاد صياغة قواعد اللعبة. إنها فرجة ممتعة، نعم، لكنها أيضًا مخيفة. لأنك تعرف، وأنت تتابعها، أن هذه هي الحقيقة… ولا حقيقة سواها.
الأناقة خلف الفوضى
وسط كل هذا الاضطراب المنظّم، هذه العشوائية التي تسير بانضباط غريب، يخرج النواب إلى العلن بكامل زينتهم. كأن لا شيء يحدث في البلاد. الكارثة على بعد شبر، لكن البدلات مكويّة بدقّة. الجلسة متوترة، لكن التسريحة محكمة. ربطة العنق معقودة بعناية، والوقفة أمام الكاميرا مدروسة: اليد إلى الجيب، النظرة إلى الأفق، والعبارة موزونة بما يكفي.
هذا المجلس الذي يتخبّط في تحديد النصاب، وتضيع فيه الحصانات بين القانوني والسياسي، لا يتساهل في قواعد المظهر. كأن الشكليات هي آخر ما تبقّى من سلطة الدولة. في كل مقابلة، كل تصريح، كل مرور عابر أمام الميكروفونات، هناك استعراض صغير للهيبة. لكن خلف الكاميرا، خلف الأبواب، في الكواليس حيث لا بثّ مباشر، تنكشف طبائع أخرى: لغة بلا قيد نحوي، نكات سمجة، ضحك خشن، وشعور بالحصانة… لا القانونية فقط، بل الأخلاقية أيضًا.
هم هم، النواب أنفسهم. لكن بوجهين. وجه رسمي يخرج للناس، مدهون بالإتيكيت، مصقول بالبروتوكول. ووجه آخر، داخلي، عادي، فيه من "الهمشرية" أكثر مما فيه من النخبوية. كأنهم يخوضون مسرحية يومية، أدوارهم محفوظة، وإطلالاتهم معدّة سلفًا. وما إن تُطوى الكاميرات، حتى تعود الشخصيات إلى حقيقتها: عادية، فوضوية، متشابكة، تصرخ وتهمس وتساوم، من دون ماكياج اللغة ولا إكسسوارات الهيبة.
في لبنان، النيابة ليست سلطة تشريعية فقط، بل مهنة استعراضية. والمجلس أشبه بمسرح كبير، فيه مخرجون، تقنيون، ونجوم شاشة يعرفون متى يبتسمون ومتى يلوّحون ببيان ناري. لكن لا أحد يجرؤ أن يُخرج البثّ من الكواليس. لأن هناك، في العتمة، لا شيء أنيقاً بما يكفي… ولا شيء صالحاً للبث.
تعليقات: