نافذون يحتكرون المياه في السوق السوداء والناس تموت عطشاً

شح مياه في البقاع
شح مياه في البقاع


لم يعد العطش في البقاع الشمالي أزمة صيفية أو خللًا ظرفيًا عابراً. في هذه المنطقة المُسقَطة من رزنامة الدولة، ومع تفاقم التغيير المناخي، بات الحصول على مياه الشرب أشبه بمعركة يومية يخوضها المواطن ضد العطش، والإهمال، والفساد وتجار الأزمات.

في بلدات القاع، رأس بعلبك، الهرمل، الفاكهة، العين، اللبوة، والنبي عثمان، لم تعد مياه نبع اللبوة – التي كانت شريان الحياة – تصل إلى البيوت والبساتين عبر مجراه الطبيعي، بفعل تعديات سافرة محمية من دون حسيب أو رقيب. وأدت التعديات إلى جفاف النهر في مناطق حرمت من المياه لصالح تنعم نافذين ببيع المياه. أمّا شبكات مصلحة مياه البقاع فقديمة وبائسة ومن دون صيانة ولا تحديث. هذا الواقع أعطى بعض المحظيين فرصة الحصول على تراخيص لحفر آبار خاصة "وصولًا للمياه الجوفية" وبيعها وفق أهوائهم وتسعيراتهم.

ندفع فاتورتين

"ندفع فواتير الدولة وفواتير الصهاريج، ولا نحصل على نقطة ماء نقية"، تقولها سيدة من جديدة الفاكهة. حالها كحال عشرات العائلات التي استسلمت لسلطة السوق السوداء، تشتري المياه بأسعار مضاعفة من صهاريج خاصة. كلفة الصهريج الواحد (10براميل) 17 دولارًا، غالبًا ما تكون بعيدة عن أعين الرقابة والمختبرات التي تؤكد صحة استخدامها للشرب.

بساتين بلدة العين وأهلها ليسوا بأفضل حال. مئات الاشجار تموت عطشاً، ليس بسبب المناخ والجفاف فحسب، بل بسبب تعديات فاضحة على نبع اللبوة كما يقول المختار يوسف جعفر. ويضيف أن هناك سرقة منظمة لمياه النهر تحت أنظار الجميع وسكوتهم. أمّا مصلحة مياه البقاع، فيقول عنها جعفر إنها "غاشية وماشية" لأن همها الوحيد تحصيل الجباية دون تقديم أي خدمات فعلية للناس، فحتى بئر مياه الشرب، تمّت صيانته وتجهيزه بالطاقة الشمسية، عبر أهالي البلدة، والموظف القائم عليه، يتقاضى راتبه من البلدية.

السلّة الغذائية مهددة

رئيس بلدية القاع، بشير مطر، أطلق صرخة استغاثة عبر "المدن": "آبار مياه الشفة التي حفرتها الدولة سابقاً جفّت أو تعطلت، عشرات آبار الري الزراعي في منطقة مشاريع القاع جفّت. أما نبع اللبوة تُنهب مياهه يوميًا من دون رادع. وفي بعض الأماكن تمَّ ردم المجرى كي تمر شاحنات التهريب. أبلغنا الدولة والأجهزة الأمنية مراراً وتكراراً، لكن لا حياة لمن تنادي. واليوم نناشد الدولة أن ترأف بالناس وتسمح للمزارعين بتعزيل آبارهم الجافة وحفرها مجددًا قبل وقوع الكارثة".

الأزمة ليست محصورة بالمياه المنزلية فحسب. فالبقاع الذي كان سلة لبنان الغذائي، مهدد بفقدان رئته الزراعية. فقد بات ريّ المحاصيل عبئًا ماديًا كبيرًا، يضع رأس المزارع تحت مقصلة الدَين. مزارعو القاع وجوارها بدأوا باقتلاع أشجار المشمش والدرّاق المُعمِرة، وآخرون أوقفوا زراعة البطاطا والخضار خوفًا من الخسائر والديون. هذه الأزمة تهدد الأمن الغذائي الوطني بشكلٍ كامل، وتُضاعِف الأسعار مع الاعتماد على الاستيراد، في كل لبنان ليس في البقاع فقط.

غربي بعلبك كشرقها

منطقة غربي بعلبك رغم غناها نسبياً بمصادر المياه إلا أنها تعاني أيضاً. وزاد من حدة المعاناة تدني المتساقطات وجفاف الآبار هذا العام. من أبلح يقول المواطن علي الحج حسين أنه يشتري صهرجَي مياه أسبوعياً، بسعر 16 دولاراً للصهريج الواحد. ما يعني أنَّه ينفق أكثر من 120 دولاراً ثمن مياه الشهر، وهذا عبئ يفوق طاقة الموظف في القطاع العام. ويرى أن سبب عدم وصول مياه اليمّونة إلى قريته وجوارها هو "الهيمنة والتعديات على النبع"، وسط تبريرات رسمية وشعبية واهية.

الدولة غائبة.. والحلول

في المقابل، تغيب الدولة وتغيب معها وزارة الطاقة والمياه. فالمؤسسة ترزح منذ سنوات تحت الشلل، لا خطط، لا صيانة، ولا مشاريع مياه مستدامة. وحدها السوق السوداء تنمو وتكبر، حفر الآبار حكراً على المحظيين، فيما المياه تُباع من دون رقابة، أما الجودة والأسعار يتحكَّم بها أصحاب الصهاريج، بتواطؤ واضح من بعض البلديات والنافذين. وقد حاولت "المدن" التواصل مع رئيسة مؤسسة مياه البقاع بالتكليف بولا حاوي للاستفسار عن المشاكل الحاصل وكيفية تحرك المصلحة. ورغم محاولاتنا المتكررة تمنعت عن الرد من دون أي إيضاح.

سد العاصي الذي يتغنى به نواب البقاع في خطاباتهم، لا يزال حلماً ممنوع التنعم به. ويقول مطر: "ما يزيد من المأساة هي "اتفاقية الغلبة" لتقاسم مياه العاصي منذ أيام النظام السوري السابق. فهي اتفاقية جائرة بكل المقاييس ويجب إعادة النظر فيها، خاصة لجهة حفر الآبار في حوض العاصي. فهي ممنوعة في لبنان ومسموحة في سوريا.

إدارة "باطونجي" مزمنة

أزمة المياه ليست تقنية فقط، وليست بمجملها بسبب تغَيُر المناخ رغم أهميته، بل هي بحسب الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي أزمة سياسية بامتياز. فوفقه الدولة عاجزة عن التخطيط السليم، وعن إدارة الثروة المائية بشكل علمي بحت. فالدولة التي تعوم على كميات هائلة من المياه الجوفية (ثلثيها في الجبال) تترك مواطنيها في مواجهة العطش والقحط.

ويصف زعاطيطي كيفية إدارة الدولة لقطاع المياه أنه بمثابة "عقلية وذهنية "السمسار الباطونجي" الذي يتحكم في وزارة الطاقة. هذا فيما مصالح مياه المناطق لا تكفي لإدارة الملف.

ويضيف أن الدولة والقوى السياسية مطالبة مطالبين بوضع حلول بنيوية دائمة، وسياسة مائية مستدامة بدل الركون إلى "خدمة الخزان" لاستثماره سياسياً.

في البقاع الشمالي، الماء يُباع بالقطارة، والحياة تُشتَرى من تجّار الأزمات. بينما الناس ما زالوا صامدين، ينتظرون قطرة من عدالة.. أو دولة موعودة بلا فساد.


تعليقات: