لاكتساب الخبرات في مجال إعادة تدوير الأنقاض والردميات
في لبنان، لا تنتهي الحروب ولا الكوارث، لكن ما يبقى دائمًا هو الأنقاض. خلف كل انفجار أو معركة أو انهيار، تتراكم كميات هائلة من الخرسانة المكسّرة، والحديد الملتوي، والزجاج المحطم، والأثاث المحترق، من دون أية خطة واضحة لكيفية معالجتها. تشير التقديرات إلى أن مخلفات الهدم والبناء تجاوزت اليوم 32 مليون طن – وهي ليست مجرد أرقام، بل أزمة بيئية وصحية واقتصادية تتضخم بصمت.
غياب الدولة وحضور الفوضى
ليست هناك سياسة وطنية واضحة في لبنان لإدارة نفايات الهدم. لا توجد محطات فرز، ولا حوافز لإعادة التدوير، ولا حتى حدّ أدنى من الرقابة. والنتيجة؟ مشاريع "دفن" الأنقاض في البحر، كما حصل بعد حرب 2006، ومجدداً بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، عندما قدرت كمية الركام بنحو مليون طن. بدلاً من الفرز وإعادة التدوير، جرى التخلص من الردم بشكل عشوائي، في مواقع عشوائية مثل الكرنتينا، أو حتى رميت في البحر. أما أنقاض حرب 2024 في بيروت والجنوب والبقاع، فمن المتوقع أن يجري التعامل معها كما هو معتاد أي بشكل عشوائي، من دون أي تدخل حكومي لتنظيم الأمر.
الخطر الصامت
ليست المسألة مجرد فوضى تنظيمية. الأنقاض تحمل في طياتها مواداً شديدة الخطورة، مثل الفوسفور الأبيض، الأسبستوس، الرصاص، الزرنيخ، وربما ذخائر غير منفجرة. وعند هطول المطر، تتسرب هذه المواد إلى التربة والمياه الجوفية، مهددة الزراعة والصحة العامة لعقود. أما الغبار المتطاير من هذه النفايات، فيتحّول إلى خطر يومي على الجهاز التنفسي للبنانيين، خصوصاً في الأحياء الحضرية المكتظة.
المقارنة القاتلة: عندما تصبح النفايات مورداً
في الوقت الذي يتعامل فيه لبنان مع الأنقاض بوصفها عبئاً، تذهب دول العالم باتجاه نموذج "البناء التدويري" حيث تعتبر نفايات الهدم مادة خام لإعادة البناء. في هولندا مثلاً، يُعاد تدوير 95٪ من أنقاض البناء، وتمنع عمليات الطمر. ألمانيا تعيد تدوير أكثر من 90٪ من المخلفات، وفرضت قوانين صارمة على الشركات لتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام. اليابان، ومنذ عام 2000، تلزم جميع مشاريع الهدم بفرز الأنقاض في الموقع، ويُعاد استخدام 98٪ منها. حتى الهند، التي لطالما عانت من فوضى النفايات، أنشأت مصانع لإعادة التدوير وألزمت استخدام منتجاتها المعاد تدويرها في مشاريع البنية التحتية.
لبنان وفرصة مهدورة
رغم الكم الهائل من الركام، يعيد لبنان تدوير أقل من 5٪ من الأنقاض، ومعظم هذه الجهود تتم بفضل منظمات غير حكومية ووكالات إغاثية، لا الدولة.
لماذا؟ يكمن الجواب في الفساد وانعدام الكفاءة. فشركات جمع النفايات والأنقاض تحصل على أرباح وفق الكمية المنقولة إلى المكبات أي على الوزن وبالطن، وهو ما يجعلها غير مهتمة بإعادة التدوير. أما القطاع نفسه، فيهيمن عليه مقاولون مرتبطون بالطبقة السياسية، وهذا يجعل الشفافية والمساءلة شبه معدومتين.
الدراسات حول جدوى إعادة تدوير الأنقاض والردم موجودة، والخبراء اللبنانيون لم يتوقفوا عن المطالبة بإقرارها والعمل بها، بل ويحذرون من أخطار عدم الأخذ بها. مركز الحفاظ على الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت أظهر أن الخرسانة يمكن إعادة تدويرها بأمان وفعالية. لكن، وكما هو الحال في ملفات كثيرة، تغيب الإرادة السياسية للتنفيذ.
إعادة التدوير: ضرورة اقتصادية وليس ترفاً بيئياً
في بلد يعاني من أسوأ أزمة مالية في تاريخه، ويحتاج وفق تقديرات البنك الدولي إلى أكثر من 11 مليار دولار لإعادة الإعمار، فإن إعادة تدوير الأنقاض ليست ترفاً بيئياً، بل وسيلة للبقاء. يمكن للمواد المعاد تدويرها أن تخفض كلفة البناء وتخلق فرص عمل جديدة. الخرسانة والأسفلت ُيعاد استخدامها في الطرقات، الحديد يُصهر ويُستخدم مجدداً، الخشب ُيفرم لصناعة الألواح أو نشارة التربة، وحتى الزجاج والسيراميك لهما سوق في صناعات جديدة.
تقديرات متحفظة تشير إلى أنه في حال إطلاق حملة وطنية شاملة لإعادة تدوير الأنقاض قد تخلق أكثر من 10,000 فرصة عمل، وتُوفر ما يزيد عن 3 مليارات دولار من كلفة التدهور البيئي والصحي، وتُعيد تأهيل المحاجر المهجورة بطرق ذكية ومستدامة.
من أين نبدأ؟
لبنان بحاجة عاجلة إلى استراتيجية وطنية متكاملة لإدارة الأنقاض والهدم، تشمل:
إنشاء مراكز فرز وتكسير في كل محافظة.
فرض رسوم على الطمر وإعفاءات ضريبية لمشاريع إعادة التدوير.
إلزام شركات البناء باستخدام نسبة محددة من المواد المعاد تدويرها.
إنشاء شراكات مع الجهات المانحة الدولية لنقل الخبرات.
إنشاء هيئة مستقلة للرقابة، لضمان الشفافية ومنع الاحتكار.
كطائر الفينيق
إن إعادة بناء لبنان من أنقاضه هو أكثر من مشروع عمراني إنه مشروع وطني لاستعادة الثقة. إعادة تدوير الأنقاض تعني تحويل الرماد إلى فرصة، واليأس إلى عمل منتج، والحطام إلى مستقبل. والأهم من كل ذلك، أنه مجال يمكن أن يبدأ فيه لبنان اليوم، من دون انتظار مساعدات أو قروض أو تفاهمات سياسية.
إذا استطاعت الهند، بكل تحدياتها، أن تنهض بإعادة التدوير، وإذا نجحت اليابان رغم الكوارث، فلماذا لا يفعل لبنان؟ لدينا الجامعات، والمهندسين، والخبرة، والمادة الخام نفسها. كل ما ينقصنا هو القرار.
علينا أن نكفّ عن دفن مستقبلنا في البحر، وأن نبدأ بصنع غد مستدام بأيدينا. فاكتساب الخبرات في مجال إعادة تدوير الأنقاض والردميات ليس خياراً، بل ضرورة، لنصبح نموذجاً يُحتذى به في منطقة أنهكتها الحروب والدمار. لقد حان وقت الفعل لا الانتظار.
تعليقات: