أحزاب لبنان: جمعيات غير خيرية لا تتوخى إلا الربح

بقاء الأحزاب بلا قانون ينظم عملها، هو أحد مكامن الخلل الأساسية في الحياة السياسية اللبنانية
بقاء الأحزاب بلا قانون ينظم عملها، هو أحد مكامن الخلل الأساسية في الحياة السياسية اللبنانية


في بلد تتعدد فيه الانتماءات الطائفية، وتفرز أحزابا تتنافس على النفوذ والتمثيل، يبدو لافتًا أن لبنان لا يملك حتى اليوم قانونًا خاصًا ينظم عمل الأحزاب ووظيفتها في الحياة السياسية وضمن هرمية السلطة. فالأحزاب اللبنانية، بمعظمها، لا تحتاج لتبصر النور إلا "العلم والخبر" الصادر عن وزارة الداخلية، وبموجب قانون الجمعيات العثماني الصادر سنة 1909. ومع أن هذا القانون يُعد من أقدم القوانين السارية في البلاد، إلا أنه لم يُعدَّل جذريًا أو يُستبدَل بقانون عصري يأخذ في الاعتبار خصوصية العمل الحزبي وأهميته في الحياة العامة.

وسهولة الحصول على "العلم والخبر" بموجب النظام الحالي، يحوّل الحزب إلى جمعية لا تهدف إلى الربح، ولا يفرض عليه أي التزام قانوني بمسائل تمويله، أو هيكليته الداخلية، أو شفافيته التنظيمية. وبذلك، تغيب الرقابة عن واحدة من أكثر الجهات تأثيرًا في القرار العام، سواء على مستوى السياسات، أو السلطة، أو تشكيل الحكومات.

وهذا ما فتح شهية الطامحين إلى مكانة سياسية، وإن وهمية، لتأسيس أحزاب لا تضم إلا مؤسسها وبعض أفراد عائلته أو أصدقائه في أفضل الأحوال، وهذا الأمر لطالما لاءم الطبقة السياسية المتحكمة بالدولة، للادعاء بأن حرية العمل السياسي متاحة للجميع في تعددية ديموقراطية صورية.

إلا أن الحقيقة في مكان آخر، فالدولة اللبنانية ومنذ نشأتها، ومن ثم خلال الحرب الأهلية خاصة، كانت أحزابها نتاجًا طبيعيًا للهويات الفرعية الطائفية والمناطقية، لا لمشروع وطني جامع، كما لو أن القوى السياسية تعايشت عمدًا مع فراغ تشريعي مقصود في مسألة الأحزاب، إذ شكّل غياب القانون اللازم لتأسيسها وآلية عملها وتمويلها درعًا ضد الشفافية والرقابة، ومتنفسًا لبناء شبكات الزبائنية والولاء. فالسلطة في لبنان لم تكن يومًا قائمة على مبدأ المأسسة، بل على التسويات والمحاصصة، حيث القانون يُسقط أمام "الميثاقية".

في المقابل، فإن تأخر إصدار قانون خاص بالأحزاب لا يعبّر فقط عن خلل تشريعي، بل يعكس غياب إرادة جدية ببناء دولة مدنية حديثة، تضع العمل الحزبي تحت المساءلة والرقابة وتفصل بين السلطة العامة والمصالح الخاصة. فكما أن قانون انتخاب طائفي يُنتج نوابًا طائفيين، فإن غياب قانون حزبي عصري يُنتج أحزابًا طائفية سلطوية مغلقة على المحاسبة.

ويرى كثيرون أن بقاء الأحزاب بلا قانون ينظم عملها، هو أحد مكامن الخلل الأساسية في الحياة السياسية اللبنانية. فتغليب الانتماء الطائفي على الانتماء الوطني يشجع على تشكيل أحزاب مذهبية، ويحول دون وضع أسس بيئة تشريعية تحفّز على قيام أحزاب وطنية عابرة للطوائف. وفي هذا الإطار، يطرح كثير من الخبراء الحاجة إلى تشريع جديد ينظّم تأسيس الأحزاب، وهيكليتها، وتمويلها، ويضمن ديمقراطية داخلية، وشفافية مالية، قوامها الخضوع للرقابة والمساءلة.

لحظة إعادة فتح النقاش

ولعل النقاش حول قانون الأحزاب يجب أن يتقدم إلى الواجهة، ليس لأنه حاجة تشريعية، ولكن لأن تقاطعات سياسية وأمنية لها دلالاتها، تسلط الضوء على كيفية استسهال غالبية الأحزاب لاستغلال مؤسسات تنضوي تحت رايتها، حتى تنشئ شبكات تمويل لها، بمعزل عن القوانين المرعية الإجراء وفي غياب تام للمساءلة والمحاسبة. وموضوع “جمعية القرض الحسن” – الذي اتخذ مصرف لبنان قرارات بشأنه، يصب في هذا المنحى. وهذه الجمعية ليست الوحيدة المرتبطة بحزب من أحزاب السلطة. فكل حزب لديه "عدة الشغل" اللازمة إما لصرف الأموال وفقا لمصالحه الضيقة، أو استقطاب الأموال لإثراء غير مشروع، وبوسائل بعيدة كل البعد عن الشفافية.

الا أن قدرات وأدواره التمويلية "القرض الحسن" تتجاوز حدود الجمعيات، وتثير تساؤلات جدية حول غياب الرقابة المالية على الكيانات المرتبطة بالأحزاب، وغياب الفصل بين الأنشطة الاجتماعية والأنشطة السياسية ذات البعد التنظيمي.

وهذا ما جعل البعض يربط بين إعادة فتح النقاش حول قانون الأحزاب، والحاجة إلى تنظيم قانوني ومؤسساتي يشمل كل الأطر المرتبطة بالعمل الحزبي، المباشر وغير المباشر.

في هذا السياق يقول مدير شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، الأستاذ زياد عبد الصمد للمدن “مشكلة القرض الحسن إنه يمارس دور مصرفي، وهذا بحاجة لترخيص من نوع مختلف. ليس فقط لأنه تابع لحزب، بل لأنه يمارس نشاط مالي خارج إطار القانون.”

غياب الشفافية المالية

ما سبق يشير إلى أن المشكلة الأكثر حساسية في غياب قانون الأحزاب هي الشفافية المالية. فالأحزاب في لبنان، بحكم غياب التشريع، لا تُلزم بالإفصاح عن مصادر تمويلها، ولا عن كيفية إنفاقها، ولا تخضع لأي جهاز رقابي. وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام المال السياسي، والزبائنية، والتمويل الخارجي غير المنضبط.

يؤكد الأستاذ زياد عبد الصمد في هذا السياق أن “التمويل هو أكثر الجوانب حساسية. المطلوب أن يصرّح الحزب عن مصادر تمويله، وكذلك عن كيفية إنفاقه، كما تفعل الجمعيات التي تتمتع بمنفعة عامة، والتي تخضع لقواعد المحاسبة العمومية”. ويضيف: “تمويل الأحزاب لا يمكن فصله عن المال العام، لأن هذه الأحزاب تُمارس دورًا سياسيًا مؤثرًا في الشأن العام، وبالتالي يجب أن تخضع، كما الجمعيات ذات المنفعة العامة، لرقابة ديوان المحاسبة وسائر أجهزة الرقابة المالية في الدولة”.

ويُلفت إلى خطورة غياب هذه الرقابة: “كيف يمكن على سبيل المثال أن يُسمح لحزب سياسي بأن يحصل على مئات ملايين الدولارات من الخارج دون أن يقدّم كشفًا واحدًا يوضح كيفية الإنفاق؟ أين تذهب هذه الأموال؟ بعضها للتسلح وهذا ممنوع وبعضها الاخر على الخدمات وهذا ايضا ممنوع. كما إلى شراء النفوذ، هذا الأمر لا يجوز أن يُترك بلا مساءلة، لأنه يضرب مبدأ العدالة السياسية ويفاقم الزبائنية”.

ضرورة قانون خاص واستقلال تنظيمي

من النقاط الأساسية التي يركّز عليها عبد الصمد أن “قانون الأحزاب في لبنان يجب أن يكون مستقلاً تمامًا عن قانون الجمعيات”، لأن “الجمعيات السياسية تسعى إلى ممارسة السلطة، بخلاف الجمعيات الاجتماعية التي قد تعمل بالشأن العام دون أن تهدف إلى تسلّم مواقع مسؤولية”.

ويشدد على أن “حق التنظيم السياسي حق مقدّس، لا يجوز تقييده، لكن من الضروري تنظيمه بموجب قانون واضح يحدد الفرق بين العمل السياسي والعمل الأهلي، ويضع آليات للرقابة دون المساس بحرية العمل السياسي”.

عوائق بنيوية: الطائفية والزبائنية

لكن المشكلة لا تتوقف عند غياب القانون، بل تتعداها إلى النظام السياسي نفسه. فلبنان، بنظامه الطائفي، يُنتج أحزابًا طائفية بطبيعتها، تتوزع المقاعد والمكاسب وفق معادلات مذهبية. ويسأل عبد الصمد: “هل يمكن أن يُمنع قيام أحزاب طائفية في ظل نظام طائفي؟ كيف نطلب من حزب أن لا يكون مذهبيًا، بينما الانتخابات نفسها تُبنى على قاعدة مذهبية؟”

ويختم بالقول إن “الطائفية والزبائنية ليستا فقط نتيجة القانون، بل هما نتيجة تراكب بنية النظام السياسي والاجتماعي. لذلك، لا يمكن إصلاح الحياة الحزبية من دون إصلاح سياسي شامل، يُخرج لبنان من منطق الطائفة إلى منطق الدولة”.

تعليقات: