حين ينهض لبنان من قلب الركام..


في زمنٍ تتكاثر فيه العواصف وتضيق فيه فسحات الأمل، يبقى لبنان حالةً فريدة بين بلدان العالم، وطنًا صغيرًا بجراحٍ كبيرة، لكنه لا يعرف الانحناء. لم يكن التاريخ يومًا رحيمًا معه، لكنه ظلّ حيًّا، يحضن أبناءه رغم الألم، ويعيد بناء نفسه على ركام الانهيارات. فلبنان لا يموت، لأن في كل زاوية من زواياه ينبض قلب، وفي كل ركنٍ من أركانه تنهض ذاكرة النضال والصمود.

ليست المصارف ولا المؤسسات ما يُبقي هذا البلد حيًا، بل ناسه. أولئك الذين يستيقظون كل صباح، يواجهون الغلاء والغياب، ويحلمون رغم القهر. هم العمّال، الطلّاب، الأمهات، الكُتّاب، المزارعون، الصيادون، وكل من لم يغادر قلبه الإيمان بوطنٍ يستحق الحياة. في وجوههم نرى نُبلًا لا يُقاس بالأرقام، بل يُقاس بالصبر، والكبرياء، والكرامة التي لا يشتريها أحد.

الأزمات لم تعد غريبة على اللبناني، لكنها لم تحرمه يومًا من حق الحلم. كل أزمة هي دعوة لصناعة بدايات جديدة، وكل وجعٍ هو دافعٌ نحو التغيير. لا أحد يطلب معجزات، بل بعض الكرامة، ومؤسسات تُشبه الناس الذين تمثّلهم، وعدالة لا تنتقي، وأحلام لا تُصادرها الحسابات. فهل يُعقل أن يُقابل هذا الشعب النبيل بكل هذا الجفاء؟ وهل يمكن لوطنٍ أن ينهض فيما تُقوّض أركانه بأيدٍ من داخله؟

هذا البلد الذي قاوم الاحتلال، وصمد في وجه الحصار، ورفض أن يُمحى من الخريطة، لا يجوز أن يُهزَم في معركة الكرامة والعيش. ما يعيشه اللبنانيون اليوم ليس قدَرًا، بل نتيجة نظامٍ سياسيٍ واقتصاديٍ فاسد آن أوان تغييره.

والنهضة لا تبدأ من أعلى الهرم، بل من القاعدة: من وعي الناس، من أخلاقهم، من قدرتهم على تحويل الغضب إلى مشروع، واليأس إلى قرار.

لبنان يحتاج إلى مشروع وطني جامع، يُنهي الفساد، ويكسر الطائفية، ويُطلق طاقات شبابه في العلم والإبداع، لا في الهجرة والتيه. نُريد وطنًا لا يساوم على كرامته، ولا يبيع ذاكرته، ولا يُقايض دماء الشهداء بمناصب . نُريد جمهوريةً عادلة ، تحترم المواطن، وتُحاسب المسؤول، وتُعيد بناء الدولة من أجل الإنسان.

نُريد لبنانًا لا يكون مجرد ذكرى جميلة، بل واقعًا أجمل. نُريده بلدًا يحتضن شبابه، لا يصدّرهم. نُريده وطنًا للعلم، والحق، والفرح، لا للحسرة والصمت. هذا الوطن لم يُخلق ليموت، بل لينهض، وكل من لا يزال يؤمن به، يُسهم في نجاته. فليكن الأمل هو المقاومة النبيلة الأخيرة، وليكن الإيمان بالوطن هو الانتماء الذي لا يُقهر.

* راشد خضر كمال شاتيلا

تعليقات: