الرابع من آب.. ذاكرة وجعٍ لا تموت

راشد شاتيلا: رغم الركام، لم تسقط بيروت. فتحت النوافذ من جديد، وشقّ الناس طريقهم بين الغبار بحثًا عن الحياة
راشد شاتيلا: رغم الركام، لم تسقط بيروت. فتحت النوافذ من جديد، وشقّ الناس طريقهم بين الغبار بحثًا عن الحياة


في الرابع من آب، يعود المشهد كأنّه لا يزال حيًّا في ذاكرة المدينة. بيروت، تلك العاصمة التي اعتادت أن تقف في وجه الزلازل السياسية والاقتصادية، لم تكن مستعدّة لانفجارٍ اقتلع شيئًا من روحها. لم يكن ما حدث مجرد كارثة مادية، بل لحظةً اخترقت نسيج الوجدان اللبناني، وخلّفت وراءها صمتاً أثقل من الضجيج.

تحية لكل من غابوا دون وداع، ولكل من ارتقوا وهم لا يعلمون أن لحظةً عابرة ستجعل أسماءهم جزءًا من الذاكرة الجماعية للألم. لا كلمات توفيهم حقهم، ولا زمن يعوّض غيابهم، لكن في كل صلاةٍ خافتة، وفي كل شمعةٍ تضيء شرفات الحنين، ينبض الوفاء كعهد لا ينكسر. إلى أمهات الشهداء، إلى آبائهم، إلى من ينتظرون عدالةً تأخّرت… أنتم في القلب، لا تنطفئون.

رغم الركام، لم تسقط بيروت. فتحت النوافذ من جديد، وشقّ الناس طريقهم بين الغبار بحثًا عن الحياة. هناك من علّق صورة نجت من الانفجار، وهناك من نفض الغبار عن كتاب، وهناك من زرع وردةً على الشرفة، وكأنها بيان صغير ضد الفقد. بيروت لم تتقن فنّ الانهيار، بل أتقنت البقاء رغم كل شيء.

ليكن هذا اليوم موعدًا للضمير، لا للاستهلاك. لا نريد خطابًا سياسياً، ولا متاريس من الاتهام، بل نريد وجهاً للحقيقة. لأن العدالة، حين تُرفَع على أكتاف الشفافية، تصبح بلسماً لا سيفاً. ولن يكون للبنان غدٌ يليق بتضحيات أبنائه، إن لم نُعد الاعتبار لما جرى، وإن لم نتعلّم من الوجع كيف نبني الأمان.

العدالة ليست خياراً، بل ضرورة تحفظ كرامة الأحياء وتُعيد بعض السلام إلى أرواح الراحلين. مَن رحلوا لا يطلبون انتقاماً، بل عدلاً نظيفاً يُعيد الثقة بين المواطن والدولة. لن تلتئم الجراح بالبيانات، بل بالمحاسبة الصادقة التي لا تميّز بين مسؤولٍ كبير أو صغير، ولا تخشى الحقيقة مهما كانت موجعة.

حين يتكئ الناس على الأمل، يُصبح الصمود فناً يومياً. هناك من كتب قصيدته الأولى عن بيروت بعد الرابع من آب، وهناك من بدأ مشروعه من تحت الركام، وهناك من آمن بأن الأوطان لا تُبنى إلا بالمحبّة والإصرار. من تحت الرماد، خرجت وجوهٌ قررت أن تزرع في الذاكرة ورداً، لا رماداً.

لبنان… وطن لا يستحق الموت المتكرر

لبنان ليس مساحة من الجغرافيا فقط، بل هو قصة بشرٍ أحبوا الحياة رغم كل شيء. لا يستحق هذا الوطن أن يبقى رهينة التراخي. من انفجار المرفأ، إلى انفجار الثقة، لا تزال الفرصة قائمة لتصحيح المسار. فالذين يبكون بصمت لا يريدون شفقة، بل وطناً يصونهم. والذين رحلوا لا يسكنون المقابر فقط، بل يسكنون وجدان كلّ من بقي مؤمناً بأن لبنان، رغم جراحه، لا يزال يستحق الحياة.

راشد خضر كمال شاتيلا

تعليقات: