الحياة اليومية في سوريا ورجال الشرطة - يستصدر عقد الزواج الوهمي بمساعدة بعض معقبي المعاملات في القصر العدلي (Getty)
عام 2017، كانت القبضة الأمنية في سورية قد بلغت ذروتها. كل تفصيل في الحياة اليومية كان يمر عبر بوابة المراقبة والاشتباه. حتى استئجار شقة صغيرة لم يكن مسألة عادية، بل رحلة إجبارية إلى أروقة الفروع الأمنية. هناك، حيث تبدأ الأسئلة من الورق ولا تنتهي إلا عند جذور العائلة. عليك أن تملأ استمارة لا تكتفي باسمك ومهنتك، بل تمتد إلى الأجداد والأعمام والأخوال، وانتماءاتهم الحزبية والسياسية، ومن سيقطن معك تحت السقف ذاته. وكأن استئجار غرفة يعني بالضرورة إعلان تاريخك العائلي أمام سلطة تفتش في الماضي قبل أن تسمح لك بالعيش في الحاضر.
أشباح الماضي
في ذلك المكتب الضيق، رمى أحد عناصر الأمن سؤاله في وجهي ببرود: "عمك كان شيوعياً، مو هيك؟"
كان السؤال أقرب إلى فخّ منه إلى استفسار. في لحظة قصيرة تكدّس داخلي صراع مرير: هل أُنكر تاريخ عمي النضالي لأحصل على شقة أسكنها، أم أواجه الحقيقة وأجازف بأن أبقى مشرّدة؟ هل يمكن أن يتحوّل إرث رجل قضى سنوات من حياته بين الكتب إلى عقبة في وجه سكن مؤقت؟
قررت أن أنصف عمي. قلت "نعم" بصوت بدا لي أشبه بإعلان ولاء للتاريخ أكثر منه إجابة على استجواب. كان واضحاً أن العنصر يعرف الجواب مسبقاً، يعرف تفاصيل عائلتي كما يعرف تفاصيل حياة آلاف السوريين الموزعين بين ملفات وأضابير. ومع ذلك، ظل السؤال معلقاً في الهواء: ما العلاقة بين انتماء حزبي مضى عليه عقود، وبين حقي في استئجار شقة؟
تأملني الرجل طويلاً، ثم اقترب وهمس وكأنه يكشف سراً: "دخلك… شو يعني شيوعي؟"
كانت المفارقة قاسية: سلطة تحاسبك على إرث سياسي لا تفهمه، وموظف يحقق معك باسم التاريخ وهو لا يملك أدنى معرفة بمعناه متناسياً أنك عندما تطعن التاريخ في خاصرته سيبتلعك الحاضر.. لحظتها أدركت أن الخوف في سورية لم يكن مرتبطًا فقط بالرقابة، بل بعبثية هذه الرقابة نفسها؛ مراقبة تستدعي أشباح الماضي دون أن تفهمها، وتستعملها أداة لإذلال الحاضر.
لم تكن الورطة في مجرد الوقوف أمام عنصر أمن يسأل ويدوّن، بل في إدراك أن من يمسك القلم لا يجيد حتى الكتابة. كنت أراقب ارتباكه مع الحروف، وأشعر أن كل كلمة أقولها قد تُترجم على الورق مشوّهة، لكنها مع ذلك ستتحوّل إلى جزء من ملف أمني قد يلازمني لسنوات. شعرت أنني لست أمام موظف يدوّن شكوى أو طلبًا، بل أمام سلطة عمياء لا تفهم تمامًا ما تكتب، لكنها تصرّ على أن ما تكتبه هو الحقيقة المطلقة.
حاولت أن أُخفف من حدة الموقف، فقلت له إن ذلك الحزب الذي أشار إليه لم يعد له أي وجود يُذكر، وإن الواقع اليوم محكوم بحزب البعث، المسيطر والوحيد. بدا وكأنني أقدّم له بديهيات يعرفها الجميع، لكنه استمع بإمعان ثم ابتسم ابتسامة غامضة، وكأن الأمر لا يتعلق بصدق قولي، بل بتسجيل اعترافي بطريقة ما.
أنهى الجلسة بعبارة مكرّرة اعتاد السوريون سماعها: "راجعينا بعد أسبوع." ثم أضاف توضيحًا بلهجة من يقدّم نصيحة، لا تهديداً: "الإجراء ضروري… في خلايا نائمة بتستأجر بيوت بدمشق، عم تستعد لشي كانوا يسمّوه ساعة الصفر".
إرهاب
كانت الجملة وحدها كفيلة بكشف المفارقة: نظام يبرّر إذلال مواطنيه بذريعة مواجهة "الخلايا النائمة"، بينما يفرض على كل فرد أن يبرّئ نفسه من الماضي قبل أن يسكن حاضرًا هشّاً. لم يكن الإيجار مجرّد عقد بين مالك ومستأجر، بل عبورًا قسرياً من بوابة الخوف، بوابة يتعيّن عليك أن تترك عندها جزءاً من كرامتك، وربما من ذاكرتك.
في تلك اللحظة أدركت أن الأزمة لم تكن في البحث عن سقف يحميني، بل في مواجهة بنية كاملة تُصرّ على أن تتحكّم في حياتك، حتى في أبسط تفاصيلها. البيت لم يعد مجرّد جدران، بل صار امتداداً لمراقبة الدولة، و"ساعة الصفر" لم تكن تهديداً غامضاً بقدر ما كانت ساعة يومية يعيشها السوريون في صمت، كلما وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التبرؤ من أنفسهم كي يستمروا في العيش.
احتلال دمشق
بعد خمسة عشر يوماً من الانتظار والذهاب والإياب، حصلت أخيراً على عقد الإيجار. لكن العقد لم يكن نهاية المطاف، بل بداية مراقبة مستمرة. إذ بات عليَّ أن "أُشهِر" هذا العقد شهرياً أمام دورية أمنية تأتي بحجّة "التفتيش الدوري" للتأكد من أحقيتي في السكن. لم يقتصر الأمر على التحقق من الأوراق، بل كان يشمل اقتحام المنزل وتفتيشه غرفةً غرفة، وكأن البيت المؤجر مشروع خلية نائمة ينبغي فضحها كل شهر من جديد.
كانت الذريعة جاهزة دوماً: "ضرورات أمنية" و"مخاطر الخلايا النائمة". لكن ما بدا لي أوضح هو أن هذه الذريعة لم تُستخدم فقط لاستباحة حياة الناس الخاصة، بل أيضاً لفتح باب جديد للاسترزاق، حيث تحوّلت الحملات الأمنية إلى وسيلة ضغط على المستأجرين والمالكين على السواء، تذكّرهم بأن بقاءهم في بيوتهم مشروط بالرضا الأمني قبل أي شيء آخر.
تستحضرني هنا صورة البيت الدمشقي القديم الذي سكنت فيه يوماً. بيت كبير تتقاطع في أروقته الحكايات، جمعني بخمس فتيات ورجل وحيد، كنا نعيش كعائلة واحدة رغم اختلافنا. ضحكنا كان يسبقنا كل مساء حين نطلق نكاتنا عليه بعبارة: "في بيتنا رجل!" في مشهد اعتادته دمشق لعقود طويلة.
كانت تلك البيوت الدمشقية القديمة صورة عن مجتمع يتشارك المكان بأريحية: غرف تؤجَّر لطلاب جامعات، موظفين، شابات يبحثن عن فرصة للعمل، وشبان غرباء جمعهم سقف واحد فأصبحوا "أهل بيت" ولو من دون قرابة. لم يكن أحد يفتّش في النوايا، ولم تكن الاستمارات الأمنية تسبق عقود الإيجار. كان البيت مكانًا للسكينة، وللتجارب الأولى في الاستقلال الشخصي، لا ساحة مواجهة مع رجل الأمن.
لكن دمشق التي عرفناها، ببيوتها المشرعة للضحكات والغرباء، تحوّلت في ظل القبضة الأمنية إلى مدينة أخرى: كل غرفة خاضعة للاشتباه، وكل عقد إيجار يحتاج ختمًا فوق ختم، وكل مستأجر مطالب بأن يبرّئ نفسه دوريًا أمام زائر بزي عسكري.
البيت الذي كان يوماً فضاءً للحياة المشتركة، صار شاهداً على كيفيّة تجيير السلطة للذريعة الأمنية من أجل السيطرة والابتزاز. ما بين "في بيتنا رجل" التي كانت نكتة يومية بريئة، و"في بيتنا دورية" التي صارت واقعاً شهرياً ثقيلاً، يمكن قياس التحوّل العميق الذي أصاب دمشق وحياة سكانها.
لم تكن المساكنة رغم قلتها ، قبل سنوات الحرب والقبضة الأمنية المحكمة، ظاهرة غريبة على دمشق. في كثير من البيوت المستقلة، كان شاب وفتاة يختاران أن يعيشا معاً تحت سقف واحد، بوصفه خياراً شخصياً يدخل في نطاق الحرية الفردية بغض النظر إن كنت معها او ضدها . كان الأمر يُعدّ جزءاً من تنوّع الحياة المدنية التي عرفتها العاصمة، بل إن بعض المالكين كانوا يعتبرونه مصدر رزق طبيعياً، تماماً كاستئجار الغرف للطلاب أو الموظفين.
لكن هذه الحرية سرعان ما تحوّلت إلى ساحة ابتزاز. إذ بات أي اكتشاف لمساكنة خلال حملة تفتيش أمني يُحوِّل ساكني البيت مباشرة إلى "قضية أخلاقية". لا يُفرج عنهما إلا بعد دفع مبلغ محدد مسبقاً، يُرفق عادة بمحاضرة وعظية تُلقى على الفتاة خصوصاً، مضافاً إليها تهديد صريح بإبلاغ عائلتها إذا تكرّر الأمر. هكذا تحوّل ما يفترض أنه شأن خاص بين بالغين راشدين إلى مصدر رزق جديد لعناصر الأمن، يضعون الأخلاق واجهةً بينما يمدّون أيديهم إلى جيوب الناس.
في خضم هذه الأجواء الخانقة، وجد بعض المحامين مدخلاً آخر للاستثمار في القمع ذاته. فقد انتشرت عقود زواج وهمية، مطبوعة ومختومة ومصدّقة شكلياً من المحاكم، يُستحضر فيها شهود مدفوعون مسبقاً، مقابل 300 دولار للعقد الواحد. بهذه الوثيقة المزوّرة، كان الشاب والفتاة يحصلان على "حصانة" مؤقتة من حملات التفتيش، وتذكرة عبور تمنحهم شيئاً من حرية شخصية كان ينبغي أن تكون بديهية من دون أوراق زائفة.
المفارقة القاسية أن هذه العقود الوهمية لم تكن تعبيراً عن رغبة في الالتفاف على القانون، بقدر ما كانت انعكاساً لحالة اختناق اجتماعي، جعل حتى أبسط خيارات الحياة اليومية مرهونة برضا الأجهزة الأمنية أو قدرتك على الدفع. لقد تحوّلت الحرية الشخصية إلى بند يُباع ويُشترى، والورق الرسمي إلى غطاء هشّ يحمي من مداهمة، لا أكثر.
ومثل كل أشكال الضغط المتراكمة، لم يكن لهذا الوضع أن يستمر من دون انفجار. إذ أسهمت هذه الممارسات ــ جنبًا إلى جنب مع سياسات القمع الأوسع ــ في زيادة الغضب المكبوت داخل العاصمة، قبل أن ينفجر مجدداً في وجه النظام البائد.
إعادة تدوير
في المفهوم العام، تُعرَّف الحرية الاجتماعية بأنها الوجه الأوسع للديمقراطية الكاملة: قدرة الأفراد والجماعات على التعبير عن ذواتهم والعيش كما يشاؤون، من دون وصاية أو ضغوط أو خوف من مساءلة غير مبررة. وتُعدّ من أعمق وأخطر أشكال الحريات، إذ تمسّ الحياة اليومية المباشرة، من طريقة اللباس إلى اختيار الشريك، ومن أماكن اللقاء إلى أبسط أشكال التفاعل الاجتماعي.
ورغم رحيل النظام السابق، ورغم الخطوات الجادة لتنقية القضاء من بعض مظاهر الفساد التي نخرت بنيته لعقود، فإن القيود الاجتماعية لم تُرفع بالكامل. فباسم "الأمن العام"، ظهرت عناصر بملابس مدنية يوقفون الشابات والشبان في الشوارع أو المطاعم، ويخضعونهم لتحقيق فوري حول طبيعة العلاقة التي تجمعهم. في المقابل، تسعى جهات أمنية أخرى إلى ضبط مثل هذه الحوادث الفردية، ومحاولة احتواء حالة الغضب لدى الشباب بعد تعرضهم لمثل هذه المواقف.
حادثة الشاب (ف.ع) ليست استثناءً، بل تُعدّ نموذجاً صارخاً. فقد أوقفه عناصر أمن أثناء وجوده برفقة صديقته، وحاول أن يوضح أنها رفيقة طفولته، إلا أن ذلك لم يمنع تعرضه لضربات موجعة أمام المارة، فيما كانت صرخات الفتاة تستغيث دون جدوى. حاول بعض المارة التدخل، لكنهم سرعان ما تراجعوا أمام القبضة الأمنية، ليُقتاد الشاب قبل أن يتدخل عنصر أمن آخر ويعيد له كرامته، مقدماً له اعتذاراً عمّا فعله زميله أمام الجميع.
لم يتوقف الأمر عند الملاحقات الفردية. ففي خطوة بدت رمزية لكنها كاشفة، تم طرد بعض الشباب من حديقة القشلة الشهيرة في دمشق، بعدما تحوّلت إلى مساحة يجلس فيها الشباب والفتيات معاً. قد يُنظر إلى هذه الجلسات على أنها ممارسات فردية، وربما "منفلتة"، لكنها في جوهرها كانت أشكالاً طبيعية للتلاقي الاجتماعي. غير أن الرسالة التي بعثها منع الجلوس من قبل بعض الجهات كانت واضحة: أي مساحة للحرية، حتى وإن كانت مجرد حجارة يجلس عليها الناس، ستُقتلع إذا لامست حدود "التحرر الاجتماعي" غير المرغوب فيه.
يتضح أن مرحلة ما بعد النظام لم تحمل انفراجاً اجتماعياً كاملاً، بل شهدت ممارسات منفلتة تُنفَّذ أحياناً بأدوات عنيفة ومباشرة. فالحرية الاجتماعية، التي يُفترض أن تكون صمّام أمان للمجتمع المدني، تُختزل اليوم في استجواب عابر أو في تفكيك حديقة كانت تحتضن لقاءات شبابية بسيطة.
وكما استُخدمت سابقاً عقود الزواج الوهمية للتحايل على حملات التفتيش داخل البيوت الدمشقية، عادت هذه الظاهرة إلى الواجهة بصيغة جديدة وأكثر علانية: وثائق جاهزة يُشهَر بها في الشوارع والمقاهي، لتتحوّل إلى وسيلة "شرعنة" مصطنعة للعلاقات أمام بعض دوريات الأمن وحواجز التفتيش.
مرة أخرى، وجد بعض المحامين في هذا الباب فرصة رزق مستمرة، إذ يصعب على أي سلطة، مهما اشتدت قبضتها، أن تغلق جميع منافذ الفساد. تُحرَّر العقود بالصيغة ذاتها، مع شهود وهميين وأختام شكلية، لكن هذه المرة بسعر أعلى وصل إلى 500 دولار، ثمن ورقة تمنح صاحبها شعوراً بالأمان أمام أي سؤال قد يتعرض له.
يروي الشاب "س.ز" لـ"المدن" تجربته مع هذه العقود، قائلاً: "كنت أعيش حالة قلق كلما خطرت ببالي فكرة الخروج مع صديقاتي، أو حتى رؤية حبيبتي. ذات مرة، أُوقف صديقي برفقة حبيبته على حاجز عند مدخل جرمانا، لتبدأ رحلة التحقيق حول طبيعة العلاقة بينهما"، قبل أن يُترك في حال سبيله بعد نحو نصف ساعة من الأخذ والرد، أنهتها أيضاً تدخل عنصر أمن آخر سمح لهما بالمغادرة.
ويضيف: "أخبرني أحد أصدقائي أنه تجاوز الموقف نفسه بعد أن استصدر عقد زواج وهمياً بمساعدة بعض معقبي المعاملات في القصر العدلي. لم يكن الحل مثالياً، لكنه على الأقل وفّر له حماية مؤقتة من التوقيف. وسرعان ما انسحب هذا "الحل" على كثير من الشباب في العاصمة، حتى صار العقد الوهمي أشبه بتذكرة مرور، أو بطاقة شخصية يُشهرها الشاب ليمضي في حال سبيله".
يروي "س.ز" أحد المواقف الطريفة والمؤلمة التي تعكس المفارقة بوضوح، قائلاً: "أوقفني عنصر صغير في السن وطلب رؤية العقد. أمسك الورقة بالمقلوب، وتظاهر بأنه يقرأها، ثم أومأ برأسه وأعادها لي بابتسامة باردة. تابعت طريقي وأنا أضحك في داخلي من المشهد، تماماً كما ضحكت يوماً حين طُلب مني شرح معنى الحزب الشيوعي لعنصر آخر لا يعرف عنه شيئاً".
حالات فردية
قد تبدو بعض الانتهاكات التي يشهدها الشارع الدمشقي اليوم حالات فردية معزولة، ينفذها عناصر منفلتة وجدوا أنفسهم فجأة في قلب العاصمة ذات التركيبة الاجتماعية المعقدة. إلا أن هذه الحالات، بتكرارها، لم تعد عابرة؛ بل باتت تؤسس لواقع فساد جديد، بأدوات وأسماء مختلفة، تحاول الحكومة جاهدة التخلص منه وسط انشغالها بإعادة ترتيب أوراق الدولة، ومعالجة الإرث الثقيل الذي خلّفه النظام السابق.
تعليقات: