مي حسين عبدالله
في خطابٍ يتكرر، يحاول البعض فصل السلاح عن العقيدة ليجعل الأول مجرد أداة ظرفية، فيما يذهب آخرون إلى أبعد، فيصورون العقيدة نفسها خطرًا يجب التخلص منه.
هذا السجال ليس بريئًا، ولا عابرًا، بل هو استهداف مباشر لهوية وذاكرة جماعة بكاملها.
لذلك جاء مقالي ردًا على هذه الادعاءات، وتفنيدًا لما وراءها من مغالطات.
..
منذ متى أصبحت العقيدة جريمة أو خطرًا؟
العقيدة في الإسلام الشيعي هي الإيمان العميق بالله الواحد العادل، وبالنبوة والإمامة كامتداد للرسالة، وبالمعاد حيث تُوزن الأعمال بالعدل والحق. وهي ليست مجرد أفكار لاهوتية جامدة، بل منظومة حياة تضع العدالة والكرامة في صميمها، وترى أن الإنسان مسؤول عن مقاومة الظلم والانتصار للحق. لذلك ارتبطت هذه العقيدة عبر التاريخ بالصبر حين يكون الصبر قوة، وبالمقاومة حين يُفرض القتال دفاعًا عن النفس والأرض والعرض، فغدت عقيدة تُعلّم أتباعها أن العدل قيمة، والحرية حق، والكرامة جوهر لا يُساوم عليه. (انظر: الشيخ الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية؛ الشيخ المفيد، أوائل المقالات؛ العلامة الحلي، الباب الحادي عشر).
يخرج علينا بعض الخطاب الإعلامي والسياسي ليدّعي أن العقيدة أخطر من السلاح، وأن مجرّد وجودها مشكلة. وفي المقابل، يطلّ آخرون ليؤكدوا أن السلاح ليس جزءًا من العقيدة، وأن الشيعة عبر التاريخ عاشوا بالصبر لا بالمقاومة. هكذا، تُستهدف العقيدة مرّة بالتحريض ومرة بالتشويه، وكأنها عبء يجب التخلّص منه، لا ركيزة بقاء وهوية.
من يزعم أن العقيدة خطر، يتجاهل أن السلاح الذي يهاجمونه ليس سوى ترجمة عملية لإيمان الناس بحقّهم في الدفاع عن أنفسهم. وإرادة تستمد قوتها من كربلاء: هيهات منا الذلة.
لقد أثبتت الوقائع أن السلاح، حين يستند إلى عقيدة، قادر على أن يحمي وطنًا بأسره. هو الذي حرّر الجنوب اللبناني من الاحتلال، وهو الذي وقف بوجه جحافل الإرهاب في العراق وسوريا، وهو الذي جعل القرى المسيحية والإسلامية معًا تنام مطمئنة. فهل يكون الخطر في عقيدة تحمي الناس، أم في خطاب يحرّض على أهلها؟
التاريخ لا يُزوَّر
هناك من يحاول أن يختزل تاريخ الشيعة في الصبر وحده، ليقول إن المقاومة طارئة وليست أصيلة. لكن الحقيقة أن تاريخهم جمع بين الصبر والثورة: من ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد بعد كربلاء (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج4؛ المسعودي، مروج الذهب، ج3)، وزيد بن علي في الكوفة (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج5؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2)، إلى ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني في العراق (الحسني، تاريخ ثورة العراق الكبرى؛ الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج5)، وصولًا إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان (بيضون، الجنوب اللبناني: من الاحتلال إلى التحرير؛ فضل الله، المقاومة والتحرير في لبنان).
أيها السادة، إن الفقه الشيعي لم يُحرّم المقاومة يومًا، بل أقرّها وجعلها مشروعة كلما هُدِّد الوجود واستُبيحت الأرض والعرض. فحين يخرج من يقول إن السلاح مجرّد أداة ظرفية لا علاقة لها بالعقيدة، فهو لا يجهل التاريخ فحسب، بل يتعمّد طمسه وتزويره. ألا يدرك هؤلاء أنهم بذلك يتجاهلون دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن الأرض والعرض؟ إن الهدف من هذه المحاولات واضح: سلخ السلاح عن جذوره العقائدية حتى يُختزل في معادلات سياسية ضيقة، ويُنزَع عنه بُعده الأخلاقي والإنساني. ولكن هيهات، فالمقاومة في فكرنا ليست نزوة عابرة، بل امتداد لعقيدة راسخة تعلّمنا أن الحق لا يُصان إلا بالتضحية.
العقيدة التي يُهاجمونها لم تُبنَ على الكراهية ولا على الاستعلاء، بل على العدل والكرامة ورفض الظلم. هي عقيدة الإمام الحسين (عليه السلام) الذي علّم العالم أن الدم قد يُراق، لكن الكرامة لا تُهان. وهي العقيدة التي جعلت أبناء الجنوب يحرسون بيوتهم لا بمدافع مستوردة، بل بوعي متجذّر بأن الأرض عرض وأن التخلي عنها خيانة.
العقيدة هوية ترهبهم لأنها تُحوِّل كل بيت إلى قلعة، وكل شهيد إلى مدرسة، وكل جرح إلى راية.
وللمختبئين وراء ستار الدولة، العقيدة لم تكن يومًا نقيضًا للدولة، بل هي الضمانة التي صانت أبناء الوطن في غيابها، وهي نفسها التي تفسح المجال للدولة العادلة متى قامت لتحمل مسؤوليتها في حماية الجميع.
ختام القول، السلاح قد يصدأ إن تُرك، وقد يُسلَّم إن وُجدت دولة عادلة تحمي الجميع، لكن العقيدة لا تصدأ ولا تُسلَّم. من يهاجمها يفضح خوفه منها، وافتقاره لعقيدة تقابلها.
إن أخطر ما في هذا الزمن ليس العقيدة، بل الجهل الذي يريد إطفاء نورها. والعقيدة التي يخشونها اليوم ستبقى غدًا دليل حياة، لا سلاح موت.
أكتب هذه الكلمات بانحياز صريح إلى عقيدتي، التي منحتني ومنحت أصحابها القدرة على البقاء وصون الكرامة، رغم كل ما يحيط بنا من ظلم واستهداف. نعم، الأثمان كبيرة، لكنها بحجم هذا الدين، وبعمق هذه العقيدة.
#العقيدة_التي_يخشونها
#مي_حسين_عبدالله
#كربلاء
#ثورة_العشرين
تعليقات: