جانب من منطقة الريفييرا
آلاف العائلات في الجناح وحرج القتيل والرمل العالي تأمل في تنفيذه...
المشروع المهمل منذ أكثر من عقد يبعث من جديد والتعويل على التمويل العربي...
منذ العام 1996 وضع مشروع "إليسار" في الأدراج ولا يزال لان تكلفته تفوق المليار دولار، اكثر من عقد من الزمن مر ، ولا احد يعلم اذا كان المشروع سيسلك طريقه الى التنفيذ. والى ذلك الحين يبقى مصير آلاف العائلات في مناطق الجناح والرمل العالي وحرج القتيل معلقا. وليس في امكان هؤلاء سوى الإنتظار الى امد غير معلوم. لكن اعادة فتح ملف "إليسار" قبل اسابيع بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب سعد الحريري ومن ثم اثارة تمويل هذا المشروع في الكويت وقطر خلال جولة بري الأخيرة اعادتا الأمل لهذه العائلات بحل قد يكون قريبا.
عندما يعلو موج البحر، تعلو الوسادة من تحت رأس ام محمد في ما يسمى منزلها في منطقة الجناح، وتحديداً في "السان سيمون". ام محمد واحدة من آلاف المواطنين الذين ارغموا على السكن هنا، وهنا منطقة لا تعرف النوم في فصل الشتاء. فاليقظة مرادفة لإستمرار الحياة، لأن المنازل والغرف المبنية على الأملاك العامة تلاصق مياه البحر. والأخير لا يعرف الهدوء في فصل الشتاء. فتغزو امواجه هذه المنازل، وليس امام اصحاب هذه المنازل الا الإنتظار.. انتظار حل آت، بعد طول انتظار.
بداية الإنتظار بدأت منذ العام 1975. عامذاك بدأت طلائع المهجرين بالتوافد الى منطقة الجناح، هرباً من تداعيات حرب الأخوة. ثم كرت السبحة الى ان اضحت المنطقة تجمعاً سكنياً تحكمه الفوضى ويحاصره البؤس والحرمان.
بدأت تباشير الأمل لأهالي الجناح تغزو المنطقة بعد منتصف التسعينات مع دخول مصطلح جديد الى حياتهم. فكان مشروع "إليسار" الذي اقرته الحكومة عام 1996.
في منطقة الجناح تتكدّس مئات العائلات اللبنانية من الطائفتين الشيعية والسنية. بعضها لجأ الى المنطقة هرباً من الحروب الداخلية، والآخر اضطر الى الإقامة فيها بعد الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للجنوب اللبناني.
اهالي النبعة والمسلخ والكرنتينا وتل الزعتر كانوا اول الواصلين الى المنطقة في العام 1975. هؤلاء هربوا من الذبح على الهوية خلال الحرب اللبنانية واقاموا في الجناح، حيث كانت المنطقة عبارة عن شاليهات تعرف بأسماء "السان ميشال"، و"السان سيمون"، و"الريفييرا"، و"الأوكابولكو". وهناك فندق كان قبل ثلاثة عقود من اهم الفنادق على الشاطئ اللبناني وهو "السندس بتش" او ما يسمى اليوم "بالسنس". وبحسب بعض المقيمين فان مالكيه من عائلة سياسية بيروتية عريقة.
في "الريفييرا" ذات الغالبية الجنوبية يقيم ابو سمير الذي هجر من بلدته بليدا (مرجعيون) في العام 1978.
هنا كبرت عائلته، ومن ثم فضّل اولاده السفر الى المانيا أسوة بالسواد الأعظم من اللبنانيين الذين هاجروا ولا يزالون بحثاً عن مورد رزق لهم.
اعتاد ابو سمير على نمط الحياة في منطقة لا تعرف الهدوء بسبب الاكتظاظ السكاني والنهوض العمراني، اضافة الى اجتياحات البحر المتكررة لأشباه المنازل فيها.
مشاريع بتمويل إيراني وكويتي
في العام الحالي ساهمت "الهيئة الإيرانية لإعادة اعمار لبنان" في تعبيد بعض الطرقات في الجناح. وتنفذ "شركة الجنوب للإعمار" مشاريع للبنى التحتية على الأوتوستراد الممتد من الماريوت الى السلطان ابرهيم، اضافة الى مشاريع ممولة من دولة الكويت. لكن التحسينات في المنطقة تقتصر على الأوتوستراد الذي توقف العمل به منذ العام 1996 بعدما ازيلت بعض المباني الملاصقة له ودفعت التعويضات لأصحابها وكانت "دسمة" جداً بحسب تعبير محمد طراف. فصاحب احد المطاعم قبض 460 الف دولار، وجاره الذي كان يدير محلاً لبيع السيجار والتنباك قبض ما يزيد على المليون دولار.
لكن هذه التعويضات لم يستفد منها الا قلة من الأهالي، وبالطبع كان هؤلاء من المحسوبين على المرجعيات السياسية اللبنانية.
على الرصيف العريض ينهمك ابو حسين بجلخ قضبان من الحديد. هنا يمارس مهنة الحدادة. لا محل عنده او بناء مسقوف. ورشة الحدادة على قارعة الطريق، بالقرب من منزله المتواضع المؤلف من غرفتين ومطبخ وحمام لا تزيد مساحته على 18 متراً مربعاً، وتعيش فيه عائلة من 6 اشخاص.
لجأت هذه العائلة الى منطقة الجناح منذ 25 عاماً. ولا تزال صامدة هنا. يصف ابو حسين حال المنطقة بالمنكوبة. التقنين من سمات الحياة. والحياة المالحة رفيقة الجميع. والبحر بغضبه يشرّد الأهالي. وباختصار "حارة كل من ايدو الو".
إمبراطورية الفوضى المنظمة
لا يشعر خالد م. (31 عاماً) ان الدولة موجودة. فهي غائبة عن المنطقة الممتدة من حدود فندق "الكورال بيتش" حتى مرفأ الأوزاعي. "فقط نرى جابي الكهرباء. واحياناً دوريات لمخفر الأوزاعي. هؤلاء يحضرون لهدم خيمة او ازالة بعض الألواح الخشبية. اما من يبني المحال والغرف بشكل دائم فلا سؤال ولا كلام معه". ويضيف: "لا اعرف كيف يمكن قوى الأمن الداخلي ان تهدم خيمة صغيرة غير مثبتة بالإسمنت وتغض الطرف عن عشرة محال بنيت خلال اول الأسبوع في اول الأوزاعي. غريب امر هذه الدولة. قوية على الضعيف وضعيفة امام القوي والمدعوم".
ربما في كلام خالد شيء من الواقع في منطقة "ملوثة" بالمحسوبيات السياسية، التي تجلت في ابشع صورها خلال الاخلاءات المحدودة في العام 1996. عامذاك قبض اقل من عشرة اشخاص ما يزيد على 5 ملايين دولار اميركي عداً ونقداً.
ومن جهة ثانية لا يزال البناء غير المشروع يتواصل على قدم وساق في الاوزاعي والجناح وحرج القتيل ...الخ، والغريب ان القوى الامنية لا تحرك ساكناً في الوقت الذي يهمس فيه بعض الاهالي ان الرشى تدفع لغض الطرف عن مخالفة القانون.
ويذكر ان مسحاً جوياً للمنطقة اجري في العام 1996، وبالتالي فان كل المنازل التي بنيت على ارض الغير وعلى الاملاك العامة بعد هذا العام لا يمكن ان تشملها عملية دفع التعويضات.
"إليسار": مشروع مؤجل معجل
تعود فكرة مشروع "إليسار" الى اولى حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 1992. عامذاك طرحت افكار عن كيفية تنظيم المدخل الجنوبي لبيروت وبعد نقاشات مستفيضة قرر مجلس الوزراء انشاء مؤسسة "إليسار" وظهرت المؤسسة الى الوجود كمؤسسة عامة، من مهماتها استملاك مؤقت لبعض العقارات التي تقع ضمن الغبيري وبرج البراجنة والمزرعة، والعمل على بناء مساكن بديلة للقاطنين في المنطقة الممتدة من المطار الى الجناح مروراً بالرمل العالي وحرج القتيل.
وفي ادراج "إليسار" مخطط توجيهي كامل يتضمن انشاء حدائق عامة وممرات واتوسترادات واعادة تأهيل البنى التحتية. وليس في بنود مرسوم انشاء "إليسار" اي بند يشير الى دفع التعويضات للاهالي المقيمين على الاملاك العامة والخاصة في الجناح والاوزاعي والرمل العالي... الخ، لكن مقتضيات السياسة اللبنانية، والدوافع الانتخابية، قضت بتمرير بعض التعويضات للمحسوبين. وبعد التحرير في العام 2000 طرح الحريري مشروعاً جديداً يرتكز على استبدال "إليسار" بقرض كويتي قيمته 150 مليون دولار اميركي يخصص منه 120 مليون دولار لاعادة تأهيل البنى التحتية وترتيب المنطقة بشكل يجعلها صالحة للتنمية الذاتية، على ان يترافق ذلك مع بناء جسر للمنطقة وتوسيع الطرقات فيها.
الجسر الطائر
في العام 2002 بدأت شركة بتنفيذ الاعمال لبناء الجسر، لكن الاهالي اعترضوا بشدة ومنعوها من مواصلة عملها وتوقف المشروع وصرف النظر عن الجسر، ومعه دخل مشروع "إليسار" في سبات عميق.
وفي منتصف العام 2006 عاد مشروع "إليسار" الى طاولة المفاوضات بطلب من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، الذي اقترح تحويل "إليسار" من مؤسسة عامة الى شركة عقارية، وهي صيغة ستغير في جوهر المشروع من الخرائط الى الجهات الممولة الى طريقة التعامل مع القاطنين.
لم تكن الشركة العقارية اقتراحاً للرئيس السنيورة. فقد سبق للرئيس الحريري ، ان اعاد اقتراح الشركة في ايار 2004 من خلال ارساله، بوصفه ممثلاً لسلطة الوصاية على المشروع، اقتراحات الى مجلس ادارة "إليسار" لتعديله، بعدما اوكل التعديل الى "دار الهندسة". وعقد اعضاء مجلس ادارة "إليسار" في حينها زهاء 8 جلسات ناقشوا خلالها الاقتراحات بالتفصيل، وتوقف النقاش في ايلول من العام نفسه بعد اعتراض "حزب الله" على التعديلات المقترحة.
وقد تبين من خلال الإطلاع على الخرائط التي اعدتها "دار الهندسة" انه لم يعد لجسر الأوزاعي من وجود. كما تم إلغاء المجمعات السكنية في المرامل وحرج القتيل وصبرا وشاتيلا وقرب نادي الغولف، وهي تشكل بديلاً للمساكن في الجناح والأوزاعي والمرامل وحرج القتيل وصبرا، وبلغ عددها 140 الف مسكن بموجب الإحصاءات التي قامت بها "إليسار"، اضافة الى إلغاء اربعة مراكز تعليمية ومراكز حرفية ومجمعين استهلاكيين في حي المرامل وحرج القتيل. وجرى استبدال المرفأ الشعبي في منطقة المدور بمرفأ بحري للصيادين، مع تصغير المساحة التي كانت مخصصة للمسبح. ويترتب على تلك التعديلات اجراء عمليات ضم وفرز جديدة للأراضي بعد الغاء التجمعات السكنية، بالإضافة الى اعادة تنظيم العلاقة بين المالكين والقاطنين.
حاجة ملحة
يرى احد المهندسين المتابعين للمشروع منذ بدايته "ان الأسباب التي ادت الى انشاء "إليسار" بصيغتها الحالية لم تنتف ابداً، بل ازدادت اهمية بعد طفرة الفوضى العمرانية التي شهدتها مناطق الجناح، وحرج القتيل والأوزاعي في العامين الأخيرين". ويعدد بعض هذه الأسباب واهمها ان مؤسسة "إليسار" لا تزال مطلباً اجتماعياً- انمائياً على مستوى بيروت وضواحيها.
ولعل الاشكال الذي ادى الى صدام بين الأهالي ونواب من تيار المستقبل في العام 2002 كان الشعرة التي قصمت ظهر مشروع "إليسار" في منطقة الأوزاعي خصوصا انه جاء بعد جدل حول وضع حجر الأساس للجسر الطائر، الذي كان ينوي المجلس اقامته في خطوة اعتبرها الأهالي استفزازية، لأن الجسر سيحرم اصحاب المحال التجارية مورد رزقهم، وكذلك طي صفحة التعويضات. وبعد مشادة عنيفة عدل المجلس عن المشروع وتسارعت الحوادث وطوي الملف.
مواجهات متكررة
جذبت منطقة الضاحية الجنوبية الغربية في البدء رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون، وذلك عام 1954 ، فسمح لآل سلام باستثمار ملعب الغولف لمدة 99 سنة، مع كل من: هنري فرعون وفادي فرعون ورانيا حداد واشخاص آخرين، فما كان من بعض السياسيين المعارضين ممن لم يستفيدوا من هذه القسمة، الا ان اوعزوا خفية الى المهاجرين من الريف الى بيروت ليحطوا رحالهم في هذه المنطقة، من دون تفريق بين مشاع وارض مملوكة. وقد تأمن لهذه الحركة نوع من الغطاء السياسي لكي تستمر وتقف عائقاً امام تقاسم الأرض بين كبار رجال الدولة آنذاك.
وهكذا مرت عملية الإستيطان بين مد وجزر تبعاً لضعف السلطة وغيابها او لقوتها وحضورها. ففي غياب من يفرض القانون كان الناس يأتون باستمرار: كل يرسم حدوده بما يراه مناسباً، ثم يقوم بانشاء ما هو ضروري لمرحلة الإستقرار الأولي، ومن ثم يتحين الفرص لتوسيع املاكه، وعندما يشتد ساعد السلطة كانت ترسل جرافاتها لهدم المنازل التي تعتبرها غير شرعية، ما فتح باب التوتر بين السلطة والسكان ، الأمر الذي تحول في حقب عدة صدامات بين الطرفين.
ففي العام 1962 حاول وزير الأشغال العامة آنذاك بيار الجميل ان يزيل المنازل بواسطة الجرافات من دون النظر الى قاطنيها الذين كانوا اصبحوا 650 عائلة، لكن الأهالي المعترضين نجحوا في صد المحاولة.
وعام 1982 اعاد رئيس الجمهورية الأسبق امين الجميل الكرة، لكن المنطقة اصبحت اكثر كثافة سكانية نتيجة ارتفاع وتيرة الهجرة اليها بسبب الحرب الأهلية. فقد تجاوز عدد منازل منطقة الأوزاعي لوحدها الألفي منزل، وكذلك الأمر في منطقتي بئر حسن والجناح. وعليه، فقد اصبحت المواجهة بين السلطة والسكان قاسية، وسقط نتيجتها ستة شهداء اثناء التصدي لمحاولات الجرافات هدم مسجد الرسول الأعظم، لتتوقف الأمور بعدها عند هذا الحد.
اما المحاولة التالية، فقد جاءت بعد عشر سنوات من المحاولة الأخيرة. ففي العام 1992 كان لبنان دخل مرحلة السلم الأهلي، وحكام الجمهورية الثانية اعطوا هذه المنطقة اهمية تفوق تلك التي كانت عند اسلافهم، انما الوسيلة جاءت مختلفة هذه المرة. فطرح مشروع شركة عقارية على غرار شركة "سوليدير" فتم رفضه، الى ان جرى الإتفاق على انشاء مؤسسة "إليسار".
منازل في عمق البحر
تعليقات: