بعد نشر مقال العقيدة التي يخشونها أمس، وصلتني تعليقات وآراء قيّمة من قراء ومثقفين، بينهم من تمنّى أن أتوسع أكثر في الفقرات المتصلة بالدولة الحديثة وعلاقتها بالعقيدة.
وبينما تتكرر مشاهد الانسحاب من مجلس الوزراء بحجة أن 'ما بُني على باطل هو باطل'، يبقى السؤال الأعمق: هل يمكن للعقيدة أن تلغي المواطنة، أو للمواطنة أن تتجاهل العقيدة؟ هذا ما حاولت مقاربته في هذا المقال…"
اليوم، أضع بين أيديكم مقالي الجديد العقيدة والدولة والمواطنة، محاولة لقراءة أعمق للعلاقة بين العقيدة كمكوّن أصيل، والدولة كإطار جامع
عنوان المقال: العقيدة والدولة والمواطنة
بقلم: مي حسين عبدالله
في لبنان، يتكرر الخطاب الذي يضع العقيدة في مواجهة الدولة، وكأنهما خصمان لا يلتقيان. لكن الحقيقة أن العقيدة لم تكن يومًا نقيضًا للدولة، بل حملت في جوهرها قيم العدل والكرامة التي تُعد أساس أي سلطة شرعية. غير أن ما نعيشه اليوم هو تصادم ظرفي، تفرضه دولة مأزومة، مرتهنة، عاجزة عن أن تكون حامية لجميع مواطنيها، مقابل عقيدة تحوّلت إلى ضمانة بقاء في وجه الهيمنة الخارجية والمشروع الأميركي–الإسرائيلي.
الالتقاء بين العقيدة والدولة
في نقاط كثيرة، يلتقي المساران:
- *العدل* أصل ديني عند الشيعة، وهو كذلك أساس الحكم في أي دولة عادلة.
- *الكرامة الإنسانية* قيمة مركزية في العقيدة، وهي جوهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدساتير الحديثة.
- *رفض الظلم* شعار العقيدة منذ كربلاء، وهو أيضًا مبدأ السيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
- *حماية المجتمع* واجب الدولة عبر جيشها وقوانينها، وواجب العقيدة عبر المقاومة والتضحية.
هنا، تتضح المشتركات: عقيدة تزرع المعنى، ودولة توفر الحماية، والمواطنة هي الرابط الذي يجمع الفرد بالجماعة.
الاختلافات ومكامن التصادم
لكن الخلاف يظهر عند التفاصيل:
- مصدر الشرعية: العقيدة تستمدها من الله ومنهج العدل الذي أرساه أهل البيت (ع)، بينما الدولة الحديثة تجعلها من الشعب عبر الدستور.
- احتكار السلاح: الدولة ترى أن العنف الشرعي حقها وحدها، بينما العقيدة تجيز الدفاع حين تغيب الدولة أو تعجز.
- الهوية: الدولة تسعى لهوية وطنية جامعة، بينما العقيدة تُبقي على الهوية المذهبية كجزء أصيل من الانتماء.
هذا التباين لا يُلغي المشتركات، لكنه يفسر سبب التصادم في واقع هشّ ومعقد كلبنان.
توصيف حال الدولة اللبنانية
لم تكن المشكلة يومًا في الفراغ الدستوري وحده، فها هي السلطة مكتملة: رئيس للجمهورية، رئيس للحكومة، ورئيس لمجلس النواب، ومع ذلك لم تتبدّل الحال. من جهة، إسرائيل تستبيح الجنوب والبقاع بلا رادع: غارات واغتيالات موثّقة من الضاحية إلى قلب العاصمة، وخروقات جوية يومية غير آبهة بأي اتفاق أو إعلان وقف إطلاق النار. ومن جهة أخرى، تأتي الاستباحة المعنوية للسيادة من الإدارة الأميركية عبر مبعوثيها: فـ *مورغان أورتاغوس* حضرت إلى القصر الجمهوري متقلّدة *نجمة داوود، الرمز الصريح للدولة العدوة، وأشادت بإسرائيل التي قضت على حزب الله الذي هو مكون لبناني وازن ذات عقيدة إسلامية شيعية يعتز بها، كما استخفت بزعيم سياسي كبير و وازن بعبارات رخيصة لا تليق بلغة الدبلوماسية. ثم جاء **توماس براك، صديق ترامب المقرّب، لينقض الوعود ويهين الصحافيين من بلاط القصر نفسه، مؤكّدًا في اليوم التالي أن ما قاله لم يكن زلّة لسان بل موقفًا مقصودًا. وما يزيد الطين بلة أن الحكومة نفسها، بدل أن تدافع عن سيادتها، آثرت الصمت أمام كل هذه الاعتداءات، بل ذهبت أبعد حين أفرجت عن عميل محكوم بخمس عشرة سنة بجرم العمالة، وهو المسؤول المباشر عن **تفجير “البيجر”* الذي أودى بحياة العشرات وتسبّب بإعاقات دائمة لكثيرين، لتسلّمه من دون قيد أو شرط إلى الكيان الإسرائيلي. هذه الوقائع مجتمعة تبرهن أن اكتمال السلطة لم يغيّر شيئًا:
مواقف الدولة وصمتها أمام هذه الاعتداءات دفعت المواطنين إلى الشعور بأنها خاضعة لضغوط أو تدخلات خارجية، بدل أن تكون معبّرة عن إرادة سيادية مستقلة،
وعاجزة عن صون سيادتها أو حماية شعبها، ولا فرق إن كانت الكراسي مشغولة أو فارغة، فالمشكلة أعمق من الأشخاص، وهي في بنية سياسية–اقتصادية مكبّلة بالخارج تمنع الدولة من أن تكون فعلًا دولة سيادة.
من المسؤول عن غياب الدولة؟
سيقول بعضهم إن العقيدة هي التي منعت الدولة من النهوض، وإن السلاح خارج الشرعية يسقط المواطنة. لكن هذا الخطاب المكرر يتهاوى أمام الوقائع: فالدولة المكتملة السلطات هي التي سلّمت عميلًا قاتلًا للعدو من دون قيد أو شرط، وصمتت أمام اغتيالات واعتداءات يومية، فيما العقيدة وحدها منعت سقوط القرى والناس. فأي مواطنة هذه التي لا تحمي دمًا ولا تصون كرامة؟
إن المواطنة الحقيقية ليست نصًا جامدًا في الدستور، بل قدرة الدولة على حماية شعبها بعدل ومساواة. وطالما أن أصحاب العقيدة هم مكوّن لبناني معتبر وراسخ، فإن التفكير في عزلهم عن مشروع الدولة ليس فقط وهمًا، بل مغالطة للواقع وخيانة لفكرة المواطنة نفسها. الدولة العادلة لا تقوم بإقصاء مكوّنات شعبها، بل بإيجاد حلول جامعة تجعل الجميع شركاء في السيادة. وكل من يتصور أن لبنان يمكن أن يُبنى باستبعاد هذا المكوّن، إنما يغالط نفسه أولًا ويغالط الواقع، ويصبح هو العثرة الحقيقية أمام قيام الدولة.
إن ما أريد التأكيد عليه هنا هو أن العقيدة لا تلغي المواطنة ولا تتعارض معها. فالمواطنة هي الإطار الذي يحفظ المساواة بين الجميع، والعقيدة هي البعد الذي يمنح الإنسان المعنى والكرامة. وأصحاب العقيدة يمكن أن يكونوا مواطنين صالحين ومخلصين في ظل دولة عادلة وسيدة، تشعرهم بالحماية والأمان والعدل. أما من يتصور أن بإمكانه بناء دولة عبر تجاهل مكوّن لبناني كامل بسبب عقيدته، فإنه لا يخدم مشروع الدولة بل يفتح الباب للتصادم والانقسام
#الحل يكمن في الإتجاه نحو رؤية جامعة
الحل لا يكون بإلغاء العقيدة ولا بإلغاء الدولة، بل بخلق صيغة تكامل:
- الدولة تمارس السيادة وتبني المؤسسات على العدالة والمساواة.
- العقيدة تبقى ضمانة أخلاقية ومعنوية تذكّر الدولة بواجباتها، وتنهض ساعة العجز.
في الظروف الطبيعية، الدولة تحتكر العنف الشرعي. أما في الظروف الاستثنائية، تصبح العقيدة هي التي تسدّ الفراغ وتحمي الوطن حتى تستعيد الدولة عافيتها.
ختاما، إن العقيدة ليست عائقًا أمام الدولة، بل شريكًا لها متى كانت الدولة عادلة وسيدة. والواقع أن من يمنع قيام الدولة في لبنان ليس العقيدة ولا جمهورها، بل المشروع الخارجي الذي يفرض الوصاية ويزرع الانقسام. لذلك، فإن الطريق إلى دولة قوية لا يمرّ عبر مهاجمة العقيدة أو عزل أصحابها، بل عبر تحرير الدولة من الارتهان والبحث عن المشتركات.
هذه المشتركات واضحة وبسيطة:
العدل، الكرامة، حماية المجتمع، ورفض الظلم.
وهي ما يلتقي عليه اللبنانيون جميعًا، وما يمكن أن يكون أساس العقد الاجتماعي الجديد.
قيم تتقاطع فيها العقيدة مع الدولة، ولا تخص طائفة واحدة أو حزبًا واحدًا، بل يمكن أن تلتقي حولها مختلف المعتقدات والانتماءات. وعلى الدولة أن تسعى إلى فهم هذه المشتركات والاعتراف بها، لا إلى فرض نموذج واحد أو إلغاء التعدد.
فالعقائد لا تُمحى ولا تُفرَض، إنما تُعاش في وجدان الناس. وما يضمن العيش المشترك وقيام الدولة هو التركيز على ما هو مشترك، والبناء عليه لصياغة مواطنة جامعة، حيث يشعر كل مواطن أن كرامته مصانة بالقانون، وأن انتماءه لا يتناقض مع الدولة بل يعزّزها.
ولعل التحدي الأكبر هو تحويل هذه القيم المشتركة من مبادئ أخلاقية إلى عقد اجتماعي ملزم، تُترجم في الدستور والقوانين، بحيث تصبح العدل والكرامة وحماية المجتمع ورفض الظلم ثوابت وطنية فوق الانقسامات، وضمانة لقيام دولة عادلة سيدة تستوعب الجميع.
فالعقيدة ليست عائقًا أمام الدولة متى التقتا على قيم العدل والكرامة… لكن على حاملي العقيدة أنفسهم أن يسعوا دائمًا لردم الفجوة بين الفكر والممارسة، حتى تبقى العقيدة مصدر قوة أخلاقية أرفع من الانتقاد
المراجع
جميع الوقائع والأحداث الواردة في هذا المقال موثقة في تقارير إخبارية منشورة بين عامي 2024–2025، منها ما ورد في وكالات عالمية مثل رويترز ووكالة أسوشيتد برس، وفي وسائل إعلام عربية ولبنانية من بينها الجزيرة، والأخبار، والـLBC، وغيرها.
-جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، 1762 (النص الكلاسيكي المؤسس لمفهوم العقد الاجتماعي، متوفر بصيغة PDF على الإنترنت
تعليقات: