إسبانيا تقود معركة عزل إسرائيل: الإبادة لم تَعُد بلا ثمن

متظاهرة تحمل لافتة كُتب عليها «التضامن ليس جريمة، قتل الأطفال هو الجريمة» خلال تظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية في مدريد (أ ف ب)
متظاهرة تحمل لافتة كُتب عليها «التضامن ليس جريمة، قتل الأطفال هو الجريمة» خلال تظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية في مدريد (أ ف ب)


بتبنّيها سياسة المواجهة الشاملة، وضعت حكومة بيدرو سانشيز، إسبانيا في طليعة تيّار أوروبي متعاظم يسعى إلى فرض عزلة متعدّدة الأوجه على الكيان.

لم يكد أسبوع واحد يمرّ على فرْض مدريد حزمة عقوبات غير مسبوقة على تل أبيب، حتى تحوّلت الأزمة بين المملكة والكيان، من خطاب سياسي إلى اشتباك دبلوماسي حادّ، وصل إلى حدّ تبادل الإهانات الشخصية بين كبار مسؤولي الجانبَين. واستدعت وزارة الخارجية الإسبانية، أمس، القائم بالأعمال الإسرائيلي في مدريد، للاحتجاج رسميّاً على وصْف وزير خارجية الاحتلال، جدعون ساعر، رئيسَ الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بأنه «معادٍ للسامية، وكاذب».

هذا التصعيد الحادّ، الذي يتجاوز كل الأعراف الدبلوماسية المعهودة، يأتي في خضمّ حَراك إسباني متسارع، يسعى إلى نقل المواجهة مع إسرائيل من أروقة السياسة، إلى الساحات الرياضية والثقافية العالمية؛ حيث تقود مدريد حملةً نشطة لحظر تل أبيب في المنافسات الدولية، بدءاً من مسابقة «يوروفيجن» الغنائية، وصولاً إلى جميع المحافل الرياضية الدولية. وتستند إسبانيا في ذلك إلى دعم شعبي وسياسي أوروبي متزايد، ولا سيما بعد صدور تقارير خبراء ومقرّرين خاصّين في الأمم المتحدة، أكّدوا أن ما يجري في غزة حرب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين.

وسُجّلت ذروة الانهيار في العلاقات، بعيد تغريدة نشرها ساعر، أول من أمس، جاء فيها: «سانشيز وحكومته (الشيوعية) معادون للسامية وأعداء للحقيقة». ولم يكن هذا الهجوم الشخصي المباشر الأول من نوعه، فقد سبق للوزير الإسرائيلي أن اعتبر رئيس الوزراء الإسباني «وصمة عار»، وحمّله مسؤولية إثارة الاحتجاجات التي أدّت إلى إلغاء المرحلة النهائية من سباق «فويلتا إسبانيا» للدرّاجات الهوائية. لكنّ الردّ الإسباني جاء حازماً وفوريّاً، إذ أعلن وزير الخارجية، خوسيه مانويل ألباريس، استدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي، دانا إيرليخ، للتعبير عن رفض مدريد القاطع لـ»الكلمات والمواقف غير المقبولة» الصادرة عن نظيره الإسرائيلي.

وتؤكد هذه الخطوة، التي تلي استدعاء مدريد لسفيرتها من تل أبيب، الأسبوع الماضي، أن العلاقات بين الجانبين دخلت مرحلة القطيعة الفعلية، ولم يَعُد هناك مجال للحوار البنّاء. وكان دعا سانشيز إلى استبعاد إسرائيل من جميع المنافسات الرياضية الدولية، «حتى تنتهي وحشيتها». وتساءل أمام منسوبي حزبه الاشتراكي: «لماذا طُردت روسيا بعد غزو أوكرانيا ولم تُطرد إسرائيل بعد غزو غزة؟»، معتبراً أنه لا يمكن تل أبيب «الاستمرار في استخدام أيّ منصّة دولية لتبييض صورتها».

ولم تَعُد المواجهة محصورة في إطارها السياسي والدبلوماسي، بل امتدّت لتشمل الميادين التي يُفترض أنها بعيدة عن الصراع، فيما غدت إسبانيا رأس الحربة في تيار أوروبيّ يهدف إلى استخدام «القوّة الناعمة» للثقافة والرياضة، كأدوات ضغط فعّالة لوقف الإبادة. وشكّلت الأحداث التي وقعت، الأحد الماضي، نقطة تحوّل، بعدما أُجبر منظّمو أحد أعرق سباقات الدرّاجات الهوائية في العالم على إلغاء مرحلته النهائية في مدريد، عندما أغرق أكثر من 100 ألف متظاهر مؤيّد لفلسطين مسار السباق، مستهدفين فريق «إسرائيل-بريمير تك». وأشاد سانشيز بالمتظاهرين، قائلاً: «إسبانيا اليوم تتألّق كمثال ومصدر فخر... في الدفاع عن حقوق الإنسان»، وهي تصريحات اعتبرتها إسرائيل تحريضاً مباشراً.

لم تَعُد المواجهة محصورة في إطارها السياسية والدبلوماسي، بل امتدّت لتشمل كلّ الميادين

وتلا ذلك، الثلاثاء، تصويت مجلس إدارة «هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسبانية» (RTVE) لصالح مقاطعة مسابقة «يوروفيجن» للأغاني لعام 2026، في حال مشاركة إسرائيل فيها. وبذلك، تكون إسبانيا الدولة الخامسة التي تهدّد بالانسحاب من المسابقة، بعد هولندا وإيرلندا وسلوفينيا وأيسلندا، علماً أنها أول دولة من مجموعة «الخمسة الكبار» (إلى جانب بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا)، المموّلين الرئيسيين لـ»يوروفيجن»، تتّخذ هكذا إجراء، ما من شأنه أن يسلّط ضغطاً ماليّاً وسياسيّاً هائلاً على «اتحاد البث الأوروبي» (EBU).

وبدأت خطوات مدريد لمعاقبة تل أبيب تُترجم إلى إجراءات اقتصادية وعسكرية ملموسة. فبعد أيام من إعلان سانشيز تحويل الحظر الفعلي المفروض على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، منذ أكتوبر 2023، إلى مرسوم ملكي يجعله «حظراً قانونياً ودائماً»، أفادت تقارير إعلامية متطابقة، بما في ذلك في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، بأن الحكومة الإسبانية ألغت عقداً بقيمة 700 مليون يورو لشراء 12 منظومة قاذفات صواريخ من تصميم شركة «إلبيت سيستمز» الإسرائيلية، وهو ما يمثّل ضربة اقتصادية مباشرة لقطاع الصناعات العسكرية هناك، ويؤكد جدّية مدريد في تنفيذ حظر الأسلحة الذي أعلنت عنه الأسبوع الماضي.

وشملت الإجراءات الإسبانية الأخرى، منع السفن التي تحمل وقوداً للجيش الإسرائيلي من الرسو في الموانئ الإسبانية، وحظر استخدام الطائرات الحكومية التي تنقل موادَّ دفاعية إلى إسرائيل للمجال الجوي الإسباني، بالإضافة إلى منع دخول «جميع الأشخاص المتورّطين بشكل مباشر في الإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في غزة» الأراضي الإسبانية.

وممّا لفت، أن الموقف الإسباني بدأ يكتسب زخماً على مستوى الاتحاد الأوروبي، إذ دعت رئيسة المفوّضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، الأسبوع الماضي، إلى تعليق اتفاقية التجارة الحرة والدعم الثنائي مع إسرائيل، مشيرة إلى «المجاعة التي هي من صنع الإنسان» في غزة، ومعربة عن أسفها لِما سمّته «عجز أوروبا المؤلم» عن إيجاد ردّ مناسب على تصرفات إسرائيل، وهو ما يُظهر أن موقف مدريد المتشدّد لم يَعُد معزولاً.

داخلياً، أثارت سياسات سانشيز تجاه إسرائيل، عاصفة من الجدل داخل إسبانيا، وكشفت عن استقطاب حادّ في المشهد السياسي الداخلي، إذ سارع قادة المعارضة اليمينية إلى اتهام رئيس الوزراء بالإضرار بسمعة إسبانيا الدولية؛ وقال زعيم «حزب الشعب» المحافظ، ألبرتو نونيث فيخو، إن سانشيز «فخور بسلوك قلّة اقتحمت حواجز الشرطة»، واصفاً إلغاء سباق «فويلتا» بأنه «إحراج دولي تمّ بثّه في جميع أنحاء العالم».

وسارعت شخصيات من الجالية اليهودية وأخرى داعمة لإسرائيل، مثل رجل الأعمال ديفيد هاتشويل ألتاراس، بدورها، إلى اتهام سانشيز باستغلال القضية كـ»ستار دخان» للتغطية على فضائح فساد تحقّق فيها المحاكم وتطاول زوجته وشقيقه. لكنّ مؤيّدي رئيس الوزراء - الذين يستندون إلى استطلاعات للرأي أظهرت أن 82% من الإسبان يعتقدون أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية -، يقولون إنه يعبّر في إجراءاته عن ضمير الأمّة الإسبانية، ويستجيب للالتزامات الأخلاقية في وجه «الهمجية».

وبتبنّيها سياسة المواجهة الشاملة، تمركزت حكومة بيدرو سانشيز في طليعة تيّار أوروبي متعاظم يهدف إلى فرض عزلة متعدّدة الأوجه على إسرائيل سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وثقافياً ورياضياً، ما سيدخل العلاقات الثنائية في منعطف حاسم قد يصعب الرجوع عنه. وما من شكّ في أن هذه الاستراتيجية التصادمية ستضع مدريد في مواجهة ضغوط هائلة من واشنطن، لكنها، في الوقت ذاته، سترسّخ دورها كقائدة لمعركة دولية يمكن أن تتسبّب بعزلة خانقة لإسرائيل.

تعليقات: