حارث سليمان: بين خطر اسرائيل والعنكبوت

الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان
الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان


قيل يوما ان اسرائيل كانت جيشا عسكريا ثم تأَمَّن حول الجيش دولة، وكانت وَعْداً استعماريا، زرعته بريطانيا، ثم تعهدت دول الغرب كافة بمساعدته ورعايته واستكمال نشأته، وبعد حرب سنة ١٩٦٧ ضمنت اميركا حمايته، والدفاع عن وجوده، وأمنت تفوقه العسكري والتقني في مواجهة الدول العربية المحيطة والتي انخرطت في حروب في مواجهتها.

على مدى عقود من الصراع والحروب انسحبت اسرائيل من مناطق احتلتها في سيناء ولبنان وقطاع غزة وبعض من مدن الضفة الغربية، لكنها بقيت كيانا لا دستور لها، ولا حدود جغرافية ودولية لها الا مع لبنان، وتمسكت دائما بان حدودها امنية وان كانت غير شرعية، وبقيت هويتها التي تعبر فيها عن معناها، وتُعَّرِف بها عن نفسها، كدولة يهودية، بقيت هذه الهوية معلقة بمعضلة الخلاف حول الإجابة عن سؤال؛ من هو اليهودي!؟ وهو سؤال يستمر موضع جدال ونقاش بين جماعاتها الدينية والسياسية، في مجتمع يعاني من عدم التجانس والانسجام، ويستند في وحدته وعناصر تماسكه، على الحاجة والضرورة لمواجهة خطر خارجي، وعلى تنامي الهواجس الأمنية، والتهديدات الوجودية المصيرية، في بيئة عربية وإسلامية معادية.

لا تستند قوة اسرائيل فقط، الى تفوق عسكري بحت، بل ان النخب العلمية والفكرية اليهودية داخل إسرائيل وفي الشتات لعبت دورًا محوريًا في بناء الدولة الإسرائيلية وتعزيز مكانتها العالمية خلال القرن العشرين وما بعده

السردية المثبتة أعلاه، تعكس جزءَ من الحقيقة، لكنها لا ترى كيان اسرائيل الا من خارجه ، ولا تعكس وتبرز عناصر قوة الكيان الأخرى من داخله، ومن قلب النخب اليهودية في العالم وقدراتها الهائلة في دعم اسرائيل وضمان تفوقها في أغلب ميادين الصراع.

السردية هذه تتجاهل أن أساس لحمة الجماعات المكونة لـ “شعب اسرائيل” المزعوم بالنسبة للعرب، هو وجود نظام سياسي يدير التعدد والاختلاف، وسلطات قضائية وأجهزة أمنية فاعلة، ونظام تعليمي و جامعي ناجح وحديث، وشبكة خدمات في الصحة والاستشفاء والمواصلات فاعلة، طبعا يضاف الى كل ذلك جيش حديث يمتلك أحدث الاسلحة في العالم، ويتشكل من كل ذلك دولة عميقة تضمن الادارة والتسيير والتطوير.

السردية هذه تتجاهل ان الناتج القومي الاجمالي ل” كيان اسرائيل” بلغ نحو 565 مليار دولار تقريباً في 2024، رغم تراجع نمو اقتصاد إسرائيل بسب الحرب الى 1٪ في عام 2024، مقارنةً بـ ~1.8٪ في عام 2023، وبـ ~6.3٪ في 2022 قبل الحرب.

وتشير مقارنة مُركّزة ومُسنَّدة بالأرقام الأحدث للناتج المحلي الإجمالي للفرد (GDP per capita) لكلِّ من تركيا وايران واسرائيل ومصر،. تقدما لاسرائيل على دول المنطقة غير الخليجية، وقد ركّزت المقارنة على القيمة الاسمية (Nominal) والقيمة المعدّلة حسب القدرة الشرائية (PPP) لسنة 2024 ما نشرته قاعدة بيانات البنك الدولي.

جدول مقارنة (، بالدولار الأمريكي)

البلد الناتج للفرد اسمي (Nominal) الناتج للفرد قدرة شرائية (PPP)

إسرائيل ≈ 54,000–55,000 $. ≈ 53,000–60,000 $ (PPP).

تركيا ≈ 15,400–15,500 $ ≈ 40,000–45,000 $ (PPP)

إيران ≈ 4,000–4,500 $ ≈ 19,000–20,000 $ (PPP) .

مصر ≈ 3,300–4,100 $ ≈ 16,000–18,000 $ (PPP) .

* ملاحظة: الفرق بين نطاقات PPP والأسمي يعود إلى أن PPP يحاول احتساب فرق أسعار السلع والخدمات المحلية، لذلك دولاً ذات تكلفة معيشة أقل (مثل مصر وإيران) تظهر فرقًا كبيرًا عندما تُقاس بالـ PPP.

لعبت الهجرة الكثيفة لليهود من دول الإتحاد السوفياتي السابق ( مليون مهاجر بينهم نسبة عالية من الجامعيين) دورا في رفع مستوى التقانة ووفرة الاختصاصات الهندسية والعلمية لدى الصناعات الإسرائيلية

يحلو لنتنياهو ان يُشَبِّهَ إسرائيل بإسبارطة وهي مدينة يونانية اشتهرت بتفوقها العسكري على سائر المدن اليونانية قبل ٥٠٠ ق. م. وشكلت إسبارطة نموذجا للدولة العسكرية حيث اتسم المجتمع الإسبارطي بتركيزه الشديد على التفوق العسكري والانضباط الصارم، فقد كان جميع الذكور الأحرار يُعدّون كمحاربين. وكان نظام التدريب العسكري من أبرز سمات المجتمع الإسبارطي، وكان يُؤخذ الأولاد من عائلاتهم ابتداءً من سن السابعة ليخضعوا لتدريب عسكري قاسٍ وطقوس تأهيل بدني كمقاتلين، تتغير وتتصاعد حسب كل مرحلة من أعمارهم، وقد اكتسبت إسبارطة شهرة كبيرة نظراً لقوة مقاتليها، حيث قضى رجالها معظم حياتهم في الخدمة العسكرية و تميزوا بالانضباط الصارم والتدريب المستمر والتكتيكات العسكرية المتطورة والروح القتالية العالية والاستعداد للتضحية بالفرد من أجل المجموعة.

لا تشبه اسرائيل اسبارطة في هذه الميادين الا قليلا، فعلى الرغم من ان كل فرد من يهود اسرائيل، نساء ورجال، يساهم في المجهود الحربي، لكن الجندي الاسرائيلي يعتمد على تفوقه التقني والجوي، وأسلحته الحديثة ولا يواجه فردا لفرد، ويخشى المواجهة البرية من مشاة الى مشاة في اشتباك من مسافة صفر. لكنه يربح المعارك والحروب التي يخوضها، استنادا الى ادارة عمليات كفوءة، واختراقات أمنية استباقية، ومعلومات دقيقة تؤمنها اجهزة الحلفاء الدولية، وتدخل استخباراتي تفاعلي.

لا تستند قوة اسرائيل فقط، الى تفوق عسكري بحت، بل ان النخب العلمية والفكرية اليهودية داخل إسرائيل وفي الشتات لعبت دورًا محوريًا في بناء الدولة الإسرائيلية وتعزيز مكانتها العالمية خلال القرن العشرين وما بعده. وهي نخب لم تكن متجانسة، بل تشكلت من تيارات فكرية متنوعة، من العلمانية إلى الدينية، ومن الليبرالية إلى المحافظة، وكان لها أدوار متعددة في المجالات السياسية والعلمية والاقتصادية والثقافية. حيث ساهمت في خدمة المشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية.

شهدت إسرائيل في العقود الماضية، تحولاً جذرياً في تركيبة نخبتها، حيث كان العلمانيون من أصول غربية يهيمنون على النخب السياسية والعسكرية والإعلامية والقضائية والأكاديمية حتى مطلع الثمانينات

في الإطار التاريخي والفكري نشأت العديد من التيارات الفكرية اليهودية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر كرد فعل لـ”المسألة اليهودية”. ومن بينها حركات مثل التنوير اليهودي ومدرسة علم اليهودية وسعت إلى إعادة تعريف الهوية اليهودية ومهدت الطريق للصهيونية السياسية عبر ربط التراث اليهودي بالتاريخ والثقافة بدلاً من الاعتبارات الدينية فقط وخلق هوية يهودية قومية علمانية، وشكلت الصهيونية الإطار الأيديولوجي الذي جمع العديد من هذه النخب واطلق “حركة قومية إثنو-ثقافية” سعت لإنشاء دولة قومية لليهود، واعادت إحياء لغة عبرية محدثة كانت في طور الزوال.

شهدت إسرائيل في العقود الماضية، تحولاً جذرياً في تركيبة نخبتها، حيث كان العلمانيون من أصول غربية يهيمنون على النخب السياسية والعسكرية والإعلامية والقضائية والأكاديمية حتى مطلع الثمانينات. ومنذ ذلك الوقت، حدث تحولان رئيسيان:

الاول صعود أتباع تيار اليمين الديني واليمين القومي والثاني تزايد تأثير اليهود من أصول شرقية (المزراحيم) وترافق هذان التحولان مع تغلغل التيار الديني القومي في النخب المؤثرة واختراق أهم النخب الإسرائيلية تأثيراً وهي النخبة العسكرية، حيث تزايد تمثيل أتباع هذا التيار في المواقع القيادية داخل الجيش بشكل كبير يتجاوز تمثيلهم السكاني. وهذا ما يفسر السلوك العسكري الاسرائيلي الجديد، المختلف عن سلوكه في ماضي الصراع، من خوض حروب على جبهات عديدة، و طوال أزمنة طويلة ومديدة، ورفض أية هدنات او وقف لاطلاق النار، وممارسة الإبادة الجماعية وتدمير العمران واستعادة جريمة الاجلاء الجماعي للسكان.

كما لعبت الهجرة الكثيفة لليهود من دول الإتحاد السوفياتي السابق ( مليون مهاجر بينهم نسبة عالية من الجامعيين) دورا في رفع مستوى التقانة ووفرة الاختصاصات الهندسية والعلمية لدى الصناعات الإسرائيلية.

وقد استفادت إسرائيل أيضا من مساهمات اليهود الهامة في العالم والشتات في مجالات متعددة بما في ذلك الفلسفة، والأدب، والسياسة، والاقتصاد، والطب، والعلوم والتكنولوجيا. واستطاعت بناء شبكات من العلاقات والخبرات التي ربطتها باليهود في الشتات. وعملت على بناء نظام تعليمي وبحثي متطور، حيث أنشئت جامعات بحثية رائدة مثل التخنيون والجامعة العبرية ومركز وايزمن للبحوث، وطورت برامج لجذب الكفاءات اليهودية من جميع أنحاء العالم ونقل الخبرات التقنية والعلمية عبر برامج التبادل المعرفي، وربطت بين البحث الأكاديمي والاحتياجات الأمنية والاقتصادية للدولة في اسرائيل.

واستمر في القرن الحادي والعشرين، تأثير النخب الفكرية اليهودية من خلال الهيمنة على قطاعات التقنية العالية والابتكار العالمي، وتوظيف الثقافة والإعلام لنشر القيم والرواية الإسرائيلية، وتطوير أدوات التأثير الرقمي، والسيطرة على منصات التواصل العالمية.

كما عمل المفكرون والأكاديميون اليهود على تقديم سرديات تشرعن المشروع الصهيوني وتدعمه فكرياً، عبر تطوير خطاب يدعي الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين وتقديم الصهيونية كحركة تحرر وطني وليس فكرة استعمارية او عنصرية. كما حاولوا اشاعة خطاب يربط انتقاد إسرائيل بمعاداة السامية، وتم إنشاء مراكز أبحاث ومؤسسات إعلامية لدعم الرواية الإسرائيلية و توظيف العلاقات مع النخب السياسية والثقافية الغربية لدعم إسرائيل.

استفادت إسرائيل أيضا من مساهمات اليهود الهامة في العالم والشتات في مجالات متعددة بما في ذلك الفلسفة، والأدب، والسياسة، والاقتصاد، والطب، والعلوم والتكنولوجيا. واستطاعت بناء شبكات من العلاقات والخبرات التي ربطتها باليهود في الشتات. وعملت على بناء نظام تعليمي وبحثي متطور

وساهمت النخب اليهودية في الشتات في توفير الدعم المالي عبر مؤسسات مثل الصندوق القومي اليهودي واستثمار رأس المال البشري اليهودي في تطوير القطاعات الإنتاجية الإسرائيلية.

استطاعت النخب العلمية والفكرية اليهودية في إسرائيل والعالم أن تقدم مساهمات خطيرة في المجالات العلمية والفكرية والاقتصادية، وعملت على خدمة المصالح الإسرائيلية عبر آليات متعددة. لكن هذه النخب لا تزال تواجه تحديات داخلية حول طبيعة الهوية اليهودية والإسرائيلية، وتحديات خارجية في ظل تصاعد الانتقادات الدولية لإسرائيل، لكنها تظل فاعلاً رئيسياً في المشهد الإسرائيلي والعالمي.

والسؤال هنا المطروح على كل العرب ؛ كيف نواجه التحدي الاسرائيلي، بعيدا عن تهويمات ومزاعم خبرناها تتردد وتتعاقب على أَلسِنَةِ كل من اراد تبوء سلطة وكرسي حكم، واعتلاء اكتافنا وركوب ظهورنا باسم تحرير فلسطين، فيما يكتم انفاسنا بذريعة معركة تحرير لا تحدث ويهجر نخبنا الفكرية والعلمية بشبهة اسئلتهم وافكارهم الحداثية فيصنع هزائمنا!؟

السؤال هنا المطروح على كل العرب ؛ كيف نواجه التحدي الاسرائيلي، بعيدا عن تهويمات ومزاعم خبرناها تتردد وتتعاقب على أَلسِنَةِ كل من اراد تبوء سلطة وكرسي حكم، واعتلاء اكتافنا وركوب ظهورنا باسم تحرير فلسطين

التحدي الاسرائيلي جدي ويعتمد التخطيط طويل المدى، ولا يصح ان يتلهى به المهرجون والعابثون، والتحدي الاسرائيلي خطير لا لانه يستهدف شعب فلسطين، بل لانه يزعزع استقرار ومصالح كل دول العرب ، ولا ينبغي ان يتنطح لمواجهته المنافقون والمتلاعبون، والتحدي الإسرائيلي يستند الى العلم والتقنيات الحديثة، ولا يصح ان يمارس العبث به بعض الاغبياء والراجمين بالغيب والناطقين بالخرافات، والتحدي الإسرائيلي مستمر ومتجدد ومتفاقم، ولا يجوز ان يواجه بالانفعال او الارتجال او المياومة، والتحدي الاسرائيلي قوي ومدعوم ولديه حلفاء ورعاة، ولذلك لا تكفي لمواجهته والصمود في وجهه، مزايا الشجاعة والفروسية والاستعداد للشهادة، وراية فلسطين يتوجب ان تبقى في ايادي شعب فلسطين، لا تجيَّر ولا تؤجر، والصراع مستمر ومفتوح، باشكال تتحول وتتبدل، حتى تستوي موازين العدالة والحرية والاستقلال والتنمية والتقدم، بقيادة نخب عربية علمية وفكرية، تعيد صياغة ثقافتنا على العقلانية ونبذ الخرافة، وتنقل مجتمعاتنا الى الحداثة والاجابة على أسئلة العصر الحقيقية، و اعتماد العلم ورفع الانتاجية والتنافسية وتشجيع البحث والابتكار.

دون ذلك سيبقى نطرب لمن يردد ان اسرائيل اوهن من بيت العنكبوت، وفي الحقيقة ان العنكبوت يبني بيوته في أفكارنا.

تعليقات: