مي عبدالله: صراع على الضوء.. وصمت عن الدمّ


هذا المقال ليس عن صورة أُضيئت على صخرة، بل عن دولة اختارت أن تُطفئ الضوء عن رموزها فيما تركت جراحها مفتوحة

..

ما جرى حول إضاءة صخرة الروشة لم يكن مجرد نقاش حول صورة، بل تحوّل إلى مرآة عاكسة لوضع الدولة في لبنان.

كان يمكن للخطوة أن تمر بهدوء، كجزء طبيعي من إحياء ذكرى شخصية تركت بصمتها في تاريخ المقاومة والسياسة. لكن الضجيج الذي رافقها، ثم قرار المنع، أخرجا الحدث من رمزيته إلى ساحة صراع سياسي وإعلامي.

المفارقة أن الحكومة، وعلى رأسها رئيسها، اختارت أن تُظهر صرامتها في هذا الملف تحديدًا، بينما الملفات الكبرى تُترك بلا حلول: *رياض سلامة أُفرِج عنه بكفالة ضخمة بلغت 14 مليون دولار أميركي و5 مليارات ليرة لبنانية، لكن دون أي محاسبة فعلية أو معالجة لملف المودعين الذي ما زال معلّقًا، العدوان الإسرائيلي مستمر على القرى والبلدات، الأقساط المدرسية ترهق الأهالي، إعادة الإعمار متعثرة، والتعويضات على النازحين مؤجَّلة، وحتى **مجزرة البيجر* لم تلقَ موقفًا وطنيًا جامعًا بحجمها.

وإلى جانب ذلك، تبقى قضايا أساسية كحقوق المتقاعدين والمحاربين القدامى، تحسين الدخل والحد الأدنى للأجور، الضمان الاجتماعي والكهرباء، كلها مؤجَّلة بلا حلول.

أبعد من ذلك، فإن التركيز على هذه القضية لم يكن بريئًا؛ القرار عكس استجابة لضغوط خارجية وداخلية هدفت إلى رسم حدود "مَن يحق له" أن يُظهر رمزه في بيروت، وكأن العاصمة ملك لفريق دون آخر.

لكن الحقيقة أن بيروت لم تكن يومًا حكرًا على أحد. هي مدينة جامعة، فيها حضور شيعي تاريخي أصيل كما هو الحضور السني والمسيحي، وأي محاولة لاقتلاع مكوّن من هويتها ليست سوى إعادة إنتاج للانقسام بدل الحفاظ على العيش المشترك.

وإذا كان رئيس الحكومة قد سارع لطلب معاقبة المنظّمين بحجة صون هيبة الدولة، فكيف لم تهتز هذه الهيبة عندما أهان المبعوث الأميركي الجيش اللبناني ووصف جنوده بـ"الزبّالين" من موقع الانتقاص والإهانة — مع العلم أن مهنة عمال النظافة مهنة شريفة ومحترمة؟ وكيف لم يشعر بالمساس بالكرامة حين نعت الصحافيين سابقًا بالسلوك الحيواني؟

المفارقة أن الهيبة لا تُستحضر إلا في مواجهة الداخل، بينما تُبتلع الإهانات حين تأتي من الخارج.

المسؤولية في لبنان ليست سلطة فوقية بقدر ما هي فنّ الموازنة بين مكوّنات البلد. رئيس الحكومة، أيًّا كان، يُفترض أن يكون خبيرًا بتركيبته، مدركًا لحساسيته، فيراعي بقراراته الوحدة الوطنية قبل أي حساب آخر. فالقرار ليس أداة للسيطرة بل أمانة تقتضي الرعاية. وحتى لو كانت الضغوط الخارجية أكبر من احتماله، فليكن له شرف أن يغادر تاركًا أثرًا طيبًا، لا أن يبقى في الذاكرة خصمًا أو عدوًا لمن يفترض أنه راعيهم.

ولولا أن في لبنان رجال حكماء، وجيشًا أحرص من دولته على وحدة وسلامة مواطنيه، لكنّا انزلقنا إلى مستنقع نرى بدايته ولا يعرف أحد نهايته.

الخطر الحقيقي ليس في صورة تُضاء ثم تُطفأ، بل في قرارات كيدية تهدد الوحدة الوطنية وتستنزف الشرعية السياسية لرئيس الحكومة. والسؤال يبقى: هل هذا ما يريده فعلًا؟ أن تُختزل رئاسته في مواجهة مع فئة من

اللبنانيين، بينما القضايا المصيرية تُترك معلّقة بلا حلول؟

وليس المقصود من المقال حصر المسؤولية بشخص رئيس الحكومة، بل اتخاذ قراره الأخير مدخلًا لقراءة أوسع لأزمة الحكم في لبنان، حيث تتحوّل الحوادث الجزئية إلى مرايا تعكس عجز المنظومة بأكملها عن مواجهة القضايا الكبرى.

تعليقات: