راشد شاتيلا: الذكاء الاصطناعي والسلام العالمي: أداة للتقارب أم سلاح للتفكك؟


لم يكن العالم في يومٍ من الأيام أحوج إلى السلام كما هو اليوم. فالحروب لم تعد تقليدية تُخاض بالبنادق والدبابات فقط، بل باتت تُخاض عبر الفضاء السيبراني، بالاقتصاد، وبالمعلومات. وسط هذه التحولات الجذرية، ظهر الذكاء الاصطناعي كقوة جديدة قادرة على إعادة رسم موازين القوى العالمية. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة لتعزيز السلام العالمي، أم أنه سيشكّل وقوداً لصراعات جديدة أكثر خطورة؟

أحد أهم مكامن القوة في الذكاء الاصطناعي هو قدرته على كسر حواجز اللغة والثقافة. بفضل الترجمة الفورية القائمة على خوارزميات متقدمة، يمكن لشعوب العالم أن تتواصل بسلاسة غير مسبوقة. تخيّل مثلاً مؤتمراً دولياً يجمع أطرافاً من عشرات الدول، كل فرد يتحدث بلغته، بينما يتولى نظام ذكاء اصطناعي ترجمة الكلمات بدقة وسرعة لحظية. هذا ليس مجرد رفاهية تقنية، بل هو عامل استراتيجي يفتح أبواب الحوار ويقلل من سوء الفهم، الذي كان على مدى التاريخ أحد أهم أسباب اندلاع النزاعات.

في الماضي، كانت المفاوضات السياسية تعتمد على خبراء ودبلوماسيين يحاولون تقدير نتائج أي اتفاق. اليوم، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي سيناريوهات معقدة: ما الذي سيحدث إذا طبّقنا اتفاق سلام معين؟ كيف ستتأثر الموارد الطبيعية، الاقتصاد المحلي، أو توزيع اللاجئين؟ هذه القدرة على بناء “مختبرات سلام افتراضية” قد تمنح القادة أدوات واقعية لاتخاذ قرارات أكثر توازناً، تقلل من احتمالات الانزلاق نحو الحرب.

السلام لا يعني فقط غياب الحروب، بل يعني أيضاً تحقيق العدالة الاجتماعية. هنا يتجلى دور الذكاء الاصطناعي في تحليل الفوارق الاقتصادية، التمييز العرقي، أو التهميش الاجتماعي. على سبيل المثال، في بعض الدول الإفريقية، تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوزيع المساعدات الإنسانية بشكل أكثر عدلاً، عبر تحديد القرى الأكثر فقراً والأكثر عرضة للجفاف. إن معالجة جذور الفقر والحرمان هي خطوة أساسية لبناء سلام مستدام، لأن الظلم هو الشرارة الأولى التي تُشعل أي صراع.

الوجه المظلم: حين يتحول الذكاء الاصطناعي إلى سلاح

لكن، وكما أن لكل قوة جانباً إيجابياً، هناك جانب مظلم لا يمكن تجاهله. اليوم نشهد سباقاً محموماً بين القوى الكبرى لتطوير أسلحة ذكية، من الطائرات المسيّرة ذاتية القيادة إلى أنظمة المراقبة الشاملة التي تُستخدم لقمع الشعوب. إذا لم يتم ضبط هذه التقنيات عبر اتفاقيات دولية شبيهة باتفاقيات حظر الأسلحة النووية، فإن الذكاء الاصطناعي قد يفتح الباب أمام صراعات جديدة، أكثر قسوة وأقل إنسانية.

التحدي الأكبر يكمن في وضع إطار عالمي لإدارة الذكاء الاصطناعي: كيف نستفيد من إمكاناته لتحقيق السلام، مع ضمان عدم انزلاقه نحو الاستخدام العسكري أو الاستبدادي؟ هنا تبرز الحاجة إلى “دبلوماسية تقنية” جديدة، تضع القواعد الأخلاقية وتفرض الشفافية على الشركات والدول المطوّرة لهذه الأدوات.

إن مستقبل السلام العالمي لن يُبنى فقط على موائد التفاوض السياسية، بل أيضاً في مختبرات التكنولوجيا ومراكز الأبحاث. الذكاء الاصطناعي، إذا وُظّف بذكاء وعدل، قد يصبح أعظم وسيلة عرفها التاريخ لتعزيز السلام: أداة لكسر الحواجز، لبناء الثقة، ولتحقيق العدالة. أما إذا تُرك دون ضوابط، فقد يتحول إلى سلاح يهدد وجود البشرية ذاتها.

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو قوة حضارية قادرة على إعادة تعريف معنى السلام في القرن الحادي والعشرين. والسؤال المصيري أمام الإنسانية اليوم هو: هل سنجعل منه لغةً جديدة للتقارب بين الشعوب، أم سنتركه وقوداً لحروب لا تنتهي؟

راشد شاتيلا مختص في الذكاء الاصطناعي و إدارة البيانات

تعليقات: