عامان على نزوح سكان القرى الحدودية - يعبر النازحون عن أوضاعهم المعيشية بطرق مختلفة ويلقون اللوم على الدولة وأحزاب منطقتهم (المدن)
قبل عامين، فرضت الحرب الإسرائيلية على القرى الحدودية نزوحًا قسريًا شمل آلاف العائلات. ترك الأهالي بيوتهم على عجل، ظنّاً أن الغياب سيكون أيامًا قليلة، لكن الزمن امتد لعامين كاملين.
عامان حافلان بالخسائر المادية والمعنوية. بعض بيوتهم لا تزال صامدة وبلا سكان في قرى شبه مدمرة، وأحلامهم معلقة على أمل العودة.
اليوم، بعد مرور عامين، تتشابه الحكايات في جوهرها، وإن اختلفت تفاصيلها. منزل يكتشف صاحبه أنه لا يزال قائماً عبر صور نشرها العدو الإسرائيلي، مزارع فقد صحته قبل أرضه، أمّ تكابد لتكييف ذاكرتها وذاكرة أطفالها على واقع النزوح، ورجل يحاول أن يعيش عبر "خطة بديلة".
رؤية المنزل قبل أن تراه عيناك
المفارقة أن ترى منزلك لأول مرة من صور ينشرها العدو قبل أن تراه بعينك. الجنود يفخّخونه، يمشون في أرجائه ويدوّنون جداول مناوباتهم على جدرانه. هذا ما حصل مع يوسف عباس من بلدة عيترون، الذي نزح مع بداية حرب الإسناد في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2025.
عرف عباس أن منزله لا يزال قائمًا من خلال صورة جوية على "غوغل إيرث"، ليتفاجأ لاحقًا بنشر صور بيته على مواقع العدو الإسرائيلي وبجانبه جندي وكلب. لحظتها اختلطت مشاعره بين الفرح بصمود المنزل والحيرة حول إمكانية العودة إليه. عباس الذي كان يملك مشتلاً زراعيًا، خسر رأس المال الأساسي لمشروعه. ويقول، إن "زراعة الورود باتت قطاعًا كمالياً لم يعد له وجود في زمن الحرب. أحتاج خمس سنوات على الأقل لاسترداد ما خسرته. حتى لو أعطوني تعويضًا، لا يوجد أي تعويض يمكن أن يلبي حاجتي الحالية. فقدنا الأمل من إمكانية العودة حتى إلى النقطة التي توقفنا عندها".
سلب الأرض والصحة
النزوح لم يسلب الناس المال والمنازل فحسب، بل أخذ حياة كاملة كانت مستقرة في أرض تنبت منها أرزاق تكفي لعيش كريم. هذه هي حال محمود سرحان، المزارع من كفركلا، الذي لم يبقَ من منزله سوى أنقاض. فقد 14 دنمًا من أرضه المزروعة زيتوناً سقاها بماء الجنوب، إلى جانب موسمين زراعيين كاملين وماشيته من أبقار وأغنام. ومعها، فقد صحته التي ازدادت سوءًا بعد النزوح. ويضيف سرحان: "أنا لست فقيرًا. يكفيني محصولي أن أعيش حياة كريمة. كنت مريضًا لكن حالتي الصحية لم تكن بهذا السوء. اليوم لا أستطيع الحركة أو التنفس من دون جهاز أوكسيجين، بعدما أرهقت صحتي الترسّبات الكيميائية الناتجة عن غارات العدوان".
معاناة الأم وأطفالها
في حولا، لا تختلف القصة كثيرًا. فاطمة سليم، أم لثلاثة أطفال وأخت لشهيد، جابت بهم بلدات جنوبية بعيدة عن مرمى العدوان حتى وجدت مسكنًا مؤقتًا في عدشيت.
تغيّر نمط حياة أطفالها بشكل جذري. وتقول: "استغرق أطفالي أربعة أشهر حتى استطاعوا الخروج من المنزل الجديد وتقبّل ما حصل". الحنين يرهقها كما تثقلها المسؤولية الجديدة: "لم أكن أدفع إيجارًا قبل النزوح. اليوم أصبحنا ندفع بعدما كنّا نملك منزلاً. وزوجي يعمل ما تسمح به الفرص لتأمين لقمة العيش".
محاولة العيش بخطة بديلة
من العديسة نزح محمد رمال إلى النبطية، المدينة التي اتخذها مقراً ثانياً بعد أن خسر منزله ومقهاه في البلدة الأم. هنا افتتح مقهى جديدًا أطلق عليه اسم "الخطة باء"، تيمّناً بمعناه وحالته كنازح يبحث عن بديل للحياة. لكنه يؤكد: "المعاناة تبقى نفسها، مادياً ومعنوياً".
بين المساعدات وتدبّر العيش
يعبر النازحون عن أوضاعهم المعيشية بطرق مختلفة ويلقون اللوم على الدولة وأحزاب منطقتهم. ويشرح ابن عيترون عباس أنه تنقّل بين عشرة بيوت قبل أن يستقر في بلدة "القرية" بالقرب من صيدا، ويقول: "بعد أربعة أشهر من النزوح قدم حزب الله بدلات إيواء بمبلغ 300 دولار و200 دولار أخرى مساعدة اجتماعية" وصفها عباس بـ"الهدية".
وأضاف: "بعد الحرب، أعطونا ما اعتبروه متأخرات بقيمة ألف دولار، ولم تكن كافية للعيش".
أما سرحان، الذي نزح من كفركلا إلى بلدة تول، فيلقي اللوم على الجمعيات وعلى وزارة الشؤون الاجتماعية. ويؤكد أن الجمعيات قدمت مساعدة تبين أنها مواد غذائية منتهية الصلاحية، مضيفاً أن المسوح التي أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية للنازحين كانت شكلية وبلا أي فائدة. فالشؤون اكتفت بإرسال مندوب، ثم أرسلت جوابًا رسميًا يفيد أن العائلة "لا تستحق المساعدة"، كما قال، مسائلاً: "إذا كانت عائلتي لا تستحق فمن هو هذا الذي يستحق حينها؟"
رسالة للدولة… ولعلّ العودة
عامان على النزوح، ولا تزال الضربات على الجنوب قائمة، اغتيالات وغارات لا تتوقف. حياة الجنوبيين تتقلب بحسب تحسّن أو تردي الأوضاع الأمنية. لكن رغم كل خسائرهم يحلمون بالعودة إلى قراهم.
فاطمة سليم توجه رسالتها للدولة اللبنانية: "النزوح قائم في ظل استمرار الاغتيالات والغارات. ضعوا حدًا للخروقات الإسرائيلية". أما عباس فيقول: "الأرض أرضي في عيترون، لكننا لا نستطيع الدخول إليها إلا بعد أخد إذن مسبق".
في العديسة وحولا وعيترون وكفركلا، مثلها مثل سائر القرى الحدودية لا مقومات أساسية للحياة من ماء وكهرباء وبنى تحتية، ما يجعل العودة شبه مستحيلة حتى وإن صمدت الجدران. ورغم ذلك لسان حالهم كما يوجزها محمد رمال: "نريد العودة".
تعليقات: