يدعو التشكيلي ناصر عجمي من خلال المعرض الجنوبيين إلى التمسك بأرضهم أكثر بطيبتهم ومحبتهم (اندبندنت عربية)
التشكيلي ناصر عجمي: أردت من الجمع بين الفن وما بقي من بيت أهلي ترميم الذاكرة وتوثيق لمن عاشوا في هذا المنزل وتعاقبوا عليه
ملخص
بعد الحرب الأخيرة على جنوب لبنان وما خلفته من دمار وتهجير وآلاف الضحايا، ظهرت مبادرات ثقافية وفنية لإحياء الذاكرة وبث الأمل في القرى المتضررة. في العباسية، حول الفنان ناصر عجمي بيت عائلته المدمر إلى معرض بعنوان "زيتون" رمزاً للصمود والتجذر في الأرض.
تنطلق في مناطق جنوب لبنان مبادرات مختلفة من جمعيات وأندية وأفراد تحاول التعويض عما لحق ببلداته وقراه من قصف وتدمير وتهجير وسقوط آلاف القتلى خلال الحرب الأخيرة التي بدأت عنيفة في الـ 23 من سبتمبر (أيلول) 2024 قبل التوصل إلى وقف إطلاق النار في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه.
وخلال الأشهر الأخيرة، تنقلت النشاطات الثقافية والندوات والأمسيات الشعرية والمعارض الفنية والتشكيلية والعروض السينمائية بين مناطق النبطية وصور وصيدا.
في النبطية، وبعد الدمار الذي لحق بعمارتها التراثية وعدد كبير من بيوتها البالغة أكثر من 100 عام، أقيمت ندوات ومعارض تشكيلية تصب في خانة الدفاع عن العمارة التقليدية والدعوة إلى حمايتها، ومن بينها معرض تشكيلي تحت عنوان "النبطية نحمي تراثها"، أقيم مطلع الشهر الجاري في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب التي سببت في سقوط نحو 120 قتيلاً من أبناء المدينة، بمن فيهم رئيس البلدية وأعضاء من مجلسها البلدي وعدد من الموظفين.
أما في بلدة العباسية القريبة من مدينة صور، فأقام الفنان التشكيلي ناصر عجمي وبرعاية وزارة الثقافة اللبنانية معرضاً فنياً تحت عنوان "زيتون"، في منزل عائلته التراثي الذي يبلغ أكثر من 100 عام وتعرض لانهيار أجزاء منه جراء تدمير منازل مجاورة بغارات نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي على البلدة.
دلالات تراثية وفنية
بهدف منع هدم هذا البيت والإبقاء على ما بقي منه من دلالات تراثية وما يتعلق بالذاكرة التي كانت تحيط بالمكان، أطلق الفنان عجمي معرضه من هناك قبل أن ينقله قريباً إلى العاصمة بيروت، فعلق لوحاته وجدارياته على جدران البيت الذي غص بالحاضرين ممن استهوتهم الفكرة وإقامة المعرض في قلب الجنوب والدمار، وفهموا الرسالة التي أرادها الفنان أن تصل إلى مسامع الناس وتحث على التشبث بأماكن الذاكرة والأرض وإرادة العودة وبناء ما تهدم، وتحث على إعادة الحياة والثقافة لربوع الجنوب والخروج تدريجاً من تبعات الحرب التي تركت بصماتها على سكان الجنوب ممن فقدوا العشرات من أبناء القرى، ومن بينهم سكان العباسية، ودمرت إسرائيل بيوتهم وتعب السنين والمرافق الاقتصادية والتربوية والثقافية.
يقول التشكيلي ناصر عجمي "كنت أسعى إلى أن أقدم معرضي التشكيلي في العاصمة بيروت خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024، أي بعد مرور سنة على اندلاع الحرب في غزة وبدء الحرب في جنوب لبنان، لكن الحرب حينها تصاعدت شيئاً فشيئاً وكانت هناك استحالة أن أقيم معرضي في ظل أجواء الحرب التي راحت تتطور، وشمل القصف من الجو والبر والبحر مختلف مناطق الجنوب، ومن بينها بيتنا في العباسية الذي قوضته بصورة جزئية إحدى الغارات التي استهدفت منزلين مجاورين، وكان ذلك خلال الأيام الأخيرة من سبتمبر 2024، وبعد عودة الناس لقراهم في الخطوط الخلفية لمناطق الحافة الأمامية التي دمرت على نحو كبير، قررت أن أقيم معرضي إنما على أرض الجنوب، وعلى ما بقي من بيتنا وأطلاله، دلالة على أننا نكرس الحياة والإرادة على رغم الدمار".
بيتنا المدمر مرات
ويوضح عجمي أن "بيتنا هذا تعرض للقصف والدمار أكثر من مرة، فدمره القصف جزئياً عام 1978 إبان الاجتياح الإسرائيلي للمنطقة، بعد تدمير معظم القرية القديمة في العباسية، وحدثت يومها مجزرة كبيرة راح ضحيتها 120 مواطناً من أبناء البلدة وسكانها وفاقت نسبة التدمير الـ 80 في المئة. بقي قسم من بيتنا وأعدنا ترميمه، إذ إن عمر الدار يفوق الـ 100 سنة، أي إنها من بيوت الضيعة العتيقة، وكانت تدار القرية اجتماعياً وسياسياً من خلاله، وتقام في باحته الأعراس وتتوسطه بئر مياه لا تزال موجودة حتى اليوم، وكان في أيام العثمانيين (1914) مخبأ لتخزين القمح. وخلال حرب 2006 أصيب المنزل بأضرار جزئية، حتى كانت حرب الـ 66 يوماً الأخيرة وفقدنا أجزاءً منه، لذا قررت أن أقيم المعرض على ما بقي من بيتنا الجميل".
ويروي "جرى نقاش حول جرف البيت أو ترميمه، لكن أتت الفكرة أن أرممه بأعمالي التشكيلية الفنية،و أن أبعث الحياة والحيوية فيه من جديد، فالبيت ليس جدراناً وحسب، بل هو مجموعة ذكريات وحنين وعبق أمي وأبي فيه وأخوتي أيام كنا صغاراً".
"زيتون" كي نبقى
ويقول عجمي "الأعمال الفنية التي أعددتها لتشكل المعرض كانت 32 عملاً، اخترت منها بسبب صغر المساحة وما بقي منها 28 لوحة، بينها أعمال ضخمة، منها عمل أساس قياسه 4.80 متراً بارتفاع مترين اثنين، ولوحات قياسها مترين بارتفاع 1.60 متر، وأعمال مختلفة بين صغيرة وكبيرة، هو متنوع الأحجام لكن معظمه من أعمال كبيرة".
ويردف أن "ما يهمني ليس تسليط الضوء على العدوان الإسرائيلي بقدر الإشارة إلى صمودنا والإصرار على التصاقنا بأرضنا ولو فوق بيوت مدمرة"، ويكشف عن أنه أعطى المعرض اسم "زيتون" للدلالة على "عمق تاريخنا في هذه الأرض، والزيتون بدأ من جبل عامل والجليل في فلسطين وفي شيراز الإيرانية، والرومان إبان احتلالهم لمناطقنا والساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط بعدما بسطوا إمبراطوريتهم عليهما، طابت لهم شجرة الزيتون وعملوا على نقلها إلى جميع مناطق حوض المتوسط، لكن أصل الشجرة من عندنا... كان الزيتون على رغم الحروب التي عصفت بالمنطقة منذ أزمان بعيدة يشير إلى السلام والاستقرار ولهذا الزيتون من الأشجار المعمرة في بلادنا".
كي تبقى الأرض
ويشرح أن ثمة ثلاثة أعمال كبيرة تتضمن شجرة الزيتون، واحدة منها في لوحة "لنبقى" التي تمثل جثماناً ممدداً وبقلبه حقول القمح والزيتون والصبار والكوفية، كي أقول إن الذين سقطوا في هذه الحرب بالنيران الإسرائيلية فمن أجل الأرض، وقدموا أغلى ما يملكون كي تبقى الأرض.
ومن لوحات عجمي ثمة زيتونة حمراء، وهي برأيه تمثل "مشهداً بصرياً لإحساس ثوري، إضافة إلى زيتونة خضراء تعبر عن أن الحياة تستمر وتولد من جديد، مثل الزيتون المتجذر في الأرض الطيبة".
ثمة كذلك أعمال من الحجم الصغير التي تحوي شجرة الزيتون.
كما استحضر عجمي لوحات عرضها سابقاً بعد انفجار مرفأ العاصمة عام 2020 بعدما دمر الانفجار بيروت والأشرفية تحديداً.
لا لتجزئة الوجع
يوضح عجمي أنه "في المعرض أعمال من النوستالجيا التي تجلل أسلوبي التشكيلي"، من بينها لوحة مستمدة من "مانشيت" سابق لجريدة السفير اللبنانية عندما أراد الإسرائيليون احتلال بيروت وقصفوها بعنف، تقول "بيروت تحترق ولم ترفع الأعلام البيضاء"، وعمل آخر تحت عنوان "صيدا بوابة جبل عامل" وتمثل لحظة تحرير صيدا من الاحتلال الإسرائيلي.
ويقول عن اللوحتين "أثرتا فيّي، وكي أقول كذلك إن لبنان هذا يفترض أن يكون جسداً واحداً، والوجع إن أصاب الجنوب أصاب لبنان برمته، والوجع الذي يحل بالأشرفية يحل على لبنان كله، وكذلك بيروت وصيدا، لكن مشكلتنا اليوم أن ثمة من يحاول تجزئة الوجع، أن يفصل بعضه عن بعض".
معرض زيتون لناصر عجمي
تعليقات: