الموت حقّ. نفقد الكثير من الأعزاء والأصدقاء والأقارب. نجتاز الأمر بتعقّل وهدوء، لأنّ الحياة مربوطة بنهاية لا بدّ منها، تسري على الجميع؛ ثنائيّة الصعود والنزول، الضوء والعتمة، التوالد والاندثار.. وحدهم الروّاد المبدعون لا يموتون، يضخّون حياةً في الحياة وجمالًا في الجمال، وروحًا في الروح عبر هبة من الخالق. أعمالهم تشعّ نورًا واستمرارًا بعد رحيل مبدعيها، فتبقى أسماؤهم منارةً وعنوانًا للعطاء والتضحية والإنسانيّة والحبّ والتواصل والمعنى الطيّب للوجود. هناك من يُدمّر، فيلعنه التاريخ والمنطق والأديان. وهناك، بالمقابل، من يُعمّر ويبني ويُصلح، فيخلّده التاريخ والزمن، ويحتضنه أيقونة للجمال والإيمان والروح. يغيب سياسيّون وقادة وزعماء فلا نجد لهم ذكرًا إلا على هوامش التاريخ وفي ظلّه، أمّا الفنّانون والأدباء والشعراء والعلماء فيبقى لهم حضورهم الخاصّ العابق بالمجد والحياة والخلود. تُبنى الأساطير على قصص هؤلاء، فتمتلىء الأزمنة بأسمائهم ووقعهم..
أصوغ هذه المقدّمة لأشير إلى خسارة وطنيّة وفنّيّة كبيرة ألمّت بالوطن والفنّ والإبداع ومحبّي الجمال واللون. أعني بذلك غياب الفنان محمد عزيزة عن الساحة الفنّيّة في لبنان والعالم. في هذا الزمن الرماديّ العفن، المليء بالقتل والعبث وجنون الحروب نفقد عزيزًا وفنّانًا تشكيليًّا مرموقًا. فنان من معدن خاص، بقي مخلصًا للوحته وعناصرها دون خيانة أو استراحة، حتى الرمق الأخير. توفي، كما تذكر شقيقته الزميلة والباحثة والناقدة الفنّيّة الدكنورة مهى عزيزة سلطان، وهو جالس على مقعده أمام لوحته الجديدة التي يعمل عليها لتنظمّ إلى شقيقاتها في مجموعته الكبيرة. أعتقدُ أنّه تمنّى هذا النوع من الغياب. فهو الفنان المؤمن التقيّ الذي استجاب له الخالق قبل استعادة وديعته. هي لحظة يتمنّاها كلّ فنّان صادق ومخلص. ومحمد كان قمّة في الإخلاص والصدق.. تعب القلب الكبير، فرفع رايته البيضاء قائلًا للحياة وداعًا وللخلود تحيّة ولقاء وولادة جديدة..
من هو محمد عزيزة؟
هو من مواليد طرابلس عام 1949. درس الفنّ في لبنان. حصل على دبلوم دراسات عليا في الرسم والتصوير من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة (الفرع الثالث- طرابلس). عضو في الاتحاد العربيّ للفنون التشكيليّة، ورئيس قسم أسبق في كليّة الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانيّة. يحمل أيضًا ماجستيرًا في الفنون الإعلاميّة.
اشترك في العديد من المعارض الفنّيّة داخل لبنان وخارجه (لندن، مصر، السعوديّة، الخ).
نال العديد من الجوائز؛ منها الجائزة الأولى من مركز تعليم رسم الوجوه. الجائزة الأولى من دار المنى- البترون. جائزة من المهرجان الدوليّ للإبداع- بيت الدين. الجائزة الأولى من بينالي سعاد الصبّاح للفنانين العرب، الخ..
المقتنيات الرسميّة لأعماله: القصر الجمهوريّ اللبنانيّ، القصر الجمهوريّ البرازيليّ، تولوز الفرنسيّة.. وغيرها.
هو من مؤسّسي جماعة «الفنانون العشرة» الطرابلسيّون في سبعينيّات القرن الماضي. تهدف هذه المجموعة الفنّيّة إلى إبراز الفنّ التشكيليّ في طرابلس، وإحياء التراث الفنّيّ للمدينة، مع التركيز على الفنون الحديثة والمعاصرة. ضمّت في انطلاقتها الفنانة الأنثى الوحيدة في المجموعة سلمى معصراني التي لم تكمل طريقها في الفنّ، للأسف الشديد. أمّا الفنانون الآخرون فهم الزملاء: د. فضل زيادة، د. فيصل سلطان، د. عدنان خوجة، محمد الحفّار ومحمد غالب..
نفتقد بغياب الفنّان العزيز محمد عزيزة، قامّة فنّيّة وإنسانيّة كبيرة واستثنائيّة، يصعب وصفها بالكلمات. الصديق والزميل وأستاذي أثناء دراستي للرسم والتصوير في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة. آمن بي، فأحبّني وشجّعني إلى أقصى الحدود، وهناك أستاذ آخر (أطال الله بعمره) تُرفع له القبّعة، والذي أصبح زميلي فيما بعد كغيره من الأساتذة، وأعني به الطرابلسيّ الآخر الفنان فضل زيادة الذي لا يقلّ حرصًا على تشجيعيّ واحتضانه لي أثناء تدريسه لنا.
محمد عزيزة الفنان الحاج المؤمن، ابن طرابلس الفيحاء، المنتج دون توقّف، والمبدع دون حدود، والطيّب بامتياز..
قمتُ بزيارته منذ فترة طويلة، برفقة زوجتي الفنانة التشكيليّة، إلى جنّته الفنّيّة الكائنة في مدينته طرابلس. أذهلنا ما شاهدناه في محترفه ومنزله من أعمال فنّيّة متراكمة ومنوّعة، لم أرَ لها مثيلّا في محترفات الفنانين حيث غصّ وضاق بها المكان الكبير المؤلّف من المنزل والمحترف. أعمال موضوعة وموزّعة بتوضيب مرتّب ومدروس. هو يُنتج يوميًّا دون توقّف، تحسّ نفسك أمام آلة منتجة، لكنّها آلة إنسانيّة مليئة بالأحاسيس والمشاعر واللون والجمال والشكل والمواضيع وكلّ ما يبحث عنه الإنسان من راحة نفسيّة. قلّما يمرّ يوم لا نرى فيه عملًا جديدُا على صفحته الفيسبوك التي نشط عليها..
فنّان غنائيّ بالدرجة الأولى ثمّ تعبيريّ وانطباعيّ. جسّد مواضيع إنسانيّة ووطنيّة إضافة إلى طبيعة لبنان المحبّبة (صاهر بين الجماليّ والدلاليّ في جزء من أعماله، وفي أخرى نرى غلبة للأوّل على حساب الثاني). رسم المدينة والشجر والبحر والسماء والسحاب والفصول والعاملين الكادحين والفقراء والوجوه، والمرأة بحالات مختلفة؛ مروحة واسعة من الحقل المعجميّ الإنسانيّ والطبيعيّ.
غنائيّته فريدة وغنيّة حيث اللون سيّد الموقف يخطف القلوب والأفئدة والعيون والأحاسيس، مقترنًا بالضوء المشعّ الساحر. لا يقتصر الأمر على اللون وحده، كما يهرب البعض نحو التجريديّة، بل هو رسّام dessinateur درجة أولى، حيث يجيد رسم الوجوه وإقامة الشبه إلى حدّ كبير. وهذا الشيء يفتقده آخرون. يذكرني هنا قول لبيكاسو: «طالما أنّني أستطيع أن أرسم اليدَ كما رسمها رفاييل، فإنّه يحقّ لي أن أرسم ما أريد، وكما أريد».
في أعماله نرى الأشكال تتراقص، وتتداخل أفقيًّا وعموديًّا، وقد تتأتّى من كلّ الاتجاهات. تحسّ الأشكال ألوانًا، والألوان أشكالًا تتعانق متحابّة على مسرح فضاء اللوحة كنجم هابط من السماء، بل كملائكة تحمل معها الفرح والسرور والانشراح والخلاص. لوحته ليست كلاسيكيّة بالمعنى التقليديّ لها، وإن حافظت على قانون النسب والتوازن. هي تشخيصيّة متفلّتة من الأطر الأكاديميّة لتشكّل بذاتها أطرها الخاصّة البديعة. تتواءم الأشكال الهندسية مع الأشكال الأخرى المنفلتة بحرّيّة، لكنّها تتوازن لتتوالد أنغام اللون والضوء بمهرجانها الكونيّ الساحر الخلّاب. نراه يندفع كالفراشة نحو ضوء اللوحة.
حركات لولبيّة واستدارات توارت منها الخطوط حيث المساحات اللونيّة وتجاورها تلد الحدود والخطوط والأشكال. لوحته عبارة عن حديقة بل جنّة مزروعة في الفضاء الكونيّ بعيدًا من الإنسان والأرض والأمكنة المعتادة. تتحوّل معه الجبال إلى كتل لونيّة شفّافة شهيّة على مائدة السماء والفضاء الرحب. ألوان لا غبار فيها ولا تراب، بل ألوهيّة وعبق وموسيقى من نوع خاصّ تختطف الحواس الخمس. لوحته تجريد خاصّ مجبول بتشخيصيّة لافتة في بعضها تنزل المرأة (الحوريّة) من السماء حاملة معها جمالات الخلق والأنوثة، فيتحوّ كلّ ما يحيطها إلى أنوثة ونعومة وضوء. رسم شوارع طرابلس العتيقة والحاليّة بأطرها الهندسيّة والمعماريّة اللافتة. أعماله عرسٌ لونيٌّ، بل مهرجان متواصل من الفرح والأمل.. نرى ألوان قوس القزح مجتمعة في اللوحة الواحدة المشعّة بالبارد والدافىء والغامق والفاتح والمتدرّج عبر سلّم موسيقيّ لافت. تحاول لوحته أن تكون بديلًا من الحياة نفسها، هذه الحياة المتعبة القاسية..
رسم، وصوّر ذاته كثيرًا، ونعني بذلك استعمال اللون وليس فقط الخطوط والأقلام، ممّا يُذكّرنا بوجوه فان غوغ الذاتيّة ووجوه رامبراندت ودورر، وغيرهم الكثير من الفنانين. وجوهه الذاتيّة تزأر بنظرة متحدّية واثقة واجلة فيها الكثير من المعاني والأسرار والرسائل، أو قد تنظر إلى اللوحة أمامه ويداه تحمل الباليت اللونيّ والريشة لعزف اللون. رسم والده، والسيّدة عقيلته، وكريمته الدكتورة رويدا، وبعض الأصدقاء..
هي مروحة كبيرة من الأعمال لا نستطيع المرور عليها في هذه العجالة، بل تحتاج إلى دراسة تحليليّة متأنّية تكون إطارًا لعمل بحثيّ جامعيّ..
أعماله تمثّل الفرح اللامتناهي. تحسّ نفسك أمام سمفونيّة كونيّة إلهيّة أبدعها الخالق عبر قلب هذا المبدع الطيّب. عرس من الإضاءة والحركة والروح؛ هذه الروح التي تقود الأعمال عبر الزمن ودون توقّف. حتى وإن توقّف قلبه النابض بالجمال فإنّ ريشته تبقى تصدح بالحبّ والخلق والنور والحياة. أهداني عملًا من أعماله أثناء زيارتي له، وهذه صفة تُضاف إلى صفاته الحسنة حيث كرمه لا حدود له في كلّ المعاني.
سألته عن سبب تلكئه وغيابه عن العرض في بيروت. أجابني أنّ وضعه الصحّيّ لا يسمح له بذلك. هي خسارة للعاصمة التي لم تتعرّف على أعماله عن كثب.
نتمنّى أن يُقام أكثر من معرض لأعماله في أمكنة بيروت المعروفة، كمتحف سرسق، على سبيل المثال لا الحصر، أو غيره، تكريمًا له ولعطائه غير المحدود. ونتمنّى إقامة مُتحف لأعماله في مدينته التي أحبّها وأحبّته «طرابلس». كذلك إطلاق اسمه على أحد شوارع المدينة..
وداعًا صديقي وأستاذي المحبّ والمبدع. لقد ترجّلتَ عن صهوة هذا الوطن المُتعب لتستريح في عالم آخر حيث الحقيقة الأبديّة تحتضن الجمال الإلهيّ..
غيابك خسارة كبيرة للوطن والفنّ لا تُعوّض.
تستحقّ أعلى وسام وطنيّ كمبدع من بلادي.
محمد عزيزة لم يغب، بل فتح بابًا في لوحته، ودخل إليها، كما تقول الأسطورة الصينيّة، لكنّه لم يقفل الباب خلفه. أصبح جزءًا من لوحته.. هو باقٍ معنا..
* المصدر: البعد الخامس https://5d.darzamakan.com/
تعليقات: