عقارات الجنوب بعد الحرب تواجه عرضاً كبيراً بلا طلب
تعيش القرى الجنوبية اليوم على وقع نتائج الحرب الأخيرة، التي أنهكت بنيتها التحتية، ودفعت مئات العائلات إلى النزوح نحو بيروت أو المدن الكبرى. بعض القرى الحدودية بات شبه خالٍ، نتيجة الاستهدافات المتكررة، والوضع الأمني المتأرجح من جهة، وحال الدمار الشامل التي طغت على عدد كبير منها من جهة أخرى، في ظل غياب التعويضات، وتراجع القدرة المادية للسكان، وخوفهم من إعادة إعمار ما خسروه.
يفضّل عدد كبير من الأهالي الاحتفاظ بـ"قرشه الأبيض"، وعدم المجازفة في الاستثمار، فتتوجّه الأنظار وحقائب النزوح نحو مناطق صور والزهراني من الخطوط الأمامية، ما أحدث خللاً ديموغرافياً واقتصادياً واضحاً. وفي ظل هذا الواقع، برز ملف الأراضي والعقارات كواجهة للأزمة. بين مالك يبحث عن السيولة، ومشترٍ متردّد أمام ضبابية الأوضاع.
فرز عقاري فرضته الحرب
الحرب الأخيرة لم تُنتج دماراً فقط، بل فرضت واقعاً عقارياً وديموغرافياً جديداً. القرى الأمامية مثل عيتا الشعب، عيترون، ميس الجبل، بليدا وغيرها، فرغت بشكل شبه كامل من سكانها، بعدما تحوّلت إلى ساحات مواجهة مباشرة.
هذا النزوح الكثيف ولّد ضغطاً على المناطق الخلفية، حيث تركزت العائلات في مدينة صور وبعض قرى الزهراني التي تُعتبر أكثر أماناً. ومع هذا الانتقال، ارتفعت نسب الطلب على الإيجارات في تلك القرى، فيما بقيت القرى الأمامية معروضة للبيع أو الإيجار بأسعار منخفضة جداً بسبب غياب السكان والخدمات.
تفاوت بين العرض والطلب
في القرى الحدودية، ازداد عرض الأراضي والبيوت المدمّرة أو المتروكة، حيث يسعى بعض أصحابها إلى بيعها نتيجة النزوح الطويل أو انعدام القدرة على الترميم. أما في قرى الزهراني، فالوضع مختلف نسبياً، إذ لم تشهد المنطقة دماراً مباشراً، لكنها تأثرت بالركود الاقتصادي العام، ما جعل الحركة العقارية محدودة أيضاً.
وبحسب سماسرة محلّيين، السوق اليوم تشهد كثافة في عروض البيع مقابل طلب ضعيف جداً. الأهالي يعرضون بيوتهم وأراضيهم، لكن قلة فقط تقدم على الشراء. السبب يعود إلى عدم استقرار الوضع الأمني، إلى جانب المخاوف المرتبطة بالمستقبل الاقتصادي. وكما قال أحد السماسرة: "الناس تعرض، بس ما حدا عم يشتري فعلياً."
الأسعار قبل وبعد وقف إطلاق النار
قبل الحرب، كانت أسعار الأراضي في بعض القرى الحدودية تراوح ما بين 20 و50 دولاراً للمتر، بحسب القرب من الطريق العام أو توافر الخدمات. اليوم، وبعد وقف إطلاق النار، انخفضت الأسعار بما لا يقل عن 30 في المئة في معظم المناطق، مع تسجيل هبوط أكبر في القرى الأكثر تضرراً.
في المقابل، بقيت الأسعار شبه ثابتة في القرى البعيدة نسبياً عن المواجهات، كمنطقة الزهراني، حيث يفضّل المالكون التريّث في انتظار تحسّن الظروف.
بلال ترمس، صاحب مكتب عقاري في منطقة الصرفند، يقول لـ"المدن": بالنسبة إلى أسعار العقارات، حصل تغيّر بسيط فقط، ولم ترتفع بشكل كبير، خصوصاً في المناطق الحدودية. العرض في تلك المناطق كثيف جداً، لكن الإقبال لا يزال منخفضاً، بعكس ما نشهده حالياً من طلب متزايد على مناطق ساحل الزهراني والبلدات الأمامية. فمنطقة الزهراني تضم 17 ضيعة، وهي تشهد حالياً أعلى نسبة طلب، رغم أن الأسعار لم ترتفع كثيراً.
لكن لا بد من الإشارة إلى أنه قبل عام 2019، كانت الأسعار تُحتسب على أساس دولار 1500 ليرة، أما اليوم فهي بالكامل بـ"الفريش دولار"، ما أحدث فرقاً ملحوظاً.
وفي الزهراني، جميع المشاريع الكبرى هي مشاريع فرز ضخمة، تُباع بأسعار مناسبة وهناك إقبال واضح عليها. أسعار الأراضي بين 35 و40 دولاراً للمتر، وتصل في المناطق المرتفعة إلى حدود 70 دولاراً، أما على الساحل، فالمؤكد أنها أغلى.
بالنسبة إلى الإيجارات، هي تراوح حالياً بين 300 و500 دولار، وهناك طلب كبير جداً، خصوصاً في الزهراني. في السابق، كانت الإيجارات في المناطق الجبلية أرخص بكثير – أحياناً لا تتجاوز 150 دولاراً – أما الآن فارتفعت بشكل واضح. وطبعاً، هناك بعض المالكين الذين يستغلون الظرف الحالي.
أما العقارات، فهي ذات مساحات كبيرة – مثل 500، 700، أو حتى 1000 دونم – ويتم فرزها إلى قطع تراوح بين 1100 و1500 متر مربع، مع بنية تحتية متكاملة من طرق، كهرباء، إنارة وحدائق عامة. وهذا يُعدّ أوفر للراغبين في بناء بيت أو فيلا خاصة.
على سبيل المثال، في المروانية أو دير دوبية بمنطقة النجرية، هناك عقارات بمساحة 1100 متر، وتبدأ أسعارها من 45 ألف دولار وتصل إلى 70 ألفاً، بحسب الموقع والخدمات".
ويختم ترمس: "من يحرّك السوق العقاري في الجنوب اليوم هو المغترب اللبناني."
ويُشير إلى ظاهرة بدأت بالظهور في بعض القرى مثل دير أنطار، حيث باتت ملكية الأراضي محصورة بعائلات مقتدرة مادياً، ما يُغيّر من التوزيع العقاري التقليدي.
بين البائع والشاري
أبو علي، نازح من بلدة ميس الجبل، عرض أرضه في البلدة للبيع، لأنه فقد الأمل في العودة قريباً، وهو يحتاج إلى المال لتأمين معيشته في بيروت. يقول لـ"المدن": قبل الحرب، كان سعر الدونم بين 7 و8 آلاف دولار، أما اليوم فلا يوجد سعر موحّد." ويضيف: عرضت الأرض على أقاربي كي لا أخسر في السعر، وكي تبقى عقاراتنا ضمن العائلة، ولا يدخلها غريب.
في المقابل، يقول حسن، وهو شاب مغترب من منطقة صور، إنه اشترى عقاراً خلال الحرب في منطقة مجدلزون "بسعر لقطة"، مشيراً إلى أنها فرصة، لكون الأسعار منخفضة. ويضيف:
"وإذا الوضع استقر، سيرتفع سعر الأرض مرتين أو ثلاث مرات."
يرى مراقبون أن السوق العقاري في الجنوب سيبقى رهينة المعادلة الأمنية. فإذا استقرّت الأوضاع، قد يشهد السوق انتعاشاً تدريجياً يعيد الأسعار إلى ما كانت عليه قبل الحرب، خصوصاً في المناطق الخلفية مثل صور والزهراني.
أما القرى الأمامية، فتبقى رهينة مشهد الحرب والتهديدات المستمرة، ما يجعلها مناطق "عرض بلا طلب فعلي"، مع توقّع استمرار تراجع قيمتها على المدى القريب.
وبين انتظار الاستقرار وواقع النزوح، يبقى الجنوب اليوم أمام فرز عقاري جديد، يُوازي الفرز السكاني الذي فرضته الحرب.
موضوع ذات صلة: العقارات في الجنوب والبقاع الغربي.. استثمار واعد في زمن التحولات
تعليقات: