مي حسين عبدالله: يعيش الجنوب اللبناني منذ إعلان وقف إطلاق النار على وقع غارات واغتيالات متلاحقة، تتبدّل أهدافها لكنّ رسالتها واحدة
الجنوب اللبناني يعيش منذ إعلان وقف إطلاق النار على وقع غارات واغتيالات متلاحقة، تتبدّل أهدافها لكنّ رسالتها واحدة: أن لا رادع حقيقيّ أمام استباحة الأرض. آخرها كان في المصيلح، على مسافة قصيرة من منزل رئيس مجلس النواب، في توقيت يوازي توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. المفارقة فاضحة: في الوقت الذي تُعلَن فيه التهدئة في قطاعٍ محاصر، تُقصف قرى الجنوب كأنها خارج الجغرافيا الإنسانية والقانون الدولي معًا.
ليس القصف جديدًا، لكن الجديد هو الطمأنينة الإسرائيلية في الاستمرار بلا خشية من ردٍّ أو مساءلة. تُدير إسرائيل الجنوب كـ"منطقة رسائل"؛ تذكّر خصومها بقدرتها على الضرب متى تشاء، وتذكّر المجتمع الدولي بأنّ أحدًا لن يحاسبها. وهي تدرك أنّ لبنان المنهك اقتصاديًا والممزّق سياسيًا لن يغامر بحرب شاملة، وأنّ الردود المحسوبة ستبقى تحت السقف الذي لا يُقلق واشنطن.
من يتابع خريطة القرار يدرك أنّ الفاعلين الحقيقيين خارج الحدود هم الولايات المتحدة التي تفرض إيقاع "الهدوء المضبوط" في غزة، لكنها تغضّ الطرف عن الغارات في لبنان طالما تبقى محصورة جنوب الليطاني. إيران، بدورها، توازن بين دعمها للمقاومة ورغبتها في تجنّب مواجهة كبرى قد تستنزفها إقليميًا. أما سوريا، فتعود بخطوات دبلوماسية مدروسة عبر زيارات مسؤوليها، محاولةً اختبار حدود حضورها بعد الأسد.
في هذا السياق، يلفت الكاتب رافي مادايان إلى بعدٍ موازٍ لا يقلّ خطورة: تفكيك العلاقة اللبنانية–السورية عبر محاولة إلغاء المجلس الأعلى بين البلدين. هذا المجلس الذي وُلد عام 1995 بمبادرة من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لم يكن ثمرة وصاية، بل مشروعًا للتكامل الاقتصادي والقضائي المشرقي، صُمّم ليكون جسرًا طبيعيًا بين بلدين تجمعهما المصالح والتاريخ. إنّ السعي إلى إنهائه اليوم لا ينفصل عن السياق نفسه الذي يستهدف الجنوب؛ فكما تُقصف القرى لطمس هويتها الميدانية، يُلغى المجلس لطمس الذاكرة المشتركة والسياسة المشرقية التي كانت توازن النفوذ الغربي. هكذا يُستكمل الضغط على لبنان في البعدين معًا: بالنار على الأرض وبالعزلة على الطاولة.
وفي الداخل، يتقاطع هذا المشهد الإقليمي مع أداء القيادة اللبنانية ومسؤولية مؤسساتها في حماية الناس ومنع الانزلاق إلى الفوضى.
..
بين حكمة الدولة وحدود القوة
ما لا يمكن إنكاره أن أداء رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش في هذه المرحلة العصيبة يظهر درجة عالية من الحكمة والمسؤولية. فخامة الرئيس، الذي لم يكتفِ ببيانات الإدانة، بادر مع عقيلته إلى زيارة الأمّ المفجوعة بعائلتها في الجنوب، فكان حضورهما أكثر من لفتة إنسانية؛ كان رسالة رمزية عميقة بأن الدولة، رغم جراحها، لا تزال تتلمّس وجع الناس، وتشاركهم الحزن لا من فوق المنصّات بل من قلب البيوت المنكوبة.
لقد أعادت تلك الزيارة شيئًا من الثقة الغائبة بين المواطن والدولة، إذ شعر الناس بأنّ وجعهم ليس مادة إعلامية بل همٌّ وطنيّ يحمله رأس الدولة بإنصاتٍ واحتضانٍ أبويّ. وفي الميدان، يمارس قائد الجيش دورًا دقيقًا ومتوازنًا: يمنع الفوضى دون أن يستفزّ العدو، ويحافظ على كرامة المؤسسة العسكرية وسط عجزٍ سياسي وإقليمي خانق. نزاهته وحرصه على أن يبقى الجيش جيش الوطن لا جيش طرفٍ، هما ما يحولان دون انهيار ما تبقّى من هيبة الدولة.
لكنّ الحقيقة المؤلمة تبقى أن النوايا الحسنة لا تردع طائراتٍ تُحلّق خارج القانون، ولا تُسقط صاروخًا من كيانٍ صهيونيٍّ فاقدٍ لأيّ مبدأ إنساني أو أخلاقي. وفقًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، ما يجري في الجنوب يشكّل خروقًا ممنهجة لالتزامات دولة احتلال تستهدف مناطق مأهولة بصورة متكرّرة، ما يندرج ضمن هجمات غير متناسبة وفق المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول.
ـــــــ
نداء إلى أنصار المشروع الأميركي في الداخل
ليس في بناء الدولة ما يبرّر كسر طائفة أو إذلال منطقة. ولن تُبنى دولةٌ على أنقاض الجنوب، لأن الجنوب — بكل طوائفه وذاكرته وتضحياته — لا يُكسر. يمكن أن يُدمَّر حجرٌ أو يُهدم بيت، لكن لا تُهزم أرضٌ دفعت أثمان الكرامة من دمها. إلى الذين يراهنون على الخارج ويظنون أن الطريق إلى"الدولة الحديثة" تمرّ عبر واشنطن أو تل أبيب، ليحكّموا عقولهم: الدولة لا تُبنى بموطئ أقدام المحتلّين ولا بالاستقواء بالمال الأجنبي، بل تُبنى حين ينهض أبناء الوطن معًا — متساوين في الحقوق والوجع والأمل. من أراد دولة فعلًا، فليمدّ يده إلى شريكه في الوطن لا إلى من يعبث بخريطته. وليعلم أن الركام الذي يُداس عليه اليوم هو ما سيُقام عليه الغد إن أردناه وطنًا، وأن الجنوب ليس عبئًا على لبنان، بل عموده الفقري الذي ما انحنى إلّا ليحمل الوطن على كتفيه.
ـــــــ
بوّابات الأمل والعمل
إنّ الجنوب، بما يحمله من رمزية المقاومة والكرامة، لا يحتاج إلى مزيد من الرثاء، بل إلى رؤية وطنية خلاّقة تضع حدًّا لدورة الاستباحة وتفتح طريق النهوض. ولأنّ السيادة لا تُستعاد بالشعارات، فهذه خمس بوّابات للأمل والعمل معًا:
1. منصّة وطنية للمراقبة والتوثيق: إنشاء نظام رقمي مشترك بين الجيش واليونيفيل والبلديات لتوثيق كل غارة وخرق بالصوت والصورة والموقع، وتحويل كل ضربة إلى وثيقة قانونية أمام الرأي العام الدولي.
2. صندوق إعمار وتنمية الجنوب: بإدارة وطنية ورقابة شفافة، يُموَّل من تبرعات المغتربين والمؤسسات الدولية، ليحوّل القرى الحدودية من مناطق نزاع إلى نموذج للإنماء المقاوم.
يُدار الصندوق عبر مجلس أمناء مستقلّ يضم ممثلًا عن ديوان المحاسبة والجمعيات الرقابية، وتُنشر تقاريره فصلية لضمان الشفافية والمساءلة الوطنية.
3. مبادرة "الجنوب للسلام الإنساني": مشروع دبلوماسي تقوده رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية، يدعو وفودًا أوروبية وأممية لزيارة القرى المقصوفة والالتقاء بأمهات الشهداء، لإظهار أن الجنوب مجتمع يريد الحياة والعدالة.
4. الجامعة والمجتمع المدني: تحويل الجامعات — خصوصًا كليات التربية ، كلية الآداب والعلوم الانسانية وكلية العلوم الاجتماعية إلى مختبرات وطنية للتعافي النفسي والاجتماعي؛ طلاب الإرشادالتربوي والنفسي والاجتماعي رسل إلى المدارس والقرى لدعم الأطفال والأمهات.5. ميثاق وطني للجنوب: وثيقة جامعة يوقّعها رجال دين، رؤساء بلديات، أكاديميون وأمهات الشهداء، تؤكد أنّ الجنوب ليس ملفًا سياسيًا بل قضية كرامة ووجود.
وفي الحقول التيشوهها القصف واقتلع أشجارها المعمرة ، سيزرع الجنوبيّون الزيتون والغار والشيح من جديد؛ فكلّ غصنٍ أخضر هناك هو إعلانُ حياةٍ جديدة ورفضٌ لمحو اهل هذه الارض المباركة.
ـــــــ
ختاما ، دائما هناك نافذة أمل تتسلل منها النور فوق الركام، سينهض الجنوب كما اعتاد دائمًا. يمدّ يده للدولة لا ليستجديها، بل ليذكّرها بأنّها منه ولأجله. وإن كانت الطائرات تملك سماءً، فإنّنا نملك أرضًا لا تنكسر، وإيمانًا بالإنسان أقوى من أيّ قنبلة. الجنوب لا يطلب سوى أن تُسمع صرخته كحقّ، لا كخبرٍ عابر. هناك، تحت النار، تُصاغ ملامح دولةٍ جديدة إن أرادت أن تولد حقًا.
مي حسين عبدالله – 2025
تعليقات: