في زمنٍ يتكاثر فيه الدخان والرماد، ويعلو صوت المدافع على نداءات السلام، يبقى لبنان شمعةً في ليلٍ طويل، تحرسها إرادة أبنائه. لقد علّمتنا التجارب أنّ العدوّ الصهيوني لا يفرّق بين طائفةٍ وأخرى، ولا بين قريةٍ وجبل، بل يرى في كلّ لبنانيٍ حرٍّ خصمًا لمشروعه العدواني. ومن هنا، تولد ضرورة الوحدة الوطنية، لا كخيارٍ سياسي، بل كقدرٍ يفرضه الوجود ذاته.
الوحدة الوطنية ليست شعارًا يُرفع في الأزمات، بل هي روح لبنان التي لا تموت. حين يتوحّد اللبنانيون، تصبح الحدود جدارًا من العزّة، وتتحول الأعلام المختلفة إلى رايةٍ واحدةٍ تُظلّل الوطن كلّه. في مواجهة العدوان، لا مكان للانقسام، لأنّ الرصاص لا يسأل عن هوية الضحية، بل يستهدف الكرامة الجماعية لشعبٍ بكامله.
ليس السلاح وحده من يحمي لبنان، بل الإيمان بأنّ مصير أبنائه واحد. فالوطن لا يُبنى على الخوف أو الغضب، بل على التكاتف والتضحية. حين يضع اللبناني مصلحة وطنه فوق كل انتماء آخر، تتحوّل أرضه الصغيرة إلى مساحةٍ كبرى للكرامة والعزّة. الوحدة هنا ليست مجرّد اجتماع، بل اندماج في شعورٍ واحد: أن لا خلاص لأحدٍ من دون الآخر.
لبنان ليس بلدًا يليق به الانقسام، لأنّ تاريخه كتب بلغة الشراكة والمقاومة. في أحلك الأيام، حين انهارت الجدران وارتفعت الأنقاض، نهض اللبنانيون متشابكي الأيدي كمن يعيد بناء قلبه قبل بيته. هذه الروح، لا الصراعات السياسية، هي التي تحفظ الوطن. والعدوّ مهما اشتدّ بطشه، سيبقى عاجزًا أمام هذا النبض الذي يجمع أبناء لبنان تحت رايةٍ واحدة.
اليوم، فيما يتصاعد العدوان الصهيوني على الجنوب، يعود السؤال الأبدي: هل نسمح للخلاف أن ينتصر على الوطن؟ الجواب يجب أن يكون فعلاً لا قولاً. فالمطلوب هو أن تتحوّل الوحدة من موقفٍ عاطفي إلى ممارسةٍ يومية، في السياسة كما في المجتمع، في الإعلام كما في الشارع. لأنّ العدوّ لا يخاف من الصواريخ بقدر ما يخاف من شعبٍ موحّد الكلمة والموقف.
الوطن الذي قدّم الشهداء لا يُهزم، طالما بقيت قلوب أبنائه تنبض بإيمانٍ واحد. إنّ الوحدة الوطنية هي الردّ الأبلغ على العدوان، وهي الرسالة التي يجب أن تصل إلى العالم: لبنان لن يُكسر، لأنّ في كلّ حجرٍ من أرضه ذاكرة مقاومة، وفي كلّ قلبٍ من أبنائه وطنٌ صغير. فلنحفظ وحدتنا كما نحفظ أرواحنا، لأنّها السلاح الأخير في معركة البقاء والكرامة.
في قلب كل أزمةٍ لبنانية، يبرز الشباب كنبضٍ جديد يرفض اليأس ويؤمن بأنّ الوطن لا يموت. إنّ جيل الشباب هو الركيزة الأساسية للوحدة الوطنية، لأنّه الأبعد عن التعصّب، والأقرب إلى الإيمان بلبنان الواحد المتنوّع. لقد أثبتت التجارب أنّ طاقة الشباب قادرة على تحريك الجمود السياسي والاجتماعي، وتحويل الغضب إلى عمل، واليأس إلى مبادرة. في وجه العدوان الصهيوني، لا يكتفي الشباب بالمقاومة في الميدان فحسب، بل يقاومون أيضًا في العلم والثقافة والإبداع، ليبنوا وطناً يليق بتضحيات من سبقوهم. فالوحدة الوطنية تبدأ من وعي هذا الجيل، وتستمر بعزيمته التي لا تعرف الانكسار.
حين تتوقف المدافع ويخفت صدى العدوان، يبدأ لبنان معركته الثانية: معركة إعادة الإعمار. فإعادة بناء ما دمّره العدو ليست مجرّد ترميمٍ للحجارة، بل إحياءٌ للروح اللبنانية التي لا تنكسر. كلّ بيتٍ يُعاد بناؤه هو شهادة على صمود شعبٍ آمن بأنّ الكرامة أغلى من العمر. إنّ الوحدة الوطنية لا تنتهي عند صدّ العدوان، بل تستمر في ورش العمل، في المدارس، في الحقول، وفي كلّ يدٍ تحمل طوبة الأمل لتشيّد بها مستقبلاً جديدًا. فالإعمار الحقيقي هو حين يتّحد اللبنانيون من جديد على محبّة وطنهم، ليكتبوا معًا فجر لبنانٍ أقوى، أنقى، وأجمل من قبل.
راشد شاتيلا مختص في الذكاء الاصطناعي و إدارة البيانات
تعليقات: