قطاف زيتون الجنوب بتصاريح مسبقة وقيود أمنيّة


في مشهدٍ يختصر عبثيّة الواقع المستجدّ، يُطلب إلى المواطن الجنوبيّ في القرى الحدوديّة اليوم لقطاف زيتوناته الحصول على ”تصريح مسبق“ أو ”إذن مسبق“ بعد تقديم طلب يحدّد فيه الاسم الكامل، وعدد العمّال المرافقين، ورقم الهاتف، بل وحتّى صورة السيّارة التي ستنقل صاحب الأرض.

فمع حلول موسم قطاف الزيتون، أصدر عدد كبير من البلديّات الحدوديّة في الجنوب منها: الخيام، بليدا، كفركلا، حولا، ميس الجبل، راميا وغيرها، بيانات أعلمت فيها الأهالي أنّه جرى الاتّفاق مع الجهات الأمنيّة المعنيّة، على تنظيم الأعمال الزراعيّة من خلال تقديم طلبات مسبقة أو تحديد أيام للقطاف سعيًا إلى ضمان سلامة المواطنين. واختلف الأهالي بين من اعتبر ذلك إجراءً احتياطيًّا لكنه لا يضمن أمنهم، وبين من رفض الأمر معتبرًا أنّها تعليمات مفروضة بشكل غير مباشر من قبل العدوّ الإسرائيليّ، عبر قوّات ”اليونيفيل“.

وقد أُرفق طلب البلديّات بتحديد الأيّام والأوقات والمناطق التي سيتاح للأهالي التردّد إليها بمرافقة الجيش واليونيفيل. وهي في المحصّلة قيود ليس لها تفسير آخر سوى أنّها استكمال للإجراءات التي تؤدّي إلى خنق الجنوب أمنيًّا ومعيشيًّا واقتصاديًّا، وتكريس سيطرة الاحتلال على حياة أهل المنطقة الحدوديّة المتاخمة تحت غطاء ”مشرعن“ دوليًّا، في ظلّ عجز لبنانيّ رسميّ واضح.


موسم القطاف بموافقة مسبقة

لطالما كان موسم الزيتون في جنوب لبنان أكثر من مجرّد موعد زراعيّ. هو طَقسٌ من طقوس الانتماء، وعصبٌ اقتصاديّ لآلاف العائلات التي تنتظر هذا الموسم كي تحصّل جزءًا من قوتها السنويّ. لكنّ هذا الموسم أتى مختلفًا، إذ يُطلب إلى أصحاب البساتين والأشجار اليوم تقديم بيانات شخصيّة ومعلومات تفصيليّة عن أراضيهم لتحصيل ”الموافقة“ على الوصول إليها بمرافقة أو حضور الجيش اللبنانيّ. وبحسب المعلومات، تشترط الإجراءات الجديدة، التي تتّخذ لبضعة أيّام، أن تتضمّن تفاصيل دقيقة حول كلّ شخص والنشاط الزراعيّ، وتشمل الاسم الثلاثيّ للشخص المعنيّ، الموقع الدقيق للأرض الزراعيّة، نوع العمل المطلوب (قطاف، تشحيل، حراثة، قصّ أو نقل حطب)، عدد العمّال المشاركين، رقم الهاتف للتواصل، صورة السيارة التي ستتواجد في موقع العمل.


بلديّة بليدا: لحماية الأهالي

اعتبر رئيس بلديّة بليدا حسّان حجازي، أنّ مسألة التنسيق مع الجيش في موسم الزيتون ليست جديدة في القرية، بل هي إجراء قديم، يُنسّق سنويًّا نظرًا إلى قرب أراضي الزيتون من السياج الحدوديّ. وتابع لـ ”مناطق نت“: ”هذه السنة تم اعتماد طلبات جماعيّة وتشديد الإجراءات بغية زيادة شبكة الأمان للأهالي“.

ويشير حجازي إلى أنّ ”موسم الزيتون هذا العام ضعيف جدًّا، ولا يتجاوز الـ 10 في المئة من المواسم المعتادة“، موضحًا أنّ ”قسمًا كبيرًا من الأراضي تعرّض للحرق أو للجرف، بينما الأراضي المتبقيّة لا تحمل محصولًا وفيرًا“. ويضيف أنّ ”قسمًا من الأهالي بدأ فعلًا بالقطاف، وأنّ الجيش يرافق المزارعين يوميًّا قدر المستطاع، على رغم محدوديّة عديده“.

كشف حجازي عن أنّ ”عدد العائلات التي عادت إلى البلدة منذ وقف إطلاق النار يبلغ نحو 200 عائلة، أيّ ما يقارب الـ 50 في المئة من العدد الإجماليّ الذي كان مقيمًا في البلدة قبل العدوان“، مشيرًا إلى أنّ إجراءات التنسيق تسير بسلاسة حتّى الآن.


مناطق حمراء في كفركلا

يؤكّد رئيس بلديّة كفركلا، حسن شيت، لـ ”مناطق نت“، وجود تنسيق وثيق بين الأهالي والجيش اللبنانيّ والبلديّة خلال موسم قطاف الزيتون وقبل ذلك. ويوضح أنّ ”الجيش بدأ بالتواجد مع بعض الأهالي منذ لحظة دخولهم إلى الأراضي وحتّى انتهاء أعمالهم وعودتهم، وذلك ضمن المناطق المسموح العمل فيها“.


شيت: ليس جميع أراضي كفركلا متاحٌ الوصول إليها، إذ توجد مناطق ‘حمراء‘ لا يمكن حتّى للجيش مرافقة الأهالي إليها


ويلفت إلى أنّ ”أيّ مواطن يرغب في دخول أرضه بمرافقة الجيش يمكنه التوجّه مباشرة إلى مراكز الجيش المنتشرة في المنطقة أو تقديم طلب عبر البلديّة؛ إذ يزوّد المواطن الجيش بالمعلومات اللازمة وينتظر الموافقة ثمّ يتولّى الجيش اتّخاذ الترتيبات اللازمة لمرافقته طوال فترة وجوده في القرية“.

هذا ما أكده أحد أبناء كفركلا عباس سرحان، الذي ذهب لقطاف زيتوناته قبل أيّام، إذ قال لـ ”مناطق نت“: ”أبلغنا الجيش بموقع الأرض والتفاصيل، فأخذنا الموافقة، وتمّ إرسال عناصر لمرافقتنا إلى المكان، وبقيوا معنا طوال فترة العمل“. ويوضح أنه لم يتعرّض لأيّ مضايقات أو حوادث خلال ذلك. لكنّ شيت (رئيس البلدية) يؤكّد أنّ ”ليس جميع أراضي البلدة متاحٌ الوصول إليها، إذ توجد مناطق ‘حمراء‘ لا يمكن حتّى للجيش مرافقة الأهالي إليها، بسبب خطورتها الأمنيّة أو قربها الشديد من الحدود“.

أمّا حول الوضع الأمنيّ في محيط الأراضي الزراعيّة، فيوضح شيت أنّه ”على رغم عدم بدء موسم القطاف فعليًّا بعد في كفركلا، إلّا أنّ بعض المناطق تشهد اعتداءات متقطّعة وتحرّكات للطائرات المسيّرة (الدرون)“.

من ناحيتها، تؤكّد منى عواضة التي كانت قد توجّهت، إلى منطقة الشخروب في كفركلا لقطاف الزيتون، أمام ”مناطق نت“ أنّها لم تلجأ إلى استحصال أيّ إذن مسبق. وعن الإجراءات الجديدة تعلن منى رفضها القاطع لها، وتقول: ”أنا ضدّ هذه الفكرة تمامًا. لا يمكن أن نعود إلى أيام نأخذ فيها تصاريح كي نقطف زيتوننا في أرضنا“. وتلفت إلى أنّه خلال تواجدها هناك، كانت ”الدرون تحلّق فوقنا بشكل منخفض تقريبًا“.


أراضٍ جُرفت أو أُحرقت

يوصّف عبّاس فقيه، الذي جرف الاحتلال معظم حقولها في كفركلا، لـ ”مناطق نت“ واقع موسم الزيتون هذا العام بأنّه ضعيف جدًّا، ”إذ إنّ عديدًا من الأراضي الزراعيّة دُمّرت بفعل الحرب، إذ اقتلع زيتونها أو جُرّف أو حُرق، أو أصبحت غير متاحة“. ويقول إنّ ”الزيتون في البلدة هذا العام ”غير حامل“، أيّ لا إنتاج يُذكر“، مشيرًا إلى أنّ هذا الوضع لا يقتصر على كفركلا وحدها.

ويضيف أنّ هناك أيضًا ”كلفة وصول إلى الأراضي، إذ إنّ أبناء البلدة يسكنون خارجها، عدا عن خسارة معظم الأدوات اللازمة التي تُستعمل عادة في قطاف الزيتون بفعل الحرب، ما يجعل الأمر مُكلفًا في ظلّ ضعف المحصول، بالإضافة إلى وجود خطر على حياة الناس“.

”سنذهب من النبطية لنعمل يوميًّا في كفركلا، وننتهي بجمع دلوين اثنين من الزيتون، عدا عن أجرة العمّال، لذا نحن وغيرنا نؤثر شراء الزيتون أو الزيت مباشرة بدلًا من المخاطرة في الذهاب إلى الأراضي“، يقول فقيه.

أمّا عن الآليّة التي دعت إليها البلديّات، فيشير فقيه إلى ”أنّها تشبه إلى حدّ كبير ما كان يجري إبّان فترة الاحتلال، مع فارق أنهّا اليوم أقلّ ضمانًا للسلامة؛ ففي زمن الاحتلال، كان الأمر واضحًا: إمّا أن تُمنح الموافقة أو لا تُمنح. أمّا اليوم، فحتّى لو أُعطيتَ الموافقة وكان الجيش برفقة الأهالي، فإنّ الإسرائيليّ إذا قرّر التعدّي سيفعل ذلك، مبرّرًا هجومه بأنّ ‘أحدهم كان يعمل على إعادة تأهيل بنى تحتية‘“، على حدّ قوله، معتبرًا أنّ ”الدولة والمعنّيين لم يعطوا أهمّيّة كافية للموضوع“.

يتحدث فقيه بحسرة عن خسارة عائلته مساحات واسعة من أراضي الزيتون نتيجة جرفها من قبل الاحتلال، والتي كانت مزروعة بعشرات أشجار الزيتون، والتي ”اختفت تمامًا“، كما يقول. ويضيف أنّه ”حتّى الطرق المؤدّية إلى بعض الحقول المحاذية جُرفت بالكامل أيضًا، ما يجعل الوصول إليها مستحيلًا حتّى لو توافرت التصاريح“.


استنكار ورفض للإجراءات

وصولًا إلى بلدة حولا، إذ يوضح الناشط الاجتماعيّ زياد غنوي أنّ الأهالي لا يتقدّمون إجمالًا بأيّ طلبات رسميّة للحصول على موافقات مسبقة للقيام بقطاف الزيتون، حيث إنّ معظم الكروم تقع بالقرب من المنازل. ويتابع لـ ”مناطق نت“: ”بعض الناس يسألون عن التفاصيل، لكن لم يتقدموا بطلب رسميّ. من يردِ الذهاب إلى أرضه يذهبْ على مسؤوليّته الشخصيّة“.


فقيه: هذا يشبه إلى حدّ كبير ما كان يجري إبّان فترة الاحتلال، مع فارق أنهّا اليوم أقلّ ضمانًا للسلامة؛


وينقل غنوي أنّ ”جزءًا كبيرًا من الأهالي غير راضٍ عن تلك الإجراءات، وأن بعضهم يفضّل الامتناع عن القطاف، إذا كان يتطلّب الخضوع إلى تلك الإجراءات“، ويستطرد ”لكن ذلك لا ينفي أنّ البعض قد يفضّل أن يأخذ إجراءات احتياطيّة وينسّق مع البلديّة“. ويؤكّد أنّ ”معظم بساتين الزيتون تقع في الجهة الغربيّة من البلدة، وقريبة من المنازل، بينما المنطقة الشرقيّة الحدوديّة مرتفعة ولا تحتوي على بساتين زيتون صالحة تُذكر“.


في راميا: ”الجيش معنيّ بحمايتنا“

يوضح المهندس حسين صالح، أحد أبناء بلدة راميا لـ ”مناطق نت“ أنّ ”كلّ تحرّك في راميا، كمواراة موتى أو غيرها، يمرّ عبر اتّصالات مع مخابرات الجيش واليونيفيل، وهي آليّة قديمة وليست مستحدثة منذ وقف اطلاق النار“.

أمّا عن التفاصيل التي تطلبها البلديّات اليوم فيعتبر ذلك ”يُساهم في تزويد الاحتلال بمعلومات ميدانيّة إضافيّة“. ويضيف: ”نحن تحت الاحتلال بالدرونات والقصف والرصاص، ولسنا مضطرّين إلى ترسيخ هذا الواقع عبر إعطائه بيانات عن تحرّكاتنا“.

ويؤكّد أنّ الجيش اللبنانيّ هو الجهة المسؤولة عن حماية الأهالي. أمّا بالنسبة إلى الواقع الميدانيّ المستجدّ، فيلفت صالح إلى أن ”راميا شبه خالية من السكّان، إذ لا تزال البلدة مهجورة تقريبًا، ولم يبدأ موسم القطاف فيها بعد“.


ترتيبات ميدانيّة حدوديّة

من جهتها، وفي إطار الاستعداد لقطاف الموسم، أعلنت بلديّات عيترون وراميا وميس الجبل وحولا وبليدا وغيرها من البلديات، عن ترتيبات ميدانيّة بالتنسيق مع قيادة الجيش اللبنانيّ لتأمين موسم القطاف. وأفادت بلديّة عيترون أنّ الأهالي يمكنهم التوجّه إلى كروم الزيتون المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلّة، وفقًا للخرائط المرفقة، ما بين 14 و18 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2025، من الساعة السابعة صباحًا وحتّى السادسة مساءً، إذ ستواكبهم دوريّات من الجيش اللبنانيّ وقوّات اليونيفيل.

وفي السياق نفسه، أعلنت بلديّة راميا أيضًا عن تخصيص أربعة أيّام متتالية (14 و15 و16 و17 تشرين الأوّل) لقطاف الزيتون في حقول البلدة، بمواكبة من الجيش وقوّات اليونيفيل، مع العمل على تمديد هذه الفترة لتأمين الوقت الكافي لاستكمال الموسم، دون الحاجة إلى تقديم أيّ تفاصيل مسبقة من الأهالي، وفق ما أكّدت البلديّة لـ ”مناطق نت“.

من ناحيتها أعلنت بلديّة ميس الجبل أنّ الجيش اللبنانيّ ومديريّة المخابرات وقوّات اليونيفيل، سيواكبون المزارعين خلال موسم قطاف الزيتون إلى حقولهم في منطقتيّ طوفا والبياض في مدينة ميس الجبل، وذلك اعتبارًا من نهار الخميس الـ 16 من تشرين الأوّل 2025 حتّى الاثنين الـ 20 منه ضمنًا، ومن الساعة 7:00 صباحًا حتى الساعة 6:00 عصرًا.

وأعلنت البلديّة ”أنّ هذا الإجراء سيكون في سبيل خدمة أهلنا ولضمان سلامة المزارعين، وأصحاب البساتين في منطقتيّ طوفا والبياض خلال فترة القطاف والتشحيل وقصّ الأعشاب والحراثة، وغيرها من الأعمال الزراعيّة. وتم تبليغ البلديّة رسميًّا من قبل الجيش اللبنانيّ بهذا الإجراء لإعلام الأهالي“.

زيتون كفركلا قرب الجدار الفاصل
زيتون كفركلا قرب الجدار الفاصل


زيتون معمّر جرّفته قوات الاحتلال في كفركلا
زيتون معمّر جرّفته قوات الاحتلال في كفركلا


قطاف الزيتون في حولا
قطاف الزيتون في حولا


تعليقات: