العدالة رهينة والفساد يحكم.. والدولة على مقصلة المحاصصة

حين تُختَطف الدولة من داخلها: هل نحن أمام ممثلين للدستور أم شركاء في الانهيار؟
حين تُختَطف الدولة من داخلها: هل نحن أمام ممثلين للدستور أم شركاء في الانهيار؟


في بلد تتكاثر فيه الأزمات وتتآكل فيه المؤسسات، لم يعد خفيًا أن بعض القوى السياسية في لبنان لا تستخدم مواقعها في الدولة لخدمة الناس أو بناء مؤسسات فعالة، بل لتكريس وجودها فوق الدولة وفرض مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة. المشكلة ليست في الدستور ولا في القوانين، بل في أولئك الذين يتعمّدون تعطيلها أو يطبقونها بانتقائية، ويحكمون عبر شبكة مصالح تتحكّم بكل مفاصل الدولة، وتُخضع الإدارات لمشيئة الزعامات والأحزاب، لا لسلطة القانون.

من هم فعلاً ممثلو الدولة؟

أمام هذا الواقع، يحقّ للناس أن يسألوا: هل من يتربعون على كراسي الحكم ويمثلون الدولة هم فعلاً حُماتها؟ أم أنهم شركاء صامتون أو مباشرون في تفريغها من معناها؟ الصمت أمام الفساد، مسايرة المحاصصة السياسية والطائفية، أو التغاضي عن تعطيل المؤسسات، لم يعد موقفًا يمكن تبريره كحكمة سياسية أو حفاظًا على التوازنات، بل أصبح تواطؤًا واضحًا. في اللحظات المصيرية، الحياد ليس براءة، بل مشاركة في الجريمة.

القوانين لا تعاني من الضعف، بل من التعطيل المتعمّد الدستور اللبناني ليس المشكلة، بل هو الضحية النصوص موجودة والمواد واضحة، لكن هناك من .يخاف تطبيقها لأنها تهدّد مصالحه.

القوانين تُعطّل حين تضرب أوكار الفاسدين، وتُفعّل فقط حين تخدم أصحاب النفوذ. من انتخاب رئيس الجمهورية إلى التعيينات القضائية، ومن تشكيل الحكومات إلى التلزيمات والمناقصات، تحوّلت الاستحقاقات من إجراءات دستورية إلى أدوات للمقايضة والابتزاز السياسي. وتحوّلت المؤسسات إلى ساحات لتقاسم النفوذ، بدل أن تكون أدوات لخدمة الناس.

تفعيل الرقابة واستقلال القضاء: الطريق إلى تطهير الدولة من شبكات الفساد

لا دولة من دون محاسبة، ولا محاسبة من دون قضاء، ولا قضاء من دون استقلالية. بناء دولة القانون يبدأ بتطبيق مبدأ الرقابة الفعلية، وتمكين القضاء من العمل بحرية كاملة. الفاسدون لم يعودوا على أطراف الدولة، بل أصبحوا متغلغلين في كل مفاصلها، محميين من قبل زعامات تتصرف وكأن الدولة مزرعة خاصة. ولا يمكن مواجهة هذا الواقع إلا عبر مؤسسات رقابية وقضائية مستقلة ومحصّنة من التدخل السياسي، تملك الصلاحيات والغطاء الشعبي والقانوني للقيام بدورها. كل محاولة لكشف الفساد تُواجه اليوم بـ”فيتو سياسي”، وكل قاضٍ نزيه يُستهدف لأنه يهدد شبكات المصالح، وفي هذا السياق، من اللافت أن تجد ضوابط القضاء النزيه منصوصة منذ قرون في تراثنا السياسي، كما جاء في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر، حيث قال:

«ثُمَّ اختَرْ لِلحُكمِ بَينَ النَّاسِ أفضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفسِك مِمَّن لا تَضيقُ بهِ الأُمُورُ، ولا تَمحَكُهُ الخُصُومُ، ولا يَتَمادَى في الزَّلَّةِ، ولا يُحصَرُ منَ الفَيءِ إلى الحَقِّ إذا عَرَفَهُ، ولا تَشرُفُ نَفسُهُ على طَمَعٍ، ولا يَكتَفِيَ بأدنَى فَهمٍ دونَ أَقصَاهُ، وأَوقَفَهُم في الشُّبُهاتِ، وآخَذَهُم بالحُجَجِ، وأقلَّهُم تَبَرُّمًا بمُراجَعَةِ الخَصمِ، وأصبَرَهُم على تَكشُّفِ الأُمُورِ، وأصرَمَهُم عندَ اتِّضاحِ الحُكمِ، مِمَّن لا يَزدَهِيهِ إِطرَاءٌ، ولا يَستَمِيلُهُ إِغراءٌ. وأُولَئِكَ قَلِيلٌ.ثُمَّ أَكثِرْ تَعاهُدَ قَضَائِهِ، وأَفسِحْ لهُ في البَذلِ ما يُزيلُ عِلَّتَهُ، وتَقِلُّ معهُ حاجَتُهُ إلى النَّاسِ. وأَعطِهِ منَ المَنزِلَةِ لَدَيكَ ما لا يَطمَعُ فيهِ غَيرُهُ من خَاصَّتِكَ، لِيَأمَنَ بذلكَ اغتِيالَ الرِّجَالِ لهُ عندَكَ. فَانظُرْ في ذلكَ نَظَرًا بَلِيغًا، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قد كانَ أَسِيرًا في أَيدِي الأَشرَارِ، .يُعمَلُ فيهِ بالهَوَى، وتُطلَبُ بهِ الدُّنيَا».

هذا النص ليس مجرد وثيقة تراثية، بل معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا حاسمًا: القاضي النزيه لا يُختار على أساس الولاء، بل على أساس الكفاءة والضمير الحي، والقدرة على مقاومة الضغوط والإغراءات، والوقوف على قدم المساواة مع كل الخصوم. وما أشدّ .حاجتنا اليوم إلى أمثال هؤلاء.

القوانين لا تعاني من الضعف، بل من التعطيل المتعمّد الدستور اللبناني ليس المشكلة، بل هو الضحية النصوص موجودة والمواد واضحة، لكن هناك من .يخاف تطبيقها لأنها تهدّد مصالحه.

إذا فسد القضاء… عمّ البلاء

القضاء هو خط الدفاع الأخير عن الدولة. وإذا خضع للقوى السياسية، أو تردّد في مواجهة الفاسدين، أو تواطأ معهم، انهارت العدالة، وسقطت هيبة الدولة حينها لا يعود الفساد استثناءً، بل يتحوّل إلى نظام حكم، ويُصبح المجرم مطمئنًا لأنه يعرف أن المحاسبة لن تطاله، وأن القانون لن يُطبّق عليه. فإذا فسد القضاء… عمّ البلاء، وانهارت الدولة من داخلها. من هنا، لا إصلاح من دون تحرير القضاء، ولا دولة من دون عدالة مستقلة وشجاعة

لا دولة تُبنى على تدوير الزوايا

لا يمكن أن يقوم عماد أي دولة من خلال التسويات الهشّة وتدوير الزوايا. العدالة لا تُساوَم، والقضاء لا يُدار بالتراضي. لا إصلاح من دون قضاء نزيه، حرّ، كريم، قائم على الكفاءة والعلم والمعرفة، ومحصّن بالقيم الوطنية والضمير الحي. كل محاولة لتجاوز هذه القاعدة تحت عنوان “الواقعية” أو “التوازنات” ليست إلا تشريعا لزيف الدولة، وتكريسًا لفكرة أن العدالة خاضعة للتفاوض. وحين تصبح العدالة عرضة للتقاسم، تسقط الدولة أخلاقيًا، قبل أن تسقط سياسيًا، اقتصاديًا، واجتماعيًا

في الختام، لبنان لا يحتاج إلى دستور جديد، بل إلى إرادة سياسية تحترم الدستور الموجود وتُطبقه كما هو. الدولة لا تسقط فقط بسبب التدخلات الخارجية أو الأزمات المالية، بل تسقط حين يتحول من هم داخلها إلى أدوات لتشريع الفوضى، وتجميل الفساد، وتبرير التعطيل. والسؤال الصريح الذي لم يعد يمكن تجاهله هل أنتم فعلاً ممثلو دولة القانون؟ أم شركاء في منظومة تهاب العدالة، وتخشى المحاسبة، وتحارب كل من يجرؤ على تفعيل القانون؟

تعليقات: