تهجيرنا المستمر من الجنوب: لن نعود

منزل مدمر في عيترون - هل يقوى الجنوب على إعلان حياده عن الموت والدمار والإنسانية (خضر حسان)
منزل مدمر في عيترون - هل يقوى الجنوب على إعلان حياده عن الموت والدمار والإنسانية (خضر حسان)


أجبَرَتنا غارات العدوّ الإسرائيلي على الخروج من القرية على عجل. كنت أبتعد عن قريتي عبر طرق سلكتها باستمرار لسنوات، لكنّها ظُهر يوم الإثنين 23 أيلول 2024، بَدَت غير مألوفة. كل ما صادفته يومها لم يكن مألوفاً. الخروج الهستيري للناس من منازلها، أصوات الطائرات والغارات التي لا تتوقّف، الأنباء المتواصلة عن استهداف المنازل، الدخان الأسود في كل الاتجاهات، شبّان يحاولون إرشاد سائقي السيارات إلى الطرق السالكة بين القرى باتجاه الأوتوستراد المؤدّي إلى شمال نهر الليطاني، المحاولات الفاشلة للتواصل مع الأهل عبر الهاتف، وجهة الوصول، مكان المبيت، كم سيطول غيابنا؟... والكثير من التساؤلات التي بقيت بلا إجابة، ولم تخرج إلى العلن حينها، فكل ما كان يهمّني هو الوصول إلى مدخل مدينة صيدا التي تُعتَبَر آمنة.

ذلك الإثنين كان يفترض أن يمرّ روتينياً. حتّى الغارة التي أيقظتنا في السادسة والنصف صباحاً، كانت روتينية. سلسلة الغارات التي شكَّلَ بها العدوّ حزاماً نارياً حول القرى، كان يمكن تخطّيها، فبعد نحو 11 شهراً من القصف الإسرائيلي، اعتدنا بعض التصعيد. لكن لم يكن في الحسبان انفلات التصعيد إلى حرب شاملة ومفاجئة.

أصبحنا مهجّرين

بضع ساعات بعد التصعيد الصباحي، بتنا مهجَّرين. حملت عائلتي إلى احتمالات مفتوحة، أوّلها عدم العودة إلى قريتي "معركة" في قضاء صور. ولم يكن هذا الاحتمال بعيداً، فصديقي الذي استقبَلَنا في منزله، هُجِّرَ من قرية عيترون الحدودية، في 8 تشرين الأول 2023، ولا يزال. ولخبرته مع التهجير، أصبح منزله المُستأجَر مأوى للمهجَّرين الواصلين إليه بعد أكثر من 12 ساعة من قيادة السيارة من معركة إلى صيدا، وهي مسافة تحتاج في أسوأ الحالات إلى نحو نصف ساعة.

التهجير مع عائلة ومسؤوليات وسط حرب قاسية، يولّد مزيجاً من الشعور بالغضب والخوف، وهو نفسه يدفع إلى رفض الانهيار والإحباط، ويكتنز موقفاً تلقائياً بتحدّي همجية العدو ومجازره اليومية. وأصعب ما في التحوّل إلى مهجَّر، هو اعتياد ما بدا جديداً، كالمنزل، الحيّ، الجيران، محال البقالة، الحلاّق، الفرن... وخطورة الاعتياد هو التطبيع الذي يزيل، مع الوقت، رهبة الجديد ومجهوله.

لا عودة إلى الوراء

توقّف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني من ذلك العام، وعدنا إلى منازلنا. متناسين لبرهة أنّ سكّان القرى الحدودية لن يعودوا معنا. بدأنا استرجاع يومياتنا ببطء، ومع ذلك، وُلِدَ شعور غريب في داخلي: لم أستعِد كل شيء بل تعايشت مع واقع جديد.

ركام بيوت ما زلت أمرّ قربها يومياً. صُوَرُ أشخاص اغتالتهم إسرائيل، بعضهم لم يكن مقاتلاً. وجولات على القرى الحدودية كانت كفيلة بالجزم أنّ لا عودة إلى الوراء، وما خسرناه لن يُعَوَّض، والجنوب لم يعد جنوبنا. فبيوت عيترون، ميس الجبل، حولا، كفركلا... تُنبىء بأنّ المستقبل القريب سيبقى قاتماً. أمّا ركام مارون الراس وجمال بساتين التفاح ومستعمرات العدو في الطرف المقابل، فتؤكِّد أنّنا في رُكن المهزلة من مقولة كارل ماركس، أنّ "التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة". فالمأساة عشناها بسرعة على وقع الغارات والمجازر ومصاعب التهجير، ونحن اليوم في مهزلة وقف إطلاق النار من جانب واحد واستمرار الخوف من عودة الحرب والتهجير، وخوف أكبر من خسارة القرى الحدودية حين يقرّر العدوّ بغطاء دولي أنّه يريدها منطقة عازلة فارغة وكأنّ لا بشرَ يملكون فيها أرضاً ولا ذكريات.

مخاوف تجعلها التحوّلات السياسية في المنطقة والعالم احتمالات أكثر واقعية. فنحن في بلدان رسمتها تحوّلات ما بعد الحرب العالمية الأولى، ورغم شعارات التحرّر وملايين الضحايا، لا نزال أسرى التحوّلات. فهل يَقوى الجنوب وحده على فكّ ارتباطه بالعالم وإعلان حياده عن الموت والدمار والإنسانية؟

كل ما في الجنوب اليوم أسير التهجير القسري. فعودتنا شكلية وكأنّنا لم نعد. هو التهجير المستمر في الذاكرة والوعي واللاوعي والاحتمالات المقزّزة والمقيتة. أجزم بأنّ في جوهر كل جنوبيّ هجرة مستمرة تستحيل معها العودة.

تعليقات: