
بلدية الحدث تحذر من بيع واستئجار البيوت قرار البلدية مخالف للدستور اللبناني الذي يكفل لكل مواطن حق التملك والسكن (مصطفى جمال الدين)
لتبقى الحدت بلدة لأهلها، ما تِبِيع، وما تأجّر بيتك. ما تِبِيع، وما تأجّر أرضك... البلدية ما رح تمضيلك.
بهذا الشعار الذي رفعته بلدية الحدث" أو "الحدَت" كما يصرّ بعض أبنائها على نطقها، في كافة شوارعها، رسمت قاعدة حياة جديدة في منطقةً يُختلف حتى على اسمها. اختلافٌ ظاهريّ يخفي صراعًا أعمق حول من يُسمح له أن يسكن فيها، ومن يُعتبر "غريبًا" عنها. هذه البلدة التي تلاصق الضاحية الجنوبية لبيروت، تحوّلت على مرّ السنوات إلى خط تماس ديموغرافي أكثر منها بلدةً مدنية.
منذ انتهاء الحرب الأهلية، ظلت الحدت تحمل هواجس "الهوية" والخوف من "الاختراق". جدرانها العالية ليست من إسمنتٍ فقط؛ بل من قلق طائفيّ متجذّر. في بيوتها وأزقتها تُروى قصص عن تضييقٍ على المستأجرين المسلمين، وتحذيراتٍ من تأجير "غرباء". تمارس البلدية دورها كحارسٍ للانتماء قبل أن تكون حارسًا للنظام العام.
تنظيف المنطقة
منذ سنوات، تتكرر شكاوى عن إجراءات بلدية تلامس التمييز الطائفي غير القانوني. وحالياً أكثرت البلدية من اللافتات الآنفة الذكر، ونشرتها في جميع أنحاء المنطقة، ولا سيما بالقرب تماثيل القديسين.
إحدى السيدات المسيحيات في الحدت، تحدّثت لـِ "المدن" عن حادثةٍ كشفت هذا المنطق بوضوح. كانت تقوم بأعمال ترميم في مبناها الخاص، حين أوقفت الشرطة البلدية الورشة بحجة وجود مخالفة. تبيّن لاحقًا أن السبب الحقيقي لم يكن البناء بحد ذاته؛ بل كونها أجّرت شقة لعائلة شيعية. وعندما حاولت الاعتراض، جاءها الردّ الصريح من أحد عناصر البلدية: "عم ننضّف المنطقة من الشيعة والدواعش".
ومثال آخر يوضح مدى تأثير الانقسامات الطائفية على حياة الناس اليومية: بعد وقف إطلاق النار، تضرّر منزل منى في منطقة الجاموس، فقررت استئجار بيت قريب من الحدت، ليكون بالقرب من بيتها في الضاحية، وعملها وقد أعجبتها الشقة، وأخبرتها صاحبتها أنها موافقة على الإيجار. لكن في اليوم التالي، عندما ذهبت لتوقيع العقد، سألتها صاحبة المنزل عن ديانتها، فأجابت أنها مسلمة شيعية. حينها رفضت صاحبة الشقة تأجيرها، قائلة إن ابنتها لا تقبل أي مستأجر من هذه الطائفة، وأن البلدية لن تُسجّل العقد. ولم يبقَ أمام منى سوى أن تُرمّم منزلها المتضرّر وتستقر فيه.
تنظيف؟
في هذا المشهد الفجّ، تتبدّل معاني الكلمات في لبنان: "النظافة" لم تعد من القمامة؛ بل من الناس. والبلدية لم تعد تنظّم العمران؛ بل تفرز السكان حسب طوائفهم.
هكذا، يترسّخ في قلب العاصمة مبدأ المواطنة المشروطة بالهوية الدينية. يُصبح ابن الحدت، أو أي مسيحي آخر من أي منطقة أخرى، "مواطن درجة أولى"، أما الآخر الذي لا يشبهه، في الاسم أو المذهب، فيعدّ "دخيلاً"، ولو كان لبنانيًا مثله تمامًا.
هواجس تغيير ديموغرافي
ووفق معلومات "المدن"، يعود هذا التشدّد إلى خشية البلدية من تزايد أعداد المستأجرين الشيعة في المنطقة؛ إذ يرى بعض المسؤولين أنّ البلدة تتوجّس من التغيير الديموغرافي، و"لا تريد غرباء يدخلون إليها، ولا سيما المحجبات"، ولذلك تُفرض شروطٌ صارمة وتُمارس قيودٌ متشدّدة.
عون نفسه لا يُخفي هذا التوجه. في أكثر من تصريحٍ انتخابي كرر العبارة الشهيرة: "قرار الحدت باقٍ ما دام الدم يسري في عروقنا". وفي مقطعٍ مصوّر خلال الانتخابات الأخيرة، ظهر مفاخرًا بأن هذا القرار هو ما "حَمى البلدة من الدمار خلال الحرب الأخيرة"، كأن الوجود الشيعي يُعد خطراً وجودياً يُقاس بميزان الأمن، لا بميزان الحق في السكن.
في اتصال مع "المدن"، يبرر عون الإجراء بأنه "حرصٌ على العيش المشترك"، وأن "التغيير الديموغرافي يضرّ بكل الطوائف، ونحن نحافظ على التنوع".
قرار قديم جديد.. غير قانوني
ويُنظر إلى هذا القرار على أنه غير قانوني. يوضح المحامي علي عباس أن القرار "مخالف للدستور اللبناني الذي يكفل لكل مواطن حق التملك والسكن في أي منطقة من لبنان"، موضحًا أنه يمكن الطعن به أمام مجلس شورى الدولة لأنه "منعدم لجسامة مخالفاته القانونية والدستورية".
من الناحية القانونية، لا تستند قرارات بلدية الحدت إلى أي أساس صلب. يوضح مرجعٌ إداري لـِ "المدن" أنّ قانون الموجبات والعقود يكفل حرية التعاقد بين الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، ويحميها القانون والدستور على حدّ سواء، لا سيما حين يتعلّق الأمر بالبيع أو الإيجار، باعتبار أن الملكية الخاصة وحرية التصرّف بها من الحريات العامة الأساسية المصونة في الدستور والقوانين المرعية، وفي مقدمها قانون الإيجارات.
الإجراءات المتبعة عادة في عمليات البيع، تقتصر على الحصول على إفادة محتويات من البلدية وإفادة تخمين، وتُعدّ هذه المستندات بمثابة إبلاغ إداري للبلدية ليس أكثر. أما في ما يتعلق بعقود الإيجار، فيُكتفى بإيداع نسخة عنها في البلدية، بما في ذلك الإيجارات التي تخصّ أملاك الدولة.
بناءً عليه، فإنّ اشتراط مراجعة رئيس البلدية مسبقًا قبل أي عقد بيع أو إيجار، يتجاوز الإطار القانوني، ويُعدّ تدخّلًا غير مشروع في حرية التعاقد، لأنها تُمارَس وفقًا للقانون لا وفق إرادة رئيس بلدية أو اجتهاده الشخصي. أما إذا وُجدت ظروف استثنائية أو أمنية تفرض قيودًا مؤقتة على التصرّف بالعقارات، فلا بدّ أن يصدر قرار رسمي بذلك عن وزارة الداخلية، ويُعمَّم عبر المحافظ أو القائمقام، لا ببيان بلدي يُفرض على الناس كأنه قانون نافذ.
خطر ديموغرافي؟
في الواقع، ليست هذه الشروط جديدة. فمنذ العام 2010، حين بدأت عمليات بيع متزايدة لعقارات في خراج البلدة، تحوّل الخوف من "التمدد الشيعي" إلى سياسة بلدية منظّمة. ومنذ ذلك الحين، فُرضت موافقة مسبقة من رئيس البلدية على أيّة عملية بيع أو إيجار، تحت عنوان "تنظيم العمليات العقارية وضمان الشفافية"، في حين يُخفي هذا العنوان سياسة تمييز واضحة تُقيّد حق اللبنانيين في السكن والتملّك.
هذا "الشرط" لم يكن سارياً قبل العام 2010، ولم يلقَ أي نقد على مرّ السنوات الماضية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى العلاقة السياسية بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" في تلك الفترة، بمعنى أن قوته السياسية اكتُسبت من التحالف بين الفريقين، وليس من قوته المعنوية أو القانونية. (راجع المدن)
تداعيات اقتصادية
غير أن هذا الإجراء، تترتب عليه تداعيات على أبناء الحدت أنفسهم. مع زيادة العرض، وقلة الطلب يخسر أصحاب الأملاك "المسيحيون" جراء هذا القرار، خصوصًا أن سعر المتر في غرب بوليفار كميل شمعون يصل في حده الأدنى نحو ألف دولار، في حين يبلغ سعر المتر في شرق البوليفار، المنطقة التي يُمنع فيها استملاك المسلمين، نحو 500 دولار فقط.
هذا الاختلاف ينعكس مباشرة على أصحاب الأملاك الذين يُحرمون من الاستفادة من موجة تضخم الأسعار، وتقتصر الاستفادة على المستثمرين المسيحيين والمتمولين الذين يشترون العقارات بأقل من أسعارها الحقيقية.

بلدية الحدث تحذر من بيع واستئجار البيوت (مصطفى جمال الدين)

الخيام | khiyam.com
تعليقات: