
شكّلت هجرة اللبنانيّين إلى سائر المعمورة تحدّيًا منذ أيّام المتصرّفيّة (1862- 1918)؛ (د. عبد الله الملاح، 2007)، وبعد إعلان دولة لبنان الكبير (1920)، وتحقّق الاستقلال الوطنيّ (1943) وحتّى الألفيّة الثانية.
تعدّدت وجهات الهجرة وتوزّعت على فترات زمنيّة متباعدة، منها الهجرة إلى مصر أيّام السلطنة العثمانيّة، وسميّت بـ ”هجرة الشوام“ (د. مسعود ضاهر، 1986)، ومنها إلى الأميركيّتين. ففي الفترة الممتدّة ما بين أعوام 1880ونهاية ثلاثينيّات القرن العشرين المنصرم، غادر قرابة 330 ألف مهاجر من بلاد الشام (لبنان وسوريّة والأردن وفلسطين المحتلّة) إلى الأميركيّتين. وتوجّه ما يقارب الـ 120 ألفًا منهم إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة. قدِم ثلاثة آلاف من هؤلاء إلى مدينة لورنس، وهي مدينة صناعيّة تقع ضمن منطقة معامل النسيج في شمال شرقيّ الولايات المتّحدة. وبنتيجة هذا التدفّق الكبير للمهاجرين، أصبحت لورنس ثاني أكبر تجمّع للجالية ”السوريّة“ بعد مدينة نيويورك، ومن أكبرها في العالم.
ولقد سمع سكّان القرى والمدن على طول شرق المتوسّط عن هذه الفرص من مصادر مختلفة. إذ كانت هذه المعامل والمدن الصناعيّة الأميركيّة، بالإضافة إلى شركات الخطوط البحريّة، ترسل وكلاء توظيف ومندوبين إلى المدن والقرى ليجذبوا إليهم المهاجرين المتلهّفين، قاطعين لهم الوعود بالثّراء اليسير والحياة الجديدة (بدايات، من تاريخ الهجرة، العدد 32، 2021). وتتابعت الهجرة اللبنانيّة بزخم إلى أفريقيا واستراليا ودول الخليج العربيّة.
البحث عن وطن
وتراوحت عناوين هذه الهجرة بين ”البحث عن الخبز“ و“البحث عن وطن“، وعلى امتداد أطوارها كانت نزفًا بشريًّا (هجرة الأدمغة) وتمييعًا للاقتصاد المستند إلى التحويلات الماليّة، والمتحوّل إلى اقتصاد ريعيّ كسول ينتظر آخر الشهر.
لن أستغرق كثيرًا في ماضي هذه الهجرة، وربطها بالماضي الفينيقيّ، كما يحلو لبعض الباحثين، وعدها بالتالي أمرًا طبيعيًّا، يكاد يكون مغروسًا في الجينات. فلكلّ طور من الهجرة ظروفه وأسبابه (اقتصاديّة، سياسيّة، اجتماعيّة)، ولا يخفّف من وطأتها أن تُجمّل باسم ”الانتشار اللبنانيّ“، فكلمة اغتراب ذات دلالة وحمولة لغويّة شديدة، وكانت جدّتي تقول ”الغربة تربة“، أيّ بمثابة موت.
الرغبة في الهجرة
سأستعين لهذه الغاية بتقرير أصدره ”البارومتر العربيّ“ في شهر آب (أغسطس) من العام 2024، استنادًا إلى استطلاع ميدانيّ. فحول الرغبة في الهجرة**:** أعرب 38 في المئة من اللبنانيّين عن الرغبة في الخروج من لبنان. هذه النسبة تماثل النسب المرصودة في عامي 2022 و2012، وإن كانت أعلى بواقع 12 نقطة مئويّة عن نسبة 26 في المئة المسجّلة في العام 2018.
على رغم هذه الزيادة، فهي أقلّ من نسبة 51 في المئة التي رصدها ”الباروميتر العربيّ“ في استطلاعه الأوّل (2007)، وتبيّن أنّ الشباب والمتعلّمين جامعيًّا في لبنان هم الأكثر توقًا إلى الهجرة، إذ عبّر أكثر من نصف (58 في المئة) من تتراوح أعمارهم بين الـ 18 والـ 29 سنة عن رغبتهم في الهجرة، وهي النسبة التي تُعد ضِعف مثيلتها بالنسبة إلى الشريحة العمريّة الـ 30 عامًا فأكبر (بواقع 29 في المئة).
بالمثل، يميل من حصّلوا التعليم العالي أكثر إلى الرغبة في الهجرة، مقارنة بالأقلّ تعليمًا (46 في المئة مقابل 33 في المئة). ويتزايد إقبال اللبنانيّين على البحث عن فرص تعليميّة أفضل في الخارج. فتُظهر البيانات الحديثة أن 21 في المئة من المبحوثين أعربوا عن الرغبة في الهجرة من أجل التعليم في العام 2024، وهي النسبة التي زادت عن الـ 14 في المئة العام 2022.
أسباب اقتصاديّة ومخاوف أمنيّة
تستمرّ الظروف الاقتصاديّة في كونها الدافع الأساس للهجرة من لبنان. نظرًا إلى أنّه معظم المواطنين تقريبًا لا يصنّفون الوضع الاقتصاديّ بصورة إيجابيّة أو يتوقّعون تحسّنه، فلم يكن مفاجئًا أنّ نحو سبعة من كلّ 10 أشخاص من الراغبين في الهجرة (72 في المئة) ذكروا الظروف الاقتصاديّة بصفتها المحرّك الأوّل لرغباتهم في الهجرة.
إلى ذلك تزايدت أهمّيّة القضايا الأمنيّة والسياسيّة كعوامل تدفع باتّجاه تحفيز الرغبة في الهجرة. فالمخاوف الأمنيّة– التي زادت منها التوتّرات المتصاعدة بين ”حزب الله“ ودولة ”الاحتلال“ إسرائيل–ارتفعت نسبتها لتصبح ثاني أكثر سبب ذكره اللبنانيّون كدافع إلى الهجرة، بواقع 27 في المئة من المهاجرين المحتملين في العام 2024– بزيادة 14 نقطة مئويّة من 13 في المئة العام 2022.
كذلك برزت الشواغل حول الفساد– وهي مشكلة سائدة يقرّ الناس بوجودها في جميع أنحاء لبنان تقريبًا– كدافع قويّ إلى الهجرة، إذ أصبحت نسبة من قالوا إنّه سبب أساسيّ للرغبة في الهجرة إلى 24 في المئة في العام 2024 بعد أن كانت النسبة 16 في المئة العام 2022. وبالمثل، فإنّ نسبة اللبنانيّين الذين يرغبون في الهجرة وذكروا القضايا السياسيّة كسبب للهجرة، زادت من 16 في المئة في العام 2022 إلى 23 في المئة العام 2024.
أمّا دول المهجر المرغوبة فتأتي كندا في رأس القائمة، بواقع 32 في المئة منهم اعتبروها المقصد الأوّل، تليها كلّ من ألمانيا (28 في المئة) وفرنسا (25 في المئة)، بينما احتلّت أستراليا المركز الرابع بواقع 24 في المئة، وأميركا هي الاختيار الخامس بواقع 21 في المئة. بالنسبة إلى دول الخليج، فإنّ قطَر هي الدولة الأكثر ذكرًا من قِبل الراغبين في الهجرة من لبنان، بواقع 21 في المئة، ثمّ الإمارات العربيّة بنسبة 16 في المئة، والسعوديّة بنسبة 12 في المئة.
إلى أين؟ شهادة ضدّ الهجرة
أعادت مسألة الهجرة إلى ذاكرتي شريطًا سينمائيًّا مميّزًا، يُعدُّ وثيقة بصريّة أنتروبّولوجيّة. فبخلاف الأفلام اللبنانيّة التجاريّة المعتادة، والتي كانت تركّز على بطل وبطلة وحبكة دراميّة بسيطة تتبعها نهاية سعيدة، ذهب المخرج الراحل، جورج نصر (المتوفى في العام 2019، عن عمر ناهز الـ 92 سنة)، متخرّج الولايات المتّحدة الأميركيّة، إلى تناول موضوع حيويّ لصيق حياة اللبنانيّين، وهو الهجرة، ومُنجزه ”إلى أين؟“ (1957؛ بطولة نزيه يونس، منير نادر، نزهة يونس، هيّام يونس وشكيب خوري) نظير أفلام السينما الإيطالية الواقعيّة (ورائدها روبيرتو روسيليني)، روى فيه حكاية الأرض وشقاء الفلّاح، لكنّها بالجهد والعرق تطعمه كفايته: ”فلاح مكفيّ سلطان مخفيّ“ كما يقول المثل الشعبيّ.
لكنّ أخبار من سبقوا وعبروا البحر إلى البرازيل، الوجهة المفضّلة أو إلى العالم الجديد، أميركا، كانت تحفّز على المغامرة. بيد أنّ المخرج اللبنانيّ المنحاز إلى الأرض بيّن أنّ النجاح والثروة ليسا من نصيب كلّ مهاجر، وحكاية كلّ واحد منهم ليست ”قصّة نجاح“، فثمّة فشل صارخ أيضًا.
وبطله الذي خلّف وراءه زوجة وولدين صغيرين كانت شكواه أنّ الأرض تكفي اليوم، لكن في الغد هل تكفي الأولاد؟ وحين حطّ في البرازيل حمل الكشّة وتنقّل في أرجائها وغامر في غاباتها، يروي، حين عاد ”إيد من ورا وإيد من قدّام“ حاله حال كثيرين من أبناء وطنه المفترشين للطرقات، الملتحفين السماء، وأحيانًا كثيرة من دون لقمة تسدّ جوعهم، فالأمر منوط ببيع البضاعة، والنقود تجدّد نشاطهم وتجدّد بضاعتهم.
وفي عودته خائبًا بعد عشرين سنة من الغربة، لا يتعرّف أهل بيته إلى ملامحه، وأتى وصوله في وقت كان ابنه الأصغر قد استحصل على وثيقة السفر ويتحضّر للهجرة، وفي ذهنه متابعة خطى أبيه، الذي لا بدّ أنه جنى ثروة في الخارج. وتشاء الأقدار أن يتعرّض لحادثة صدم بالسيّارة في قريته الجبليّة تعوقه عن المضيّ في مخطّطه، فيلزم الفراش، لينتهي الفيلم في دعوة صريحة إلى عدم هجرة الأرض، فهي الملاذ، نزرعها وننزرع فيها بآخر المطاف.

هجرة اللبنانيين مستمرّة وأرقام المهاجرين إلى ارتفاع
الخيام | khiyam.com
تعليقات: