
في المراحل التي تهتزّ فيها الثقة العامة ويكثر فيها التأويل، تظهر قيمة الموقف أكثر من قيمة الكلمات. فبعض اللحظات لا تحتاج إلى خطب مطوّلة كي تُفهم، بل إلى وقفة ثابتة تعلن وحدها ما تعجز عنه البيانات. وهكذا، تحوّل موقف قائد الجيش في الأيام الأخيرة إلى علامة فارقة، ليس لأنه صاخب أو مثير للجدل، بل لأنه جاء هادئًا وواثقًا، يحمل وقار المؤسسة التي تخاطب الوطن بأفعالها لا بشعاراتها.
الشجاعة في موقع القيادة ليست وصفًا عاطفيًا، بل مسؤوليّة تتقدّم على كل الحسابات. ومن خلال هذا الموقف، بدا واضحًا أن القيادة العسكرية تنظر إلى البلاد من زاوية أوسع من الأزمة الآنية، زاوية ترى الإنسان قبل الحدث، وترى وحدة الأرض قبل أي خلاف. فالقائد الذي يعرف كيف يختار اللحظة المناسبة للثبات، يمنح شعبه شعورًا بأن هناك من يتقدّم الصفوف بعقل بارد وقلب ثابت.
ما فعله قائد الجيش لم يكن موقفًا شخصيًا بقدر ما كان تكثيفًا لروح المؤسسة العسكرية: الانضباط، الحكمة، والالتزام بالحدّ الذي يحفظ استقرار الوطن. فحين تتعدّد الأصوات ويختلط الاتجاه، يصبح التمسّك بالقواعد والدستور عملًا شجاعًا بحدّ ذاته. وقد أثبتت هذه الوقفة أن المؤسسة لا تتأثر بصخب اللحظة، بل تعمل وفق بوصلة ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الظروف.
تجلّت الشجاعة هنا في القدرة على ضبط الميدان من دون استفزاز، وفي حماية المواطنين من دون استعراض، وفي الحفاظ على الهدوء حين كانت التوترات تمتحن قدرة البلاد على الصمود. وهو درس في القيادة الهادئة: أن القوة ليست في رفع الصوت، بل في القدرة على منع الانفلات، وأن المسؤول الحقيقي هو من يقدّم الحكمة على الانفعال.
كما كشف هذا الموقف عن بُعد إنساني مهم: فالقائد الذي يرى جنوده لا كأرقام في تقارير، بل كأبناء وطن ورفاق في المهمة، يدرك أن أي قرار يتّخذه يطال أمن عائلة، ومستقبل منطقة، وطمأنينة مجتمع بأكمله. هذه النظرة العميقة تجعل الشجاعة أكثر من مجرد صفة؛ تجعلها ميزانًا أخلاقيًا يُحتكم إليه في لحظات الشك.
ولأن الجيش هو المؤسسة التي يلتقي عندها اللبنانيون حين تختلف الاتجاهات، فقد كان للموقف الأخير أثر يتجاوز حدود الحدث نفسه. لقد أعاد التأكيد على أن المؤسسة العسكرية ليست طرفًا في النزاع، بل هي الحيّز الذي يضمن استمرار الوطن فوق صراعاته. وكلما ظهر القائد متماسكًا، شعر الناس بأن الوطن يقف على أرض ثابتة.
هكذا، يخرج موقف قائد الجيش من إطار اللحظة إلى إطار الرسالة. رسالة تقول إن الشجاعة الحقيقية ليست في الذهاب إلى المواجهة، بل في تجنّب ما يهدّد النسيج الوطني. وإن القائد الذي يتصرّف بثبات في زمن الاضطراب إنما يكتب، من دون ضجيج، فصلاً جديدًا في معنى المسؤولية. فالمؤسسات لا تُبنى بالقوة فقط، بل بالقدرة على أن يكون الموقف نفسه مصدر طمأنينة لشعب يتوق إلى الاستقرار.
وفي سياق الأحداث، جاء إلغاء زيارة قائد الجيش من قبل الولايات المتحدة ليشكّل محطة لا يمكن المرور عليها بصمت؛ إذ رأى فيها كثيرون إشارة غير مناسبة تُلامس مقام الدولة قبل مقام شخص القائد. فلبنان، رغم أزماته وتحدّياته، ليس بلدًا يمكن التعامل معه بخفّة أو استثناءات بروتوكولية، لأن كرامة مؤسساته جزء من كرامة شعبه. ومن هنا، بدا الإلغاء بمثابة رسالة جافة تمسّ مبدأ السيادة المعنوية، وتذكّر بأن الدول الصغيرة بالأزمات لا ينبغي أن تبدو صغيرة بالمكانة. لقد كان الموقف الوطني الجامع أن الكرامة الرسمية لا تُجزّأ، وأن احترام لبنان يبدأ باحترام رموزه ومؤسساته. وما زاد المشهد وضوحًا أن قائد الجيش تعامل مع الأمر بهدوء ومسؤولية، تاركًا الردّ أنيقًا كما يليق بالمؤسسة العسكرية: بالصمت الواثق، لا بردود الفعل.
راشد شاتيلا سياسي لبناني مختص في الذكاء الاصطناعي و إدارة البيانات
الخيام | khiyam.com
تعليقات: