مستقبل ثمار البحر في يدك


نيويورك:

أعتقد أنك ستحسب أني خبير في أنواع الأسماك المتوحشة.

أنا لا أرغب في الذهاب إلى سوق السمك في كاب كود لأجد سمك السلمون الذي تربى في مزارع شيلي أو بلح البحر القادم من برنس إدوارد آيلاند بدلاً من سمك القد أو الحدوق، كما أنني لا أود أن أذهب إلى أحد المطاعم في ميامي لأرى سمك الصلور القادم من فيتنام على لائحة الطعام ولا أن أرى سمك القرش.

هذا ما رأيت أخيرا، ويرى الكثير من العلماء أنه ربما يكون ذلك هو أسلوب المستقبل: فغالبية الأسماك التي ستؤكل في ما بعد ستأتي عبر المزارع السمكية، وبحلول نصف القرن الحالي قد نتمكن من اصطياد السمكة المتوحشة التي نرغب في أكلها بأنفسنا بدلاً من شرائها من السوق.

لقد تغيرت الأمور في عقود قليلة. أذكر أن الصيادين كانوا في الماضي يحملون صناديق الأسماك الصغيرة في سوق أسماك فلتون في نيويورك ليتقاضوا مليمًا عن كل رطل من تجار الجملة، وأذكر أن المحار وبلح البحر كانا يقدمان مجانا، ولم يكن من السهل العثور على التونة طازجة، في حين كان ينظر إلى الحبار والورنك على أنها «نفاية». بيد أن الصيد الجائر الذي مارسناه في صيد تلك الأنواع جعل مسألة صيدها يتطلب في الوقت الحالي المزيد من العمل والجهد والمعدات والمال لاصطياد نفس الكمية من الأسماك ـ حوالي 85 مليون طن من الأسماك سنويًا، وهو كم ظل ثابتا طوال العقد الماضي بعد النمو السريع بالرغم من ازدياد الطلب.

ومع ذلك، يعتقد الكثير من العلماء في إمكانية حدوث تغيير، إذ تشير الدراسات إلى أنه بالرغم من التراجع يمكن التغلب على ذلك سريعا إذا ما تمت إدارة المصايد السمكية بصورة جيدة. وسيساعد على ذلك بصورة كبيرة إذا ما قام مستهلكو الأسماك من الأثرياء بتنويع قائمتهم المفضلة من الأسماك، كالمكاريل.

بيد أن تلك ستكون مهمة كبيرة، فقد تضاعف الاستهلاك العالمي من الأسماك، لكل من الأسماك المتوحشة وتلك التي تربى في المزارع في الفترة منذ عام 1973، وجاءت 90% من هذه الزيادة في الدول النامية، (قد تسمع أن الأميركيين يأكلون حاليا المزيد من طعام البحر، لكن ذلك قد يعكس نمو السكان، فحصص استهلاك الفرد من الأسماك ثابتة على مدار الـ 20 عاما الماضية).

وأشارت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أنه نتيجة لتزايد الطلب على الأسماك المتوحشة، «ربما تكون الطاقة القصوى لصيد الأسماك المتوحشة قد تم الوصول إليها». وخلصت إحدى الدراسات التي أجريت في عام 2006، إلى أن استمرار ممارسات الصيد بصورتها الحالية سيؤدي إلى انهيار المخزون التجاري بحلول عام 2048. ومصداقًا لذلك فقد تضاءلت أعداد أسماك تونة البحر الأبيض المتوسط زرقاء الزعنفة بصورة كبيرة مما قد يؤدي إلى تراجع حاد في حصص الصيد التجاري لأسماك التونة زرقاء الزعنفة هذا الشهر، إضافة إلى أن مصايد أسماك القد في تراجع خطير، إضافة إلى التهديد الذي لحق بأسماك القرش وسمك الشبص التشيلي وعدد من الأنواع الأخرى الشبيهة بسمك القد.

وصار العلماء، في الآونة الأخيرة، أكثر قلقًا من تعرض فصائل أخرى من الأسماك الصغيرة مثل الرنجة والمكاريلي والأنشوجة والسردين للصيد الجائر.

لا تؤكل تلك الأسماك الصغيرة من قبل الأسماك الكبيرة المعرضة للخطر فقط وإنما من قبل العديد من الفقراء وغير الفقراء في العالم (وحتى من قبل المسافرين الأميركيين الذين يفضلون تناول السردين المشوي في انجلترا والأنشوجة المقلية في أسبانيا والميكاريلي المملحة في فرنسا والرنجة المخللة أو النيئة في هولندا، على الرغم من عدم تفضيلهم تناولها في الولايات المتحدة). وتعد الصناعات الزراعية ومزارع الأسماك أكبر مستهلك لتلك الأسماك الصغيرة، فثلث كمية الأسماك المتوحشة التي يتم صيدها على مستوى العالم تقتصر على تناولها وإطعامها لأسماك المزارع السمكية والماشية بينما، تستهلك الزراعة المائية ما يقرب من 53% من وجبات الأسماك في العالم و87% من زيت سمكها،(وما يزيد الأمر سوءًا أن ما يعادل ربع الصيد العالمي من الأسماك المتوحشة يستخدم كطعم لصيد الأسماك الأخرى). ويقول كريستوفر مان أحد كبار المسؤولين في مجموعة بيو البيئية «لقد استنزفنا الفصائل العليا من الأسماك المفترسة، وهو ما أدى إلى تدميرنا للسلسلة الغذائية».

ويوضح جون فولبي الأستاذ المساعد للأنظمة البحرية في جامعة فيكتوريا في كولومبيا البريطانية، ان استخدام الأسماك في إطعام أسماك المزارع أمر غير سليم، فثلاثة كيلوغرامات من أسماك الأعلاف تستخدم لإنتاج كيلو واحد من أسماك السردين، بينما ترتفع النسبة مع أسماك القد لتصل إلى 5 إلى واحد وبالنسبة للتونة ترتفع النسبة لتصل إلى 20 إلى 1.

تنتهج زراعة الأسماك البحرية ـ التي يطلق عليها في بعض الأحيان الثورة الزرقاء ـ نفس أسلوب الزراعة التقليدية حيث تستخدم الأطعمة الصالحة للأكل في إطعام الحيوانات بدلاً من الإنسان. لا يعني ذلك أن كل الزراعات البحرية سيئة، فالصين بمفردها تحوي ما يقارب 70% من المزارع السمكية على مستوى العالم، حيث تكون تلك المزارع صغيرة النطاق وتركز على الأسماك التي تأكل الأعشاب وتتلقى تلك المزارع الدعم فقط لكنها الأفضل بيئيًا. ويقول باري كوستا بيرس أستاذ المصايد السمكية في جامعة رود أيلاند «يعيش مئات الآلاف من صغار الفلاحين في آسيا على كسب قوتهم من تربية الأسماك».

وتعتبر صناعة الأسماك من أجل استخدامها في عمليات الصنيع أمرًا مختلفًا تمامًا، إذ تنفق تلك الصناعة ما يوازي مليار دولار في العام على الأدوية البيطرية وتفسد التربة الزراعية (تقضي زراعة أسماك الروبيان على أشجار المنجروف التي تعد حاميًا رئيسًا من الأعاصير الاستوائية)، وتلوث المياه المحلية (فقد أورد معهد وورلد ووتش في تقريره الأخير أن مزارع السلمون التي تحتوي على 200.000 سمكة تنتج مخلفات تعادل ما ينتجه 600.000 شخص)، وتعرض الأشخاص المتعاملين مع هذه الأسماك للمخاطر.

من المعروف أن إنتاج هذه الأسماك التي تربت في المزارع من اللحوم غير جيدة الطعم مقارنة على الأقل بالأسماك المتوحشة، فأسماك البلطي التي تربى في المزارع والتي تعد أفضل الأسماك إنتاجًا للحوم الجيدة، أقل رغبة لدى بعض المستهلكين، من بينهم أنا، من التوفو، ويبدو من غير المحتمل أن يداني سمك القاروس الذي ربي بالمزارع في طعمه مثيله الذي كان يتم اصطياده في البحر. أو أن يقبل من تذوق السلمون الأحمر السلمون القادم من المزارع.

ويقول كارل سافينا مدير معهد بلو أوشن، أحد جماعات الحفاظ على البيئة، إذا استمرت الزراعة البحرية الصناعية في النمو «فإن ذلك التنوع الكبير الذي تحتويه قائمتنا الغذائية سيماثل ما تشكله قائمة طعامنا من حيوانات اللحوم التي تربى في المزارع لتصبح أكثر بساطة، وأكثر تشابهًا مع بعضها بعضا وفي النهاية تسبب قدرًا كبيرًا من الملل».

لماذا نزعج أنفسنا بسلمون المزارع أو أي فصائلها؟ فإذا بدأ الأثرياء من آكلي السردين في تناول السردين والأنشوجة والرنجة وأشباهها سنكون أقل ميلاً إلى رميها إلى السلمون في المزارع وبذلك نساعد على إعادة ملء البحار بفصائل أكثر ضخامة. ويشير سافين إلى ما هو أكثر دهشة فيقول «إن للمحيطات قدرات إنتاجية هائلة ومن ثم فإن بإمكاننا بسهولة وبساطة شديدة البقاء داخل نطاقها عبر قصر الصيد على ما يمكن أن ينتجه».

قد يبدو ذلك صحيحًا، لكن أنظمة المراقبة التي تعمل على خفض الصيد الجائر بمقدار 60% وكذلك التشريعات التي توفر للصيادين الحدود التي لا يستطيعون تجاوزها والتي يمكن من خلالها الحفاظ على الحياة البرية في المحيطات، وأحد تلك الخطط التشريعية يعرف بـ«حصص الصيد» التي تسمح للصيادين بالحصول على نصيبهم من المصايد، وهو الحق في الحصول على نسبة معينة من الإنتاج الذي تثبت إمكانية صيده، ويمكن للصيادين شراء أو بيع أنصبتهم، لكن عدد الأسماك التي يتم صيدها تكون ثابتة كل عام. أثبتت تلك الطريقة نجاحًا في عدد من الأماكن، كان من بينها ألاسكا، التي تنتج نصف الطعام البحري للولايات المتحدة، وقد أشارت الدراسة التي نشرت أخيراً في صحيفة ساينس إلى أن تطبيق حصص الصيد في السبعينات على مستوى العالم كان سيؤدي إلى سقوط 9% فقط من مصايد الأسماك بحلول 2003، بدلا من 27%.

ويقول ديفيد فيستا الذي يدير برنامج المحيطات في مؤسسة الدفاع البيئي «هناك ما يبعث على التفاؤل، فالمعلومات الأخيرة تشير إلى أن المصايد السمكية التي تدار بصورة جيدة تحقق إنجازًا طيبًا، فعندما تطبق القوانين تتمكن المصايد من استعادة عافيتها، وإن لم تتعاف فلا بد وأن تلك القوانين خاطئة»، (الدول الممارسة للصيد في العالم ستكون بحاجة للمشاركة، وتعد الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاند أفضل الدول التي تمارس أفضل إدارة للمصايد، لكن تلك الدول لا يزال أمامها طريق طويل لكي تقطعه).

يشير ذلك التقييم المتفائل والحقيقي للمستقبل إلى أن مصايد الأسماك المتوحشة ستكون محدودة لكنها ستكون مدعومة من الجميع، وازدياد الطلب على ما لم يعد يسمى بالأسماك المتوحشة الصغيرة «ذات القيمة المنخفضة» وعدد من الأسماك البحرية التقليدية التي تمت تربيتها في المزارع حيثما وجدت. قد لا تكون تلك الفكرة مثالية لكنها أفضل على كل من صيد الأسماك في المحيطات لتربية أسماك عديمة الطعم لا تتاح سوى للمستهلكين الأثرياء.

وبالنسبة لي فأنا أفضل أكل سمك القد مرة في الشهر والسردين مرة كل أسبوع على تناول السلمون الذي ربي في المزارع السمكية.

*خدمة «نيويورك تايمز»

تعليقات: