
أجرت مجلّة الفنون الجميلة Beaux-Arts في أحد أعدادها عام 2013 دراسة قيّمة حول أثر الفنّ في الدماغ والسعادة. ونستعرض هنا بعض ما ورد فيها نظرًا لأهميّتها.
منذ القديم وصولًا إلى القرن العشرين، لم يتوقّف أثر الفنّ عن الانعكاس في البشر العاديّين، ولم يتوقف عن إثارة إعجاب الفنّانين والمفكّرين والسياسيّين. فمنذ القدم، أدى الفنّ دورًا أساسيًّا في تطوّر المجتمعات وتهذيبها بوصفه منتجًا أخلاقيًّا وفكريًّا وجماليًّا واجتماعيًّا. وقد شرح الفلاسفة والمفكّرون أهميّته الوجوديّة، ودوره في التربية، وانعكاسه في شتّى المجالات الإنسانيّة والفكريّة. ولو استعرضنا مقولاتهم لما انتهينا.
غير أنّ ما يعنينا هنا هو تبيان انعكاس الفنّ على دماغنا ودوره في إحساسنا بالسعادة والفرح وسط حياةٍ مثقلة بالتعب والمعاناة والهموم. فاللوحة الفنيّة ليست شكلًا نعلّقه على الجدار ليتناسب مع أثاث المنزل؛ ليست شكلًا فحسب، بل مضمونًا ورسالة مليئَين بالدلالات، يحرّكان الفكر والحواسّ كلّها، لا حاسّة البصر وحدها كما يظنّ كثيرون، ولا سيّما ممّن يقتنون الأعمال الفنيّة للزينة أو التجارة.
أسئلة كثيرة، تحمل إشكاليّاتها، تحاول هذه الدراسة الفنيّة ـ الإنسانيّة الإجابة عنها، خصوصًا ما يتعلّق بدور المعارض الفنيّة والمتاحف.
كتب الفنّان التشكيليّ مارك روتكو Mark Rothko قائلًا:
“إنّ هدفي الوحيد هو الوصول إلى التعبير عن الانفعالات الإنسانيّة الأساسيّة: التراجيديا، النشوة، الإحباط…”
ويضيف:
“إذا وجب عليّ أن أضع ثقتي في شيءٍ ما، فسيكون في “نفسيّة” المشاهد الحسّاس، الحرّ من كلّ نماذج التفكير التقليديّ.”
ولكي يوضّح درجة الانصهار النفسيّ التي يبحث عنها، يقول:
“إنّ الأشخاص الذين يبكون أمام أعمالي يشعرون بالتجربة الدينيّة نفسها التي عشتها في أثناء التلوين.”
ونحن نسأل: أليس تاريخ الإبداع كلّه مدعومًا بهذا الطموح: التفاعل مع دماغ المشاهد؟
المسألة قديمة. فالقاعدة الذهبيّة (1.618 nombre d’or) أدت دورًا أساسيًّا في صياغة الجمال منذ أن استُخدمت كنسبة مثاليّة في عمارة البارثينون ـ Parthéon، (معبد أغريقيّ يُعتبر من أجمل نماذج العمارة الأغريقيّة القديمة. بناه الأغريق في الفترة ما بين 447 و432 ق.م) وصولًا إلى أبنية أثينا Athènes.
وفي عام 2007، درس فريق من الباحثين الإيطاليّين الانعكاسات العصبيّة لهذه القاعدة السحريّة. فعرَضوا على أربعة عشر مشاركًا أعمالًا فنّيّة مختلفة النِسَب، فكان الإجماع واضحًا: الأعمال المبنيّة على القاعدة الذهبيّة هي الأكثر تفضيلًا.
منذ أواخر القرن الثامن عشر، ستتعدّد “قواعد الأشكال والرموز والألوان” بوصفها لوحة مفاتيح حيث يملك كلّ مفتاح قدرة على إثارة ردّات فعل نفسيّة.
وكانت معادلة غوته حول اللون Traité des couleurs (1808–1810) من أبرز هذه المقاربات، إذ رأى أنّ اللون خليطٌ بين الضوء والظلّ، وأنّ هذه العلاقة تغمس الروح الإنسانيّة في حياة اللون ذاته، وتكشف الروابط السرّيّة بين الفنّ والطبيعة. ثمّ جاءت النظريّات ذات الحسابات الدقيقة التي دُرست في مدرسة الباوهاوس بين الحربين العالميّتين.
يؤكّد يوهانس إيتن Johans Itten، أحد مدرّسي تلك المدرسة، أنّ:
“الألوان قوى إشعاعيّة تولّد الطاقة، ولها فعلٌ إيجابيّ وسلبيّ.”
وكان الفنّان الروسي كاندنسكي Kandinsky يدعو إلى العمل على ذبذبة دواخل الإنسان عبر وسائل تشكيليّة تستمدّ عناصرها من الواقع (كتاب: الروحانيّة في الفن Du spiritual dans l’art).
على مدى القرنين الماضيين، تحوّلت الكفاءة النفسيّة للأعمال الفنيّة إلى موضوع مركزيّ. وقد فهم هتلر Hitler ووزير دعايته غوبلز Goebbels أنّ الفنّانين (المهندس والنحّات والسينمائيّ..) قادرون على تخدير الجماهير عبر التأثير في الجانب الانفعاليّ من الدماغ على حساب الجانب العقلانيّ. وبذلك تصبح المسألة، إلى جانب بعدها الجماليّ والنفسيّ، مسألة سياسيّة أيضًا.
ونشير هنا إلى أنّ غوبلز “لم يكن مجرّد وزير في النظام النازيّ، بل كان كاتبًا رئيسًا في صياغة السرديّة الفاشيّة، مستخدمًا الخطب والمقالات والملصقات لتحويل الإبادة إلى عدالة، والكراهية إلى فضيلة، عبر لغة متقنة الإخراج مشحونة بعاطفة زائفة”.
الفنّ يجعلنا سعداء
في هذه الأزمنة الصعبة، حيث تُظهر الاستطلاعات ارتفاع الشعور بالكآبة لدى الفرنسيّين، طُرح سؤال عمّا إذا كان الفنّ ملجأً مثاليًّا. أجاب معظم المستطلَعين بـ “نعم”: نساءً ورجالًا، من مختلف الأعمار والفئات.
تسعون بالمئة منهم يعتبرون أنّ النظر إلى عملٍ فنّيّ يجعلهم سعداء، وأنّ الفنّ يحرّك المخّ ويُثير الأحاسيس. ويزداد هذا الشعور مع تقدّم العمر.
تحتاج مشاهدة عمل فنّيّ إلى وقتٍ وتأمّلٍ وتحريرٍ للذات، وربّما يفسّر هذا أثر الفنّ في تخفيف القلق والتوتّر، وهو أثرٌ واضح في النساء أكثر من الرجال. كما يَمِيل الشباب إلى الإحساس بالحنين عند مشاهدة الأعمال الفنية، وخصوصًا الفتيات، وفي باريس أكثر من سائر المناطق الفرنسيّة.
وتُظهر الأرقام ميلًا لدى الشباب إلى اعتبار الفنّ محرّضًا فكريًّا:
نحو 70% ممّن هم دون 35 عامًا يرون أنّ مشاهدة عمل فنّيّ تجعلنا أكثر ذكاءً، مقابل 55% من الفئة الأكبر سنًّا.
إنّ نتائج الدراسة بليغة: الفنّ يزوّدنا بشعور الرفاهية، وهو أحد الحلول الممكنة في مواجهة الكآبة المحيطة: زيارة المتاحف، الغاليريهات، مراكز الفنّ، المحترفات…
سُئل المستطلعون: عندما تشاهد عملًا فنّيًّا، لوحة مثلًا، هل يثير ذلك مشاعرك؟ هل يتحرّك أو يتحفّز داخلك شيء؟
وجاءت الأجوبة على الشكل الآتي:
نعم، غالبًا: 21%
نعم، من وقت لآخر: 50%
لا، أبدًا: 15.5%
لا يهمّني/لا أعرف: 13%
أمّا الأسئلة الأخرى فكانت نتائجها:
مشاهدة عمل فنّيّ تجعلني سعيدًا: نحو 70%
مشاهدة عمل فنّيّ تهدّئني وتطرد الهموم: 79%
مشاهدة عمل فنّيّ تجعلني أكثر ذكاءً وأكثر إبداعًا: 60%
لا إجابة: 5%
سؤال: هل تتشابه أدمغة رجال الإطفاء، وطبيب الأسنان، والناقد الفنّيّ عند مواجهتهم عملًا فنّيًّا؟
نعم، فنحن نمتلك جميعًا الحظوظ نفسها في الإحساس أمام عمل فنّيّ، لأنّنا نحمل الدماغ ذاته الذي تكوّن عبر تطوّرٍ وراثيّ طويل.
فكيف نفسّر إذًا قدرة أشخاصٍ مختلفين على تقدير أعمال لرامبرانت أو بيكاسو أو غيرهما؟
يجيب المتخصّص في علم الأحياء العصبيّة جان بيار شونجو Jean-Pierre Changeux عبر التمييز بين “التطوّر الوراثيّ” الذي ينتج عنه الدماغ الإنسانيّ العاقل، والتطوّر ما فوق الوراثيّ. أمّا الأخير، فيشير إلى تأثير التاريخ والمحيط في جينات الشخص بين الولادة والبلوغ؛ حيث تتشكّل مئات المليارات من الروابط العصبيّة استجابةً لما نعيشه من محفّزات قادمة من محيطنا.
الاستنتاج: إذا كانت أدمغتنا لا تتفاعل بالطريقة ذاتها أمام عمل فنّيّ، فهذا لا يعني غياب الاستعداد؛ فلدينا جميعًا الأداة نفسها وراثيًّا، لكن بتجارب مختلفة.
سؤال: هل يعمل الفنّ كفيتامين لدماغنا؟
بل أكثر من ذلك! قال نيتشه: “من دون الموسيقى تصبح الحياة خطأ”. فالتشبّع بالجمال والإبداع يفعّل في الدماغ نسقًا حيويًّا يسمّى نظام المكافأة أو نظام التقوية. عندما يتفعّل هذا النسق يميّزنا عن حاسوب بسيط، هذا ما نسمّيه “نظام المكافأة” في الدماغ، أو “نظام التقوية” الذي تتشارك به كلّ الثديّيات Les mammifères. وقد عُرف هذا النظام عام 1945، وهو يقوم على تواصلٍ متبادل بين بنى دماغيّة عديدة: قشرة الفصّ الجبهيّ، الحاجز Septum، اللوزة Amygdale، الحُصَين Hippocampe… وكلّها تُرسل إسقاطات إلى الوطاء Hypothalamus الذي يتغذّى بدوره من الدوبامين، أي “جزيء المتعة” المسؤول عن الإحساس بالاكتفاء.
يمكن للدوبامين أن يتحرّر اصطناعيًّا بالمخدّرات، لكنّ الفنّ يحرّره بطريقةٍ سليمة. ومن هنا، فاستجابتنا الجماليّة تغذّي حماسنا وتُنشّط دوافعنا، وقد تُعدّل سلوكنا مع الزمن.
ويكفي أن نقرأ مارسيل بروست Marcel Prost، الذي تحوّل إلى محلّل على السطح اللبيديّ الشبقيّ Le plan libidale: هو أحد أشخاص البحث عن الزمن المفقود A la recherce du temps perdu..
سؤال: هل “أوداليسك إنغر” L`Odalisque d`Ingres أكثر تحريضًا من “حديقة المتعة” لجيروم بوش Le jardin des délices de Jurôme Bosch ؟
نعم… ولكن.
في دراسة أجراها الباحث سمير زكي عام 2011، وهو رائد في “علم أعصاب الجمال”، Neurologie de la beauté عُرضت ثمانية وعشرون لوحة على متطوّعين، ورُصد نشاط الدماغ عبر IRM. خلصت الدراسة إلى أنّ الإشباع الجماليّ يُنتج حالةً كيميائيّة تشبه حالة الوقوع في الحبّ. ورأى الباحث أنّ لوحات إنغر وكونستابل Constable أحدثت تدفّقًا دمويًّا أعلى بنسبة 10٪ من غيرها، من بينها أعمال سيزان ومونيه وبيكاسو؛ Cézanne- Monet et Picasso أمّا وجوه بوش Bosch القبيحة ودومييه Daumier وميتسيس Metsys فقد أثارت نشاطًا دماغيًّا أضعف. وهي نتائج مهمّة بلا شكّ، لكنّها قابلة للنقاش على مستويات عدّة. فإذا كان من الضروريّ أوّلًا التساؤل حول تمثيل اللوحات، فمن الواجب أيضًا توخّي الحذر من “علم أعصاب الجمال” نفسه، الذي يعتمد عادةً على صورٍ مُعاد إنتاجها، لا على الأعمال الأصليّة، بل على نسخٍ رقمية أو فوتوغرافية منها.
ثمّ إنّ السؤال يظلّ مطروحًا: هل يُقاس أثر العمل الفنّيّ بوحدة قياس غليان الدوبامين، تحت ذريعة الالتصاق بـ”جزيئة المتعة”؟ هذا اختزال شديد. فمشهدٌ من فيلمٍ إباحيّ قد يُحدث انفعالًا أسرع من عاريةٍ لتيتيان أو جون كورّان، لكنّ العمل الفنّيّ الحقيقيّ يمتلك طبقاتٍ من الدقّة والظلال والغموض والغرابة، وربما اللعنة، ما يجعله عصيًّا على الإدراك الفوريّ، وقادرًا على الغوص عميقًا في الذاكرة.
فإعادة اكتشاف العمل في زمنٍ ثانٍ – بعد أن لم يكن مُغرِيًا في النظرة الأولى – يمكن أحيانًا أن تمنحنا رغبةً صادقة، مقرونةً بلذّة حلّ الغموض وفكّ اللغز.
سؤال: هل رؤية لوحة للوحات لوتشيان فرويد Lucian Freud تشبه أثر مشاهدة برنامج تلفزيونيّ مثل Star AC؟
أبدًا.
فالصورة التلفزيونيّة تُنهك النشاط الدماغيّ بسبب تدفّقها المتواصل، وإيقاعها السريع، وارتباطها بالمؤثّرات الصوتيّة والإعلانات. وقد عبّر أحد مديري البرامج في قناة TF1 عام 2004 عن ذلك صراحةً حين قال: “هدف برامجنا هو جعل عقول المشاهدين جاهزة… هذا ما نبيعه لشركة كوكاكولا: وقت العقل الإنسانيّ الجاهز”.
هذا الاعتراف يكشف خطورة الإيقاع التلفزيونيّ الذي ينهش “المادّة الرماديّة”، (أحد العناصر الأساسيّة في الجهاز العصبيّ المركزيّ) La matière grise مقابل الثبات الهادئ للوحة أو المنحوتة؛ إذ تنفتح الرغبة ببطء، وتتكشّف الفوارق والتفاصيل والرموز، ويُتاح للعقل وقتٌ للتأمّل لا تُتيحه الشاشات السريعة
هل التردّد إلى المتاحف بانتظام يجعلنا أكثر ذكاءً؟
يبدو أنّه كذلك. عند النظر إلى تحفة فنّيّة، يحصل شحن كهربائيّ للرؤية، وهو المطلب الأوّل للعملية على مستوى القشرة البصريّة للدماغ في خلفيّة الجمجمة. هناك مبدأ: نصف الكرة اليمنى يعالج ما سجّلته العين اليسرى، والنصف الآخر ما سجّلته العين اليمنى. فنّانو عصر النهضة، ولا سيّما دافنشي، لاحظوا هذا: اللوحات والمنحوتات تعزّز ما يُسمّى “معرفة المشاهدة” Savoir-voir / Le sapere vedere.
عند مشاهدة عمل فنّي، تتطوّر لدينا مهارات التحليل للعالم الفيزيائي: النسب الصحيحة، الميكانيكيّة، الحركة… كما أنّ النظر إلى العمل الفنّي يحفّز مناطق دماغية خاصّة. السيمائيّون، وأصحاب الفراسة، لديهم عقل حادّ، وينطبق ذلك على مؤرّخي الفنّ أيضًا؛ إذ يمتلكون ذاكرة مذهلة تمكنهم من الإمساك بآلاف التفاصيل، وإجراء مقاربات تحدد هوية أعمال لم يروها من قبل. عند تباهي عين الخبير، علينا تحية الشبكة العصبيّة الدقيقة التي تجعل ذلك ممكنًا.
هل يمكن للفنّ أن يُعدّل المزاج؟
نعم، بشكل مطلق. ذكر ستندال Standhal أنّه شعر بتوعّك في فلورنسا عام 1817 عند مشاهدة أعمال فنّيّة مقلقة، أمام توابيت رجال مشهورين وفي قصر”السيبيلات،” des sibylles حيث تنبأت النساء بالمستقبل حسب الأساطير اليونانيّة. ممهورة من قبل فنّان من القرن الثامن عشر (فولتيرّانو) Volterrano كتب: “خارجًا من “سانتا كروس”، أحسست بخفقان القلب؛ كانت الحياة مُنهكة بالنسبة إلي. مشيتُ بخشية الوقوع”.
فنتازيا الكاتب؟ ليس مؤكّدًا. يكفي أن نستشير الكتب الذهبيّة (سجلات الزوّار والضيوف) الموضوعة عند مخارج المعارض، لنلاحظ وجود علاقات شغوفة غالبًا بالفنّ. النغمة قد تكون عاشقة ومتحمّسة، وأحيانًا غاضبة أو محبطة، محنة أو اشمئزاز. في حالة ستندال، ما يثير الغموض والدهشة أنّ مشكلته تظهر عبر احتكاكه بجمال فجائي يصبح خانقًا، مفرطًا، وغير متسامح.
وهكذا، منذ عام 1979، وُضع مفهوم “متلازمة ستندال” (Syndrome de Stendhal) حسب توصيف إحدى طبيبات النفس التي عالجت عشرات المرضى المصابين بمشكلات نتيجة زيارة متاحف فلورنسا. تظهر هذه الظاهرة أحيانًا على شكل هستيريا، أو حتى اعتداء على الأعمال الفنّيّة، وأفكار سوداوية، وخوف من الموت، وحتى هلوسات.
تقول الطبيبة النفسيّة: “نحن جميعًا نحمل متلازمة ستندال. هذه الظاهرة واسعة الانتشار بالنسبة إلى أغلبيتنا. وفي بعض الحالات الخاصة، تعمل بعض الأعمال الفنّيّة كرمز للدراما الداخليّة”.
عندما ينقذ الذوق الجميل الكائن الحيّ:
كان كابوس داروين: كيف يمكن لطاووس هشّ أن يبقى على قيد الحياة. العلماء وجدوا أنّ قوّة الطاووس الجذّابة تكمن في ريش ذيله، الذي يضمن استمراريّته عبر الاختيار الجنسي. ليس الأقوى هو الباقي، بل الأجمل. وتلك القيمة البصريّة تشرح استمرار الحياة لبعض الأنواع، مثل الكالامار، الحبّار البحريّ، طائر القطرس، العقرب، الصراصير، والحوت… كلّها أمثلة على الجمال في الطبيعة.
هل الفنّ هو شفاء للعقل المريض؟
أحيانًا. قدّم الباحث بيار لوماركيس Pierre Lemarquis أمثلة عديدة عن الفوائد الصحّيّة للإبداع، التأمّل، والموسيقى. الفن يُستخدم في المستشفيات والسجون للتخفيف من التوتر والآلام.
أعطى ماتيس Matisse لوحاته لـ بونارد Bonnard للتخفيف عنه، قائلًا: “أريد من الإنسان المتعب، المرهق، أن يشعر بالهدوء أمام لوحاتي”. وفرنان ليجيه Fernan Léger نفّذ جداريات في المستشفيات، مؤمنًا بالأثر البسيكواوجيّ والفيسيولوجي للإبداعات الملائمة.
الفنان سام فرنسيس (Sam Françis)، الذي تعرّض لإصابات ثقيلة بسبب الحرب، قدّم نفسه على أنّه فنّان يشفي، بل “مرتبط بالعالم الروحي” (Un chamane). في المقابل، عنون الفنان لويس بورجوا (Louis Bourgeois) أحد أعماله قائلًا: “الفنّ هو ضمانة للصحة النفسيّة”.
هذا الحدس يتلاقى اليوم مع تأكيدات علمية مذهلة، لا سيّما فيما يتعلّق بالألوان. فقد أثبتت دراسة أجراها فريق الدكتور جيل فوندفال (Gilles Vandewalle) في جامعة لييج (Liège) عام 2020 أن العقل يتفاعل بشكل أقوى مع الانفعالات في الجوّ الأزرق. في عمق شبكيّة العين، تتجلى المستقبلات الضوئية الحسّاسة لهذه الصبغة اللونية، والتي تمتلك تأثيرًا مباشرًا على حرية المادة الكيميائية في الدماغ.
يرتبط الضوء الأزرق أيضًا بعلاج مرض الباركنسون (Parkinson)، وداء السكّري، وأنظمة التصرّف العصبيّة. لذا، تأملوا مونوكرومات إيف كلاين (Yves Klein)؛ فهي لا تشكّل أي ضرر.
من ناحية أخرى، وفي مقابلة مع الطبيب النفسي والعصبي وعالم بيولوجيا الأعصاب جون ديديه فانسون (Jean-Didier Vincent – عضو الأكاديمية العلمية وأستاذ فخري في جامعة باريس 11)، قال: “يُعطي العمل الفنّي للمشاهد فرصة رؤية حالة دماغ أخرى”.
ماذا يقدّم العمل الفنّيّ للمشاهد؟
العمل الفنّي يمنح المشاهد فرصة رؤية حالة دماغ أخرى، أي دماغ الفنان. الفن إذًا شكلٌ عالٍ من التعاطف، تعاطف مع الفنان بما أظهره. أمام عارية بونارد، يمكن الإحساس بالقرب من الموديل التي تُدعى “مارت” Marth ، ، في غرفة الاستحمام في منزلها.
أليست هذه علاقة جنسيّة مع الفنّ؟
لكنّ الفنّ، بشكل بدائي، جنسيّ؛ الفن والجنس لا ينفصلان! الهاوي (l’amateur) يستهلك الفن كبديل عن الشيء الذي يرغب به. بمعنى أنه إذا استطعت أن تحبّ عملًا فنّيًا مع علمك أنّه قبيح، يمكنك أيضًا أن تكون مولعًا بشريك (أو شريكة)، على الرغم من إدراكك الموضوعي أنّه ليس جميلًا. هذا ما يُسمّى بالتمتّع غير النمطي. من جهة أخرى، هناك تمتع بالنظرية، وهو أمر مهم إلى حدّ كبير: أمام عمل فنّي لا يثير الرغبة، يمكن، عبر التفاف فكري دائري، أن نبرهن عن نوع من الرغبة. هي طريقة لخداع كائننا العميق. الوعي، في معظم الوقت، يحافظ على الوهم مقابل الحقيقة أو الواقع.
كيف نفهم الميكانزيم النفسي الذي يجذب الناس إلى المتاحف؟
لم يعد هناك فرد كما الكائن الحيّ. وفي الوقت نفسه، نحن لا نوجد إلّا بوجود الآخر. كلّ مخلوق، أو فرد، يُصبح إذًا، وبسرعة، مادّة للعدوى العاطفيّة، ممّا يعني خسارة ذاتيّة.. إنّ الصفوف غير المعقولة أمام المتاحف، تتشكّل من أشخاص ليس لديهم بالقوّة الزاد الثقافيّ الضروريّ لفهم ما سيرونه، مناسبة لهذه العدوى العاطفيّة. يوجد لدى الإنسان حاجة للمحاكاة، سأقول أيضًا بأنّه حيوان مفرط المحاكاة.
سننهي دراستنا مع الشعر، الوجه الآخر للفنّ..
هل يبقى شيء يقاوم نظرية علم الأعصاب في الفن؟
نعم، الشعر. الشعر يفيض على كل شيء، ويهرب من الذهني، ما يسمّيه البعض “التعالي” (La transcendence). وأنا أعجز عن تسميّته. رامبو وصف الشعر بقدرته على الرؤية المستقبلية (Voyant). الشعر مرجع ضوئيّ غير ماديّ، يهرب بالخيال إلى أفق حُرّ، بعيد عن أي قيود عصبية محددة.
المصدر: مجلة البعد الخامس
الخيام | khiyam.com
تعليقات: