
إلى جانب الوحدة والقانون، يبرز ملف إعادة الإعمار كواجب وطني وأخلاقي لا يحتمل التأجيل
أنا أدرك أنّ زمن الصمت لم يعد خيارًا، وأنّ الأوطان لا تُبنى بالانتظار، بل بالوعي والمسؤولية والجرأة على قول الحقيقة. ومن موقع الانتماء العميق إلى لبنان وإلى الإنسان، أتوجّه إلى شباب هذا الوطن برؤية تتجاوز الشعارات لتصبح مشروعًا حضاريًا يقوم على ثلاثة أعمدة: السلام، الوحدة الوطنية، واحترام القانون.
فالسلام، في عالمٍ يتسارع نحو الأزمات، لم يعد خطابًا أخلاقيًا ولا حلمًا مثاليًا؛ لقد أصبح ضرورة وجودية. لم يعد العالم يُدار بالقوة وحدها، ولا بالارتجال، بل بمنظومة عقلانية تُعيد للإنسان مكانته في قلب القرار. وفي زمن تتقاطع فيه الحروب مع الاقتصاد، وتصير فيه الأزمات المحلية صدىً لاضطرابات عالمية، يصبح القانون هو خط الدفاع الأول عن مستقبل البشرية.
والقانون لمن يدرك معناه ليس نصًا جامدًا، بل الضمير المنظَّم للأوطان. هو الذي يحمي المواطن من الفوضى، ويضبط الدولة بالعدالة، ويحوّل الوطن من مساحة نزاع إلى مساحة حياة. وكل تجارب التاريخ تقول لنا بوضوح:
حين يُهان القانون، يُهان الإنسان. وحين يُحترم، تزدهر الأوطان.
لكنّ أخطر ما يواجه عالم اليوم ليس الحرب فقط، بل انهيار الثقة:
الثقة بين المواطن ودولته،
بين الشعوب،
وبين الإنسان والمنظومة الدولية.
وعندما تتآكل الثقة، تتآكل معها كل قيمة، وكل تقدم، وكل استقرار.
لقد ساهمت خيارات خاطئة في إنتاج عالم متوتر: اقتصاديات تستبعد الفئات الضعيفة، سياسات تعمّق الانقسام، تشريعات متأخرة، وأنظمة لا تسمع صوت الإنسان بل صدى الأطماع .
لكن السؤال اليوم ليس: من أشعل النار؟
بل: من يملك الشجاعة ليضع القانون الذي يطفئها قبل أن تلتهم المستقبل؟
ورغم كل التحديات، يبقى الأمل ممكنًا. فالشعوب، مهما تباعدت، تتوحّد حول حاجتها إلى الأمان. والمجتمعات، مهما اختلفت، تلتقي عند رغبتها في الاستقرار. أما الشباب وخصوصًا في لبنان فيملكون القدرة على إعادة صياغة المعادلات إذا اجتمعوا على ثلاثة مبادئ: الانتماء، احترام القانون، وثقافة السلام.
ولبنان، بتاريخه وتركيبته الدقيقة، لا يُحمى بالقوة وحدها، بل بوحدة وطنية متماسكة تُفشل كل مشروع فتنة وتحصّن البلاد أمام أي تهديد خارجي. فالأخطار التي تحيط بلبنان اليوم واقعية ومتبدّلة، ولا تواجهها الدول الصغيرة إلا بدستور واضح، وقانون عادل، ووعي شعبي موحّد.
وإلى جانب الوحدة والقانون، يبرز ملف إعادة الإعمار كواجب وطني وأخلاقي لا يحتمل التأجيل، وخاصة في الجنوب اللبناني الذي دفع الثمن الأكبر من الاعتداءات والدمار.
إنّ تطوير المدن المتضررة، وإعادة بناء البنية التحتية، وإحياء الاقتصاد المحلي، ليست خدمات بل استحقاق لكرامة الناس وحقهم في الحياة.
ولا يمكن لأي دولة أن تستعيد شرعيتها أو ثقة شعبها إذا تركت أبناء الجنوب يواجهون الألم وحدهم.
ومن صميم احترام الدولة لذاتها ولشعبها أن تُقام الانتخابات النيابية في موعدها؛ فهي ليست إجراءً إداريًا، بل معيارًا لسلامة النظام، ودليلًا على أنّ لبنان قادر على تجديد حياته السياسية بإرادة شعبه لا بضغوط الخارج. فالانتخابات هي الباب الذي يدخل منه الإصلاح الحقيقي، وهي أساس إعادة بناء المؤسسات على قاعدة الشفافية والمساءلة.
وفي قلب هذا المشروع الإصلاحي والتحوّل الوطني، يقف الذكاء الاصطناعي كقوة قادرة على تحديث القوانين، مكافحة الفساد، تحليل الأزمات قبل انفجارها، وخلق منظومات شفافة تعتمد على البيانات لا على المزاج السياسي. سيصبح الذكاء الاصطناعي قريبًا شريكًا فعليًا للمشرّع و وحدة لبنان حارسة للسلم الأهلي.
لكن لبنان لا ينهض فقط بالقانون والعمران… بل أيضًا بتكريم من قدّموا حياتهم لأجل بقائه.
وفي هذا السياق، أرفع تحية إجلال لأرواح شهداء الجنوب الذين حموا لبنان بدمائهم، وتحية عرفان لأهاليهم… وخصوصًا أمهات الشهداء اللواتي حملن أثقل الأوجاع بصبر يُشبه البطولة. إنّ دماء الشهداء ليست صفحة في التاريخ، بل مسؤولية في عنق كل من يريد لهذا البلد حياةً ومستقبلاً وكرامة.
إنّ إدراك أن السلام غير مضمون لا يجب أن يزرع الخوف، بل أن يوقظ الوعي. فنحن قادرون، إذا اجتمعنا على القانون لا المصالح، وعلى الوحدة لا الانقسام، وعلى الحكمة لا الانفعال، أن نبني وطنًا يليق بنا… وأن نقدّم للعالم نموذجًا في الشجاعة والنهضة.
اليوم، نقف أمام فرصة تاريخية:
أن نكتب، نحن الشباب، مشروع سلامٍ عادل، ووحدةٍ ثابتة، ودولةٍ تُحكم بالقانون، وتُبنى بالإعمار، وتُصان بالانتخابات الحرة.
فرصة لنحوّل لبنان من بلد مثقل بالأزمات إلى وطن ينهض بعقول أبنائه لا بأوجاعه… ويواجه الأخطار الخارجية بقوة وحدته وصرامة قانونه.
راشد شاتيلا
سياسي لبناني مختص في الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات
الخيام | khiyam.com
تعليقات: