التجار يــهــرّبون بضــائــعــهــم مــن الدمــار بــتــنــزيـلات مبكرة.
اكثر من عشرين يوما مرت على هدنة المئة يوم التي دعت اليها الهيئات الاقتصادية المختلفة بهدف احياء النشاط الاقتصادي في لبنان على ابواب موسم سياحي كان يراد له ان يكون زاخرا، عساه يساهم في انتشال البلاد من الشلل الاقتصادي الذي تعانيه لألف سبب وسبب. الهدنة المطلوبة كانت سياسية في الدرجة الاولى، وكان يفترض ان تبدأ في اول حزيران الحالي، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، فجاء الانفجار الامني في مخيم نهر البارد في 20 ايار الماضي مستتبعا بمسلسل الانفجارات الذي هزّ اكثر من منطقة في لبنان لتصبح الهدنة المطلوبة امنية ولا شيء غيرها، "والله بيعوض بالاقتصاد".
اذا قدر للهيئات الاقتصادية ان تعيد صياغة دعوتها، او خيّرت في طبيعة الهدنة التي تطمح اليها، فلا شك في أنها ستطالب بهدنة أمنية، وليتعارك اهل السياسة قدر ما يشاؤون ويستطيعون، لان انعكاس الخلافات السياسية على الاقتصاد، على ما يبدو، هو اقل وطأة من تلك الامنية. هذا ما اثبتته التجربة حتى الآن، علما انه في كل عرس سياسي او امني او اجتماعي او بيئي، يهتز الاقتصاد اللبناني. فكيف اذا اجتمعت هذه العوامل دفعة واحدة، ويمكن عندها القول على الاقتصاد السلام.
لا احصاءات رسمية بعد لحجم الخسائر الاقتصادية جراء التفجيرات الامنية التي استهدفت ضرب مراكز تجارية وصناعية في رسالة واضحة بأن المطلوب هو رأس الاقتصاد اللبناني العليل اصلا، من دون الخوض في التداعيات الاقتصادية لانفجار الوضع في نهر البارد الذي دخل اسبوعه الرابع. الاضرار المباشرة تشير الى كلفة مرتفعة بمئات الاف الدولارات. وهذا ما يمكن تقديره في زيارة ميدانية للاماكن التي استهدفتها التفجيرات الليلية. فالمتاجر التي صنفت أضرارها طفيفة، بلغت خسائرها خمسة آلاف دولار في اقل تقدير. ففي هذه الحال تكون الاضرار قد اقتصرت على تحطم زجاج واجهات المتجر، وانهيار السقوف الاصطناعية، وتعطل الانارة. اما في حالة الاضرار المتوسطة والكبيرة فتقفز الكلفة الى عشرات آلاف دولار، علما ان معظم التجار بادروا الى اجراء التصليحات اللازمة على حسابهم الخاص، اذ لا يمكنهم التوقف عن العمل ولو ليوم واحد. هذا ما يؤكده صاحب محل ملبوسات في سوق عاليه، مشيرا الى ان "الموسم لا يزال في بداياته. وكما هو معروف تكثر المناسبات في الصيف وترتفع نسبة حفلات الخطوبة والزواج وسواها. وقد استعد التجار لهذا الموسم في شكل جيد. فملأوا متاجرهم بكل ما يلزم من ملبوسات واكسسوارات وكانت النتيجة انفجار احرق ما احرق والحق اضراراً بالغة في البضائع التي وضبت حديثا على الرفوف في انتظار الزبائن".
قبل أوانه
تطايرت القمصان، وتمزقت البزات، واحترقت ربطات العنق، واجلت المناسبات في انتظار الفرج.
ورغم ذلك، يؤكد التجار انهم مستمرون، ولا خيار لهم غير ذلك اصلا، فالاستسلام يضاعف من حدة خسائرهم.
يشعر زائر عاليه هذه الايام ان موسم الصيف انتهى قبل ان يبدأ. فالحركة في السوق التجارية، خفيفة نهارا وشبه معدومة ليلا. وهذا حال كل لبنان عمليا. ولكن المسألة تكتسب بعدا آخر في هذه المنطقة التي يقوم اقتصادها بشكل اساسي على موسم الاصطياف. اذ يعمل ابناؤها صيفا ليؤمنوا معيشة السنة بكاملها. لذا، ابدوا حرصا شديدا على ازالة كل اثار الانفجار وافتتاح السوق في اليوم التالي وكأن شيئا لم يكن، علما أن المسألة ليست بهذه السهولة، وخصوصا ان العبوة وضعت في منتصف السوق ما الحق خرابا ودمارا في اكثر من 90 متجرا ومؤسسة ، ونحو 50 مكتبا وعيادة فضلا عن الاضرار الاخرى التي طاولت البيوت والسيارات، وفق ما يؤكد رئيس جمعية تجار عاليه سابا شهاب.
من عاليه الى العاصمة التي استهدفت بانفجارين شكلا فاتحة مسلسل الرعب لهذا الموسم، لا يختلف المشهد كثيرا. فآثار الانفجارات ازيلت لمصلحة اعادة الامور الى سابق عهدها، علما ان الاضرار هنا ايضا لم تكن بسيطة بل تجاوز عدد المتاجر المتضررة في فردان 25 متجرا بينها مبنى احترق فيه عدد من الطبقات وفق ما يؤكد رئيس جمعية تجار فردان سابا عبده، في حين طاولت الاضرار المكاتب التجارية والشركات ومطاعم الوجبات الجاهزة في الاشرفية التي تتوزع في مبنيين محاذيين لمركز الـ " أ.ب.ث" التجاري، الى عدد من المتاجر داخل المركز عينه، وفق ما يشير رئيس جمعية تجار الاشرفية طوني عيد.
سارع عدد من اصحاب المحال الى اجراء التصليحات اللازمة. ومنهم من تريث اما لانه غير قادر ماديا او لانه يخاف ان تتكرر التجربة مرة ثانية وثالثة، وليس من مؤشرات تؤكد عكس ذلك. فلا حاجة لتبذير اموال غير موجودة اصلا او للاستثمار مجددا لان النتيجة ستكون خسارة مؤكدة ما لم يستقر الوضع الامني وفق ما يؤكد صاحب احد المتاجر في الاشرفية.
الورش لا تزال قائمة في الاماكن الخمسة التي استهدفتها الانفجارات وخصوصا ان حجم الخراب كان كبيرا وادى الى تصدع عدد من المتاجر وانهيار جدران كاملة فيها. وإعادة اعمارها تحتاج الى وقت ومال، علما ان الاصلاحات السريعة أنجزت، فرممت الواجهات الزجاجية واستبدلت الابواب المخلعة بأخرى جديدة، وطليت الجدران التي نالت منها الحرائق التي اشتعلت جراء الانفجار، ولكن هذا وحده لا يكفي لاعتبار ان ما حصل لم يحصل فعلا. اذ فقدت المتاجر عنصرا اساسيا يبرر استمرارها وهو توافد الزبائن اليها.
هل سيكون الآتي اعظم؟
المشكلة ان اللبنانيين لا يخافون مما حصل، بل مما يمكن ان يحصل. فما يكادون يصحون من صدمة الانفجار الاول حتى يقع الثاني وهكذا دواليك. وقد بلغ هذا المسلسل حلقته الخامسة، فبعد انفجار سد البوشرية الذي استهدف مركز عبد المسيح التجاري حيث بدت اضراره متوسطة مقارنة بالانفجارات الثلاثة، كما اكد رئيس بلدية جديدة- البوشرية انطوان جبارة، جاء انفجار زوق مصبح محققا نقلة نوعية. اذ كان الهدف صناعيا هذه المرة. وانقذت المنطقة من كارثة محتمة، وفق ما يؤكد رئيس تجمع صناعيي كسروان نقولا ابي نصر مشيرا الى ان في المصانع مواد قابلة للاشتعال والاحتراق بسرعة هائلة. الخسائر هنا كبيرة.
شكل الانفجار ضربة كبيرة للصناعة في لبنان وخصوصا ان الصناعات الموجودة في هذه المنطقة منوعة، وتشمل الالمنيوم والورق والمواد الغذائية وادوات التنظيف، عدا عن ان المواد الصناعية بطبيعتها باهظة الثمن، والمتاجر التي تضررت، ويتجاوز عددها العشرين مؤسسة صناعية، هي عمليا المصانع الصغيرة التي تلبي عادة حاجات المصانع الكبيرة، كما يشير ابي نصر، لافتا الى ان هذا الاحصاء لا يشمل المحال التي خلعت ابوابها.
الخسائر المباشرة على فداحتها، ليست ما يشغل بال التجار، ولكن الأزمة الحقيقية تتمثل في الخسائر غير المباشرة الناتجة من الشلل الذي ضرب الاسواق عموما . فخسارة السياح لهذا الموسم اصبحت حقيقة لا مفر منها. ولكن ما لم يكن في الحسبان هو خسارة الزبون المحلي. وهي خسارة تضاف الى جملة خسائر تندرج في خانة الاضرار غير المباشرة للتفجيرات التي لا يمكن تقدير حجمها وخصوصا انها مرتبطة بالاستقرار الامني وقدرة المستهلك على التجوال في الاسواق من دون الخوف ان يذهب ضحية شراء قميص او حذاء او نظارات شمسية مثلا!
يكشف التجوال في الاسواق اليوم عمق المأزق الذي يعيشه التجار. فهم موزعون ما بين اعادة ترميم ما خلفه الانفجار الذي استهدف متاجرهم وبين كسب الزبون بأي ثمن. وكل مهمة هي مشقة في ذاتها.
المراكز التجارية تبدو شبه خالية بعدما تبين انها تحتل مرتبة متقدمة في لائحة الاستهدافات، المتاجر لا يدخلها سوى الموظفين الذين باتت تفاجئهم مشاهدة زبائن قلائل يتجولون في المراكز التجارية فيسمونهم "المغامرين" بدافع التهكم. وتروي سيدة انها قصدت اخيرا احد المراكز التجارية بعد الظهر لشراء بعض الحاجات الضرورية، وكانت صدمتها كبيرة اذ اكتشفت انها تكاد تكون الزبون الوحيد الذي دخل هذا المركز طوال النهار. فخالت للحظات ان هناك اضرابا او حظرا للتجول ليست على علم به، الى ان بادرتها احدى البائعات بوصفها بالشجاعة، فادركت حينها ان المسألة مرتبطة بخوف الناس من التفجيرات. اختصرت عندها جولتها وخرجت مسرعة من المركز التجاري، ليس خوفا فحسب بل لان خلو المركز من الزبائن يثير الرهبة في النفوس ويفقد الشهية على التسوق. يترحم اصحاب المحال على الزمن الذين كانوا يشكون فيه ضعف الحركة التجارية بسبب الاوضاع السياسية او الظروف المعيشية. اذ ان البيع حينذاك كان في اوجه مقارنة مع اليوم. ففي عز الازمات الاقتصادية، لم يضطر التجار الى الاعلان عن التنزيلات في مطلع شهر حزيران، اي بعد ايام قليلة على بدء الموسم الصيفي وظهور البضائع الجديدة في الواجهات.
وليست التنزيلات من النوع التشجيعي فحسب، بل ترتفع احيانا نسبتها لتتجاوز الخمسين في المئة. اذ يرغب التجار في التخلص من البضاعة باي شكل وباسرع وقت ممكن خوفا من ان تذهب ضحية انفجار ما. وتروي فتاة جامعية انها اشترت حاسوبا بأقل من سعره بمئتي دولار اميركي لان صاحب المحل قال لها صراحة انه يريد التخلص من البضاعة حتى ولو باعها باقل من كلفتها، فخسارته ستكون محدودة ولكن اذا استهدفها انفجار، يذهب كل ما جناه بلمح البصر.
شكوى يائسة
لا يقتصر الضرر الاقتصادي للتفجيرات الامنية على الحركة التجارية فحسب، بل يتعداها ليطال المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية. فهنا الشكوى يائسة. ولا يمكن التحايل على الموضوع باجراء تنزيلات مبكرة او بيع البضاعة بسعر الكلفة، فالبضاعة ليست معدة للبيع بل للاستهلاك السريع. انها مأكولات ومشروبات وفواكه وخضار ترمى في النفايات ما لم يتم استهلاكها في الوقت المحدد الذي لا يتجاوز عادة بضعة ايام. يقول صاحب ناد ليلي في الحمراء، انه اضطر الى الغاء كل الحفلات التي يقيمها في عطلة نهاية الاسبوع منذ الانفجار الذي استهدف منطقة الاشرفية. وهو لم يكن مخيرا، اذ لا يمكنه ان يدفع للفرقة الموسيقية بدل اتعابها ما لم يؤمن حضور 20 شخصا على الاقل. ولكن من اين يأتي بهم؟ ففي كل شوارع بيروت لا يمكن ان تجد عشرين شخصا يتجولون ليلا!
الازمة الاقتصادية باتت مفتوحة على مصراعيها. وكل تطور يجري على هذا المستوى يندرج في خانة التدهورالذي يضاف الى تدهور سابق. وهكذا دواليك الى حد باتت معه البيئة الاقتصادية للبلاد عبارة عن طبقات من التدهور لا احد يضمن لحظة انفجارها. والمشكلة، ان المسألة متروكة في انتظار فرج لا احد يعرف من اين سيأتي ومتى وكيف.
... هذا أقله هو انطباع المواطنين واصحاب المصالح والتجار الذين ملّوا الشكوى.
تعليقات: