في 28 تشرين الأول 2008 أعلنت الصحيفة اليومية الاميركية الكبرى "كريستشن ساينس مونيتور" التي تأسست عام 1908 أنها ستتوقف عن الصدور بطبعة ورقية وأنها ستصدر الكترونياً فقط إبتداء من نيسان 2009.
في اليوم عينه، أعلنت شركة غانيت، وهي اكبر ناشر للصحف في أميركا وتملك 85 صحيفة يومية بينها "يو أس آي توداي" الواسعة الانتشار و800 صحيفة أو نشرة غير يومية اضافة الى 23 محطة للتلفزيون أنها ستخفض عدد العاملين في الصحف باستثناء "يو أس آي توداي" بنسبة 10% قبل نهاية السنة.
في 21 تشرين الثاني نشرت "النيويورك تايمس" مقالا عن القرار باقفال كيوسك الصحف الشهير "آوت أوف تاون نيوز" في ساحة هارفرد ببوسطن. وهو موجود فيها منذ 1955 وقد تحول مع الوقت معلماً من معالم الساحة وجزءاً من ذكريات كل من عاش او درس او حتى زار هارفرد، ليس لانه كان نقطة التقاء فحسب بل لان كل من اراد جريدة أو مجلة وبأي لغة وجدها فيه وهذا أمر نادر.
في 8 كانون الاول تقدمت شركة تريبيون التي تملك 12 جريدة في أميركا بينها اثنتان من الثماني الكبرى، "لوس انجلس تايمس" و"شيكاغو تريبيون"، و23 محطة للتلفزيون، من احدى المحاكم بطلب الحماية من الافلاس.
سلسلة من المؤشرات هي الاحدث لما تعانيه صناعة الصحف في أميركا. "كريستشن ساينس مونيتور" توصلّت الى ان استمرارها الورقي بدخل 12,5 مليون دولار سنوياً لا يستحق خسائر سنوية تبلغ 18,9 مليون دولار. شركة غانيت بررت اجراءها بانخفاض دخلها من الصحف بنسبة 32,5% غير "يو أس آي توداي" في الربع الاول من السنة مقارنة بالفترة المقابلة من 2007، والاسوأ كان انخفاض الاعلانات التي تشكّل مصدر دخلها الرئيسي بنسبة 17,7%. وسبب القرار بإقفال كيوسك هارفرد هو ببساطة أن "العمل لم يعد مربحاً" ففي النهاية حتى من يتأثر عاطفيا باقفاله يعرف انه قادر على قراءة الصحف والمجلات "اونلاين". أما شركة تريبيون فأضيف انخفاض دخلها في الربع الثالث من السنة بنسبة 19% كنتيجة مباشرة لتراجع لا سابق له في الاعلانات الى ديون تتضخم منذ مدة حتى بلغت 13 مليار دولار مقارنة بارصدتها البالغة 7،6 مليارات دولار.
ومع ان الاسباب المباشرة في الحالات الاربع مادية، فإن الاسباب الحقيقية تتعلق بالبدائل الالكترونية. ولعل قرار "كريستشن ساينس مونيتور" يلخص وحقيقة المشكلة وقد جاء بمثابة ناقوس الحقيقة لصناعة الصحف. ليس لأن اصحاب الشأن من ناشرين ومحررين وحتى قسم كبير من القراء لا يعرفون الحقيقة وإن تجاهلوها فترة ، بل لان إعلان وقف الطبعة الورقية كان إيذانا بقرب الساعة: الصحف الورقية تتلاشى.
مفاجأة؟ لا.
مسؤول التحرير في "كريستشن ساينس مونيتور" جون يمّا شرح لدى اعلانه القرار ان الانتقال الى النشر الالكتروني وحولها يسمح للجريدة بالاستمرار وبإبقاء مكاتبها الثمانية في العالم مفتوحة. فهذه الجريدة التي تموّلها إحدى الكنائس وتوزع الى المشتركين وحدهم ولا تبغي الربح كانت مهددة كليا على رغم ما ملكته ذات يوم من سمعة ونفوذ نتيجة رصانتها وشمولية تغطيتها. فبعدما كانت توزع 220 الف نسخة عام 1970 انتهى بها الحال هذه السنة الى توزيع 52 الف عدد فقط. وفيما تدهورت عائدات اعلاناتها في الطبعة الورقية، ارتفعت في موقعها الالكتروني.
وإذا كان التحول الالكتروني لهذه الجريدة أثار نقزة لدى كثيرين، فإن يمّا نفسه اعتبر أن الأهم في القرار هو أن "لدينا الامتياز الان لتحقيق هذه القفزة التي سيكون على كل الصحف أن تقوم بها في السنوات الخمس المقبلة". الجميع "يتكلمون عن نماذج جديدة مطلوبة من الصحف. هذا نموذج جديد".
خمس سنوات؟ أبهذه السرعة ستختفي صحف الحبر والورق التي تربعت طويلاً على عرش الإعلام واستمرت بعدما قيل لها إن الراديو سيقتلها ثم ان التلفزيون سيقتلها؟ استمرت سلطة رابعة تهز أنظمة وسياسات. تكشف فضائح وتحاسب مقصرين. أبهذه السرعة سيكون على المتعاطين إصدار الصحف ان يتخلوا عن سعادة رؤيتها تحت الطبع ثم في نقاط التوزيع وان يتخلوا عن عشقهم لرائحة الحبر والورق. ثم ماذا عن القراء؟ هؤلاء الاوفياء الذين طوروا مدى سنوات طقوساً خاصة بهم لقراءة الجريدة. هذا لا يبدأ نهاره إلا بها وذاك لا يعرف ان يشرب قهوة الصباح الا في صحبتها. هذا يشتريها قبل ان يتوجه الى عمله وذاك يحملها الى المقهى ليدور النقاش مع رفاقه حول ما فيها؟
الجواب لن يعجب كل هؤلاء. نعم. هذه الصحف التي نعرف دخلت مرحلة النهاية ليس في أميركا فحسب بل في العالم كله. قد تختلف الطريق الى النهاية كما قد تختلف المسافة اليها، تتسهّل او تتعثّر، تطول أو تقصر. لكن الانتقال من الورق الى النشر الالكتروني أو الى نموذج مشترك ما بحسب قدرة المؤسسات هو أمر حتمي اذا كان للصحف بما تعنيه من مضمون وليس من ورق ان تستمر.
لا مفاجآت. ثورة تكنولوجيا الاتصالات تهز أركان وسائل الإعلام التقليدية، المطبوعة والمرئية والمسموعة. وثمة توافق لدى المؤسسات الاعلامية في العالم على ذلك، وإن تكن التأثيرات أوضح اليوم في الغرب. وثمة إجماع على ان الوسيلة الاكثر تضرراً هي المطبوعة وفي مقدّمها الصحف. الإنترنت فتحت آفاقا لا سابق لها وبدأت تأكل من خبز الجرائد: الأخبار. صار الخبر متوافراً في أي لحظة لمن يملك جهاز كومبيوتر واتصال بالإنترنت. ثم جاءت كل هذه الأجهزة الصغيرة المحمولة من هواتف خليوية وأجهزة قراءة الكترونية لتضع الخبر عملياً في كف اليد. فماذا تفعل الصحف التي تعمل 24 ساعة لتصدر طبعتها الورقية وتنتظر القارئ ليشتريها أمام منافسة 24 ساعة بل منافسة متحركة تلحق هي بالقارئ أينما كان؟ بل ماذا تفعل الصحف وسوق الإعلانات، شريان حياتها، ينتقل الى المواقع الالكترونية؟
أكثر من ذلك. مَن مِن جيل الشباب يحتاج الى الورق؟ بل حتى ان دراسات في الغرب تظهر اعداداً متزايدة ممن هم دون سن الخمسين يفضلون القراءة الالكترونية للصحف. يمكن أي شخص ان يجلس امام الكومبيوتر ويقرأ جريدته المفضلة وينتقل الى صحف اخرى للمقارنة بل يمكنه ان يجمع جريدة خاصة به من المواضيع التي تعنيه في صحف مختلفة ويقرأها أو حتى يحمِّلها على هاتفه الخليوي وينقلها في جيبه اينما كان.
تحديات خطيرة للصحف. الورطة واحدة وإن اختلفت وتيرة ضغوطها بحسب الموقع الجغرافي للجريدة وانتشارها ونفوذها. البعض بدأ يبحث عن مخارج ومن لم يبدأ بعد سيكون عليه ان يفعل في وقت قريب. لكن بلوغ الحل لا بد ان يستوعب كل التغييرات التي أوصلت الصحف الى ما هي عليه الان سواء بأساليب عملها أم بشرائح قرائها أم بمرونتها في التأقلم مع التغييرات.
وهنا القصة. وبدايتها مع الخبر والشعار الذي رفعته الصحافة عموماً: كل الاخبار التي تستحق النشر.
نشرت الصحف الأخبار وكانت عملياً الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلانية. طبعا تعرضت الصحف لتحديات من الراديو والتلفزيون لكنها تجاوزتها بسهولة نسبية وإن يكن التحدي التلفزيوني الاكبر جاء مع انطلاقة محطة "سي أن أن" التي تبث الاخبار 24 ساعة. استدعى هذا خصوصا لدى الصحف الكبرى في العالم وربما الكبرى في دولها أن تعيد النظر في مضمون ما تنشر وتعزّز الخبر بمزيد من التحليل والرأي أو تحاول التركيز على قصص وتحقيقات خاصة بها. على أن هذا التحدي لم يهدّد الصحف في وجودها وإن يكن توزيعها بدأ يتراجع تدريجا منذ الثمانينات من القرن الماضي لاسباب عدة منها أيضاً ارتفاع كلفة الورق.
عملياً استمرت الصحف قوية في موقعها أكثر من مئة سنة بفضل دورة مثالية في نظامها: القراء يدفعون للمؤسسة الصحافية ثمن الاخبار التي يشترونها في جريدة. والمعلنون يدفعون للمؤسسة ليصلوا الى القرّاء. والناشرون يحقّقون أرباحاً تمكّنهم من دفع الرواتب وتغطية النفقات الاخرى. كان الجميع مستفيدين وسعداء.
بدأت الانترنت بالانتشار ومعها بدأت هذه الدورة تتفكك. القراء تشتّتوا والاعلانات تشتّت. وما كان يعتبر مشاكل في التوزيع وانخفاضا في المداخيل قبل الانترنت تضاعف معها واخذ يتسارع على نحو كبير. مشاكل في التوزيع ومشاكل في الاعلانات ومشاكل في تحديد دور الصحيفة في ظل الانترنت ومحاولة إبقاء القدرة التنافسية وكسب قراء جدد لا تشبه تركيبتهم الذهنية ومتطلباتهم القراء الكلاسيكيين للصحف.
في مجال التوزيع كان الاتجاه العام منذ عقود الى انخفاض ولو، بنسب ضئيلة في أميركا وأوروبا الغربية وأميركا اللاتينية وأوستراليا ونيوزيلندا فيما كان الى ارتفاع في مناطق أخرى من العالم. وربما فسّر ذلك الفجوة التكنولوجية ومحطات التلفزيون التي تتطلب اشتراكا والفقر في مناطق عدة من العالم وعدم توافر الكهرباء بانتظام وغيرها من مشاكل الدول النامية. لكن هذه الفجوة بدأت تضيق مع انتشار الإنترنت ويبدو ان الصحف في معظم الانظمة الديموقراطية تواجه الان تراجعاً في التوزيع.
هذا التراجع الذي عززه انتشار الانترنت بدأ يتسارع في الغرب في السنتين الاخيرتين. ففي أميركا مثلاً انخفضت المبيعات في فصلي الربيع والصيف هذه السنة، أي بين الاول من آذار و30 ايلول، بنسبة 5% عن الفترة المقابلة من 2007. واظهر تقرير شمل 500 صحيفة ان نسبة التراجع 2% التي كانت نمطاً في السنوات الاخيرة ارتفعت هذه السنة الى 4,6% ايام الاسبوع و4,8% ايام الاحاد. وقد تفاوتت النسبة بين الصحف الكبرى. "الواشنطن بوست" انخفض توزيعها 1,9% و"لوس انجلس تايمس" 5,2% و"اتلانتا جورنال" 13,6%. اما "النيويورك تايمس" وهي الثالثة في التوزيع فانخفض توزيعها في ايام الاسبوع 3,6% ليتجاوز قليلاً مليون نسخة وانخفض ايام الاحد 4,1% ليصير نحو مليون وربع مليون نسخة، علما ان عدد الاحد هو عادة الاكثر توزيعاً.
خلال سني التراجع كانت الصحف تميل عموماً الى تجاهل المشكلة الاساسية، أي ترفض الاعتراف بالواقع الجديد الذي تحدثه ثورة تكنولوجيا الاتصالات. كانت تعرف ان الإنترنت بدأت تشكّل خطراً عليها وخصوصاً من حيث استقطاب قرائها أو شرائح جديدة من القراء ولا سيما منهم الشباب، لكنها كانت تكتفي بلوم الإنترنت على تراجع التوزيع مثلما كانت تتحدث عن أرباح في الاعلانات على الإنترنت من غير ان تعترف ان هذه الاعلانات تذهب من طريقها. عمليا لم تغير الصحف السياسات التقليدية التي كانت تتبعها كلما واجهتها مشكلة مالية نتيجة التوزيع أو النقص في الاعلانات: خفض الموازنة وعصر النفقات مما يعني اقفال مكاتب للصحيفة في الخارج أو صرف عدد من الموظفين أو التضييق المالي على عملهم. ولاحقاً درجت نظرية مفادها ان تقليص حجم الجريدة نفسها أربح مادياً وقد اتبعها عدد لا بأس به من الصحف. مرة بتصغير حجم الصفحات ومرة بإنقاص عدد الصفحات، مرة بإلغاء أبواب من الجريدة ومرة بإضافة أبواب أقل جدية وأكثر تسلية وترفيهاً يعتقد الناشرون انها تجذب المعلنين.
الأرجح أن أكثر الصحف في أي بلد كانت، عاشت شيئاً من هذه التجارب علما ان خبراء الإعلام كانوا يحذرون باستمرار من ان هذه السياسات تعطي نتائج عكسية. فهم يرون ان تصغير حجم الجريدة أو الغاء أبواب منها هو دعوة صريحة للقارئ الى تقليل اهميتها والتخلي عنها. وعصر النفقات بما يقيّد عمل الصحافي يفقده الحماسة للسعي وراء أفضل القصص. كما ان سياسة "الخبر الجيد هو الخبر المربح فقط" تعني عملياً تدهور النوعية.
على هذه الخلفية من واقع الصحف انتشرت الإنترنت بسرعة هائلة. وشيئاً فشيئاً بدأت الصحف تنشئ مواقع الكترونية لها اعتبرتها بمثابة نسخة دولية أي انها اعتبرت الإنترنت موزعاً الكترونياً للصحيفة الورقية. لكن هذا لم يصمد طويلاً. تكنولوجيا الاتصالات اختصرت الزمن مسافات لا يزال اللحاق بها يبدو صعباً أحياناً والآفاق التي فتحتها الإنترنت تركت الصحف في حال من الارتباك لا تعرف كيف تتعامل معها وقد تغيّر أمران أساسيان:
الأول، ان الإنترنت بدأت تصيب الصحف في المكان الموجع أي جيوبها لانها تسحب سوق الاعلانات. وتكفي الاشارة الى انه في أميركا فقط انخفض سوق الاعلانات للصحف بنسبة 25% في السنتين الاخيرتين. ومع الازمة الاقتصادية الأخيرة يعتبر التراجع الاعلاني هو الاسوأ تشهده الصحف منذ الركود في الثلاثينات من القرن الماضي. دوّت الصرخة وصارت إعادة النظر في شكل الصحف ومضمونها ومستقبلها مسألة حتمية وعاجلة. الصحف الصغرى ذات التوزيع المحدود في أميركا مثلاً تعثّرت فتخلى الكثير منها عن الطبعة الورقية واكتفى بالالكترونية أو اقفل كلياً.
الثاني، أن الإنترنت وما تبعها من أجهزة محمولة موصولة بها الغت عملياً القيمة التقليدية للصحيفة. صار في إمكان أي شخص أن يحصل على الخبر محدثّاً ليس من مواقع الصحف فحسب بل من مواقع أية وسيلة إعلامية أخرى أو من المواقع الاخبارية لمحركات البحث مثل "غوغل" و"ياهو" أو من مدونات أو غيرها، وصار في امكانه ان يتجاوز ما تنشره الصحيفة لاجراء البحث الذي يريد وبأفضل الاساليب والدقة، والاهم صار الخبر بالنسبة اليه تفاعلياً وليس جامداً وفوق كل هذا مجانياً.
هذا الواقع يدفع مدارس صحافية في جامعات الغرب الى اعتبار ان الورق لم يعد يستحق العناء والكلفة، ولا بد من بدء العمل الصحافي مباشرة عبر الانترنت. وهكذا بدأت تبرز صحف من فصيلة جديدة هي الصحف الالكترونية التي لا ماضي ورقياً لها.
اذاً كيف تستمر الصحف في ظل الانترنت، بل كيف تستمر ومطلوب منها التنافس مجاناً والحفاظ على النوعية؟
مكوّنان اساسيان مطلوبان للنجاح: المخيّلة والمرونة. كلتاهما ضرورية لاستيعاب التكنولوجيا الحديثة ودمجها في غرف الأخبار لتصير جزءاً رئيسياً بل جزءاً لا يتجزأ من نظام العمل. فأي صحيفة تعتقد انها قادرة على الاستمرار من دون استخدام حقيقي واسع للانترنت تكون حكمت على نفسها بالاعدام وإن مع تنفيذ مؤجل الى حين. العلاج في غرف الأخبار. فالاكتفاء بالمواقع الالكترونية لعرض الأخبار الواردة في الصحيفة لا يكفي كما لا تكفي اضافة "آخر الأخبار" فقط. الصحف التي تستوعب ثورة الانترنت خطت عملياً في اتجاه جعل الموقع أكثر من جريدة. تضع الأخبار وتواصل تحديثها طوال الوقت وتربطها بمقالات تضيء على خلفية الموضوع واطاره، وهذا ما لا قدرة للصحف الورقية عليه بحكم المساحة، وترفقها بصور وأشرطة فيديو وتفتح مجال التعليق على المقالات ومجال النقاش مع الكتاب في قضية ساخنة معينة. وهكذا. وبهذا المعنى فان المواقع الالكترونية لصحف مثل "الانترناشونال هيرالد تريبيون" و"الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمس" و"الغارديان" والفايننشال تايمس" وغيرها من الصحف الكبرى في العالم صارت أشبه بمؤسسات إعلامية. وهذا لا يحصل من دون ارباح تحققها هذه الصحف من الاعلانات في مواقعها. وهي تعتقد ان الارباح من الاعلانات سترتفع وانه لا بد للصحف الصغرى من ان تجد سبيلاً الى مثل هذا الربح وضمان حصتها في السوق الاعلاني الجديد لكي تستمر.
تجارب كهذه تجعل الصحف الرائدة في هذا المجال قادرة على الانتقال السلس من النشر الورقي الى النشر الالكتروني متى ارتأت ان الوقت حان، ولعل في التجربة التي تخوضها "النيويورك تايمس" دروساً كثيرة. ناشر الصحيفة آرثر سولزبرغر يرى ان "النيويورك تايمس في رحلة ستنتهي يوم تقرر الشركة ان توقف بيع الجريدة الورق. هكذا تنتهي المرحلة الانتقالية. رحلة طويلة وستكون فيها مطبات كثيرة". وهو صرح في مقابلة صحافية في 2007 بأن ارباح الجريدة تنخفض منذ أربع سنوات لكن ما تخسره الصحف الان تربحه مواقعها الالكترونية حتى لو لم يكن الربح كبيراً بعد، والسبب ان الإنترنت ليست فيها كلفة الحبر والورق والتوزيع، بل حتى ان كلفة الانتقال كلياً الى الكومبيوتر لا تساوي شيئاً مقارنة بكلفة الورق. وبعدما أشار الى ان معدل عمر قراء الصحيفة الورقية هو 42 سنة وانه لم يتغير في السنين العشر الاخيرة لاحظ بتفاؤل ان معدل عمر قراء الموقع الالكتروني هو 37 سنة.
وإذ اقر بان الصحف لم تعد المحور كما كانت في السابق، فإنه لا يرى لها مستقبلاً بمعزل عن التطورات التي تغيّر شكل العالم كله. ومثلما باتت الصحيفة الورقية تتكامل مع نسختها الالكترونية (كأن يحوّلك خبر ما الى الموقع لمزيد من المعلومات والقصص المتعلقة به)، فإن ادارة الجريدة اجرت عقداً مع شركة "مايكرو سوفت" لتوزع الجريدة الكترونياً عبر برنامج اسمه "تايمس ريدر" (قارئ التايمس) مما يوصل النسخة مباشرة الى شاشة المشترك مثلما يوصلها الموزع مباشرة الى البيت.
مثل هذا التأقلم مع تكنولوجيا الاتصالات هو الاتجاه في العالم. وهذا ما أظهره استطلاع "بارومتر غرفة الأخبار" الذي أجراه مركز زغبي الدولي لحساب منتدى المحررين العالمي ووكالة "رويترز" وقد شمل 713 رئيس تحرير أو مسؤول تحرير في 120 دولة أجابوا عن الاسئلة "أونلاين" في آذار الماضي وقد اجري الاستطلاع بثماني لغات: الانكليزية والاسبانية والفرنسية والالمانية والبرتغالية والعربية والروسية واليابانية. وأعرب 85% من المشاركين عن اعتقادهم ان مستقبل الصحف لن يكون في المطبوع وحده وان التكامل بين المطبوع و"الاونلاين" سيكون القاعدة في غضون خمس سنوات. وهذا يليه ادراك هؤلاء أن بعض الوظائف التحريرية ستزول وانه سيكون على الصحافيين انتاج مادة تنفع للوسائل المختلفة. وفي هذا يرى 35% ان تدريب الصحافيين سيكون في رأس الاولويات للاستثمار في التحرير النوعي، فيما اعتبر 31% ان المطلوب سيكون توظيف صحافيين جدد مدربين على التعامل مع اكثر من وسيلة اعلامية. ولكن في الوقت عينه لا يزال القلق كبيراً من "تهديد" الانترنت وانخفاض عدد القراء الشباب ومن النقص في السياسات التحريرية الخلاقة والنقص في الاستثمار. وهذا يبقي غالبية الصحف ربما في حال من الارتباك تشكّل هي نفسها التهديد الاول لها.
ولكن ماذا عن النوعية ومن سيحميها من طوفان المواد على الانترنت ومن الكم الهائل من المدونات والمواقع التي تسمي نفسها اخبارية؟ هذا تحد اضافي للصحف، والحفاظ على النوعية وهو مسؤولية المؤسسات الصحافية والصحافيين. هؤلاء هم حراس الخبر والقارئ الذكي يريد الافضل ويعرف ان يميّز بين الجيد والسيئ. ثم ان الإنترنت لا تزال تضع الصحافة في موقع متميز حتى لو اخافت التكنولوجيا المؤسسات الصحافية والصحافيين. ففي النهاية لا يزال نحو 80% من الاخبار المنشورة على الانترنت والمتداولة في المواقع هي أخبار صحف. ومثلما فتحت الانترنت مجالا لأي شخص كي يبحث ويكتب وحتى يفبرك، فإنها فتحت امام الصحافيين أبواباً كثيرة لاغناء عملهم والتدقيق في المعلومات والاطلاع على كل ما يعنيهم وما يعزز عملهم، وفتحت أمام المؤسسات الصحافية أبواباً واسعة للانتشار والوصول الى حيث لا يصل الورق. ثم من قال إن كل ما ينشر على الانترنت وخصوصاً في المدونات سيئ. هناك الكثير الجيد مما تستفيد منه حتى مواقع الصحف الكبرى.
هل كل هذا يعني نهاية الصحف؟
لا بد من التمييز بين الورق والجريدة. ما يتلاشى هو الورق لكن الجريدة قادرة على الاستمرار اذا عرفت ان تستفيد من ثورة الإنترنت لا اذا خافت منها. ففي النهاية من يشتري الجريدة لا يدفع عملياً ثمن الخبر بل ثمن الورق. وكلفته عادة أعلى حتى مما يدفع. لذا فإن الصحف بالمعنى الحديث لا تموت بل تتغير ويمكنها أن تحفظ موقعها بخلطة ملائمة من المخيّلة والمرونة ليكون انتقالها سلسا وبحسب ظروفها وظروف قرائها. والاهم ان الصحافة ليست وحدها في مواجهة هذه التحديات. الإعلام كله يتغيّر. من قال مثلاً إن التلفزيونات بمنأى عن اجتياح تكنولوجيا الاتصالات؟ فكروا فيها.
تعليقات: