وقّع مجلس الجنوب في 2 نيسان الجاري اتفاقاً مع المؤسسة العامة للإسكان السورية تلتزم فيه سوريا بناء 360 وحدة سكنية في قرى قانا والقليلة وصدّيقين. يمثّل هذا الاتفاق الخطوة العملية الأولى في الملف المتعلّق ببلدة صدّيقين التي لم يتقاض أهلها أي تعويض من الدولة اللبنانية حتى اليوم
اللافتة الزرقاء عند مدخل بلدة صدّيقين تؤكد أنك وصلت إلى المكان المقصود. من دونها لم تكن لتعرف أنك في القـرية التي كانت تشكل قبل الحرب شرياناً اقتصادياً للقرى المجاورة. لا ازدحام سير ولا حركة إلا باتجاه المركز المؤقت للبلدية المهدّمة حيث يجري تقديم طلبات مساعدة في الترميم تؤمّنها منظمة “habitat” العالمية.
هي ليست المرّة الأولى التي يقصد فــــــــــــيها أهالي البلدة منزل حسن بلحص، الذي استأجرته البلدية، من أجل تقديم طلبات للتعويض أو الاستفسار عن مسار الكشوف المتعدّدة التي تجري في تلك البلدة المنكوبة والتي لم يتقاضَ أي فرد من أبنائها ليرة واحدة من الدولة اللبنانية حتى الآن رغم نسبة الدمار المرتفعة التي تعرضت لها.
في صدّيقين، البلدة المنكوبة التي لطالما كان “الفعل لها والصيت لقانا” كما يتندّر أبناء البلدة، لا تزال خمس عائلات تقيم في مدرسة البلدة القديمة رغم مرور تسعة أشهر على انتهاء الحرب، ورغم مئات ملايين الدولارات التي تبرّعت بها الدول العربية من أجل المــــــساعدة فـــــــــي إعادة الترميم والإعمار.
هناك تــــــــكتشف أن رحلة العائلات المنـــــــــكوبة مع النزوح القسري، والإقامة في صــــــــــفوف مدرسية تحوّلت قسراً إلى غرف للمنامة، لم تنته بعد. أمضت تلك العائلات فصل الشتاء هناك، ولا بوادر تطمئنهم إلى احتمال قضاء فصل الشـــــــــــتاء المقبل في بيوت حقيقية. غيرهم من أصحاب البيوت المهدّمة استأجر في قرى أخرى، ينام هناك ويقضي النهار في قريته التي استقبلت عدداً من اللجان الفاحصة والكاشفة من أجل تخمين الاضرار. “الأخبار” كانت موجودة مع وصول إحدى هذه اللجان إلى البلدة، لكنها تابعة هذه المرة لمنظمة “habitat” ويكفي أن يعرف أحد أبناء البلدة الخبر لينتشر، هكذا يقول احد الموجودين في مبنى البلدية المؤقت، لكن الواقع بدا مختلفاً.
في حي الراس، الأقدم، والذي شهد النسبة الأكبر من التهديم، كانت الحاجة رمزية بكري واقفة أمام باب منزلها المهدّم جزئياً. “بعدك ما رحتِي سجّلتِي اسمك؟” تسألها مريم بلحص، شابة ناشطة في العمل الاجتماعي في البلدة. تجيبها بسؤال مقابل: “سأسجّل اسمي من جديد؟ ألم ينتهوا بعد؟”.
توضح لها مريم أن التسجيل الجاري حالياً (قبل أسبوعين) تقوم به منظمة إنسانية عالمية من أجل المساعدة في إعادة ترميم المنازل التي لم ترمّم بعد. ترتبك رمزية. طبخة المجدرة على النار ولا أحد في المنزل ليذهب إلى مبنى البلدية ويتقدّم بطلب ترميم. “لا تقلقي، سيعودون غداً، لكن لا تنسي” تقول لها مريم وتكمل سيرها لتخبر بقية سكان الحيّ المنكوب.
حسن ديب بلحص، كان يشرف على عمل الجرّافة أمام منزله، منذ انتهاء الحرب وهو يعاني مشكلة الصرف الصحي بالإضافة إلى التصدّع الكبير الذي أصاب منزله. ترى زوجته الكاميرا فتدعونا إلى معاينة البيت المتصدّع والفارغ من الأثاث. كانت غاضبة لأنها اتصلت بمجلس الجنوب وعرفت أن المبلغ الذي حدّد لها يصل إلى 13 مليون ليرة فقط.
“ماذا سيكفي هذا المبلغ؟” تسأل وهي تشير إلى الاضرار التي تحلم بإصلاحها، عندما يصل دور البلدة. يكفي أنها واثقة أنه سيأتي يوماً، وإلى حينه، تكمل الجرافة عملها لتستمر الحياة في أسوأ الظروف.
أسباب مختلفة يردّدها الأهالي في محاولة تفسير سبب هذا الإهمال، تبقى كلّها في إطار التأويلات والتكهنات الخاصة، في ظلّ غياب أي مرجع يخبرهم بحقيقة ما يحصل. يرجّح بعضهم أن يكون السبب هو الفارق الكبير في تقدير حجم الأضرار بين اللجان المختلفة التي كشفت على البيوت. فبعد الكشف الأول الذي قدّر البيوت المهدّمة بنحو 730 بيتاً، وهو “رقم مبالغ به إلى حد كبير”، أجرى مجلس الجنوب كشفاً ثانياً من دون تبلـــــــــــيغ أهالي البلدة هذه المرة. ثم أجــــــــــــريت كشوف مختلفة تراوحت فيها تقديرات البيوت المهدّمة بين 290، 360 و440 بيتاً. فيما يقدّم رئيس البلدية علي بلحص رقماً هو الأقرب إلى الصحة “360 بيتاً مهدماً بالكامل”.
غير أن هذا السبب ليس خاصاً بصدّيقين وحدها، حيث تكثر الشكاوى في مختلف القرى من تقديرات الأضرار والتلاعب بها، لذلك يستدرك عدد من أبناء البلدة الأمر ويرجّحون أن يكون ذلك مرتبطاً بتبنّي الدولة السورية مسؤولية إعادة بناء قريتهم “الخلاف السياسي بين الحكومة وسوريا طلع براسنا”. علماً أن سوريا تبنّت أيضاً إعادة بناء بلدتَي قانا والقليلة اللتين تقاضتا نسبة كبيرة من مبالغ التعويضات العائدة للترميم (في القليلة دفعت مبالغ لترميم 628 منزلاً، وفي قانا دفعت مبالغ لترميم 721 منزلاً، وهو ما وصلت قيمته إلى: 3 مليارات و722 مليون و411 ألف ليرة لبنانية).
وسط كل ّهذه التكهنات، يعرف أهالي صدّيقين معلومة واحدة وصلتهم أخيراً: قررت سوريا بناء 150 وحدة سكنية في بلدتهم لا تتجاوز مساحة كلّ منها 130 متراً مربعاً. وتستقبل البلدية طلبات الراغبين في الاستفادة من هذا العرض من أصحاب البيوت الصغيرة في البلدة، علماً أن «السوريين لن يدققوا كثيراً في طلب السجلات والأوراق وسيكتفون بالحصول على طلبات الراغبين في البناء» يقول أحد أبناء البلدة مطمئناً.
زينب عزّام وحكاية الصمود
تقيم الحاجة زينب عزّام في مدرسة القرية. كسرت حائط الصف الذي اختارته مكاناً لإقامتها لكي لا تضطر إلى الخروج ليلاً من غرفتها إلى الحمام الملاصق.
قبل الحرب، كانت تملك بيتاً من ثلاث غرف، دكاناً، وثلاث بقرات. لم ترضَ بالمبلغ الذي قدّمه لها “حزب الله” بدلاً مؤقتاً للإيواء “أربعة آلاف دولار فقط” فرفضت تسلمها وأصرّت على الإقامة في المدرسة منتظرة أن تنصفها الدولة.
الحاجة زينب التي تستقبلنا ضاحكة وتصرّ على القيام بواجب الضيافة، لديها الكثير لتحكيه عن الحرب الأخيرة لا عن التعويضات التي تشغل بال الأهالي. كأنها ترغب في أن يعرف الجميع أنها صمدت في القرية طيلة الحرب وساعدت الشباب “الشغلة الـتي كانت تصعب عليهم كنت أقوم بها”. تؤكد أنها كانت تساعدهم في الحراسة ليلاً، “إذا غفا أحدهم كنت أوقظه” تعطي مثلاً. فهي لا تخاف من الحرب ولم تهرب يوماً من القرية رغم كل الحروب التي عايشتها “لكن هذه الحرب كانت الأقسى والأشد لؤماً”.
تعليقات: