علي ديب الجرّاح

كلّما توسّع التحقيق مع علي ديب الجرّاح حول صلاته بالعدوّ الإسرائيلي وخدماته لجهاز »الموساد« على مدى ربع قرن من الزمن وتحديداً منذ العام ١٩٨٣ ولغاية العام ،٢٠٠٨ تكشّف المزيد من عمليات التخريب التي قام بها أو سهّل تنفيذها من خلال تسريبه معلومات هامة جمعها خلال مراقبة تحرّكات المقاومة ومواقعها ومراكز الفلسطينيين والقوّات السورية المنتشرة في منطقة البقاع، وتصوير طريق شتورا ـ دمشق الدولي ورصد حركة المرور عليه وحواجز القوى الأمنية من جيش لبناني وقوى أمن داخلي لتسهيل مرور عملاء وجواسيس منخرطين في التعامل مع »الموساد« وذلك خشية توقيفهم.

وإقرار الجرّاح بهذه الواقعة في التحقيقين الأولي والاستنطاقي، يوحي بأن عملاء آخرين لا يزالون يعبثون بأمن البلاد والعباد.

واستجمعت »السفير« محطّات إضافية غير منشورة عن تعامل علي الجرّاح وشقيقه يوسف مع الإسرائيليين تظهر تماديه في هذا التعامل على مدى ربع قرن من الزمن، قدّم خلالها خدمات كثيرة شفهياً ومباشرة وخطياً مشفوعة بالصور الحيّة سواء في لقاءاته داخل فلسطين التي كان ينتقل إليها من منطقة الجنوب خلال فترة الاحتلال، أو عبر السفر إلى إحدى الدول الأوروبية ومنها إلى تل أبيب.

فخلال العام ١٩٨٣ استطاع العدوّ الإسرائيلي تجنيد علي الجرّاح وشقيقه يوسف للعمل لمصلحته عبر تزويده بمعلومات عن الفلسطينيين ومراكزهم، وعن المراكز التابعة للقوّات السورية العاملة آنذاك في لبنان.

وتسلّم الضابط الإسرائيلي »أبو النور« مهمّة التنسيق مع الجرّاح والتواصل معه كلّما دعت الحاجة التي كانت ملحّة في ذلك التاريخ حيث كان العدوّ بحاجة ماسة إلى أمثال الجرّاح لإمداده بالمعلومات والأخبار.

وكان هذا الضابط متمركزاً في مدينة صيدا حيث راح الجرّاح يزوّده بما يريد وبما يحصل عليه وبما يستطيع تحصيله من هنا وهناك.

تدريبات واجتماعات

وقبل أن ينسحب الإسرائيليون إلى منطقة »الشريط المحتل« في العام ،١٩٨٥ ثابر علي الجرّاح على التردّد إلى فلسطين المحتلة، سالكاً معبر باتر في الشوف، ومتخفّياً بهوّية لبنانية مزوّرة استلمها من »الموساد«، وذلك للحؤول دون التعرّف إليه، حيث تمكّن ستّ مرّات متتالية في أوقات مختلفة، من زيارة فلسطين، حيث اجتمع مع عدد من ضبّاط »الموساد« الذين كانوا يرحّبون بهذا الضيف ويجرون تدريبات له على أجهزة اتصال لاسلكي لتأكيد ضرورة التواصل، واختصار الكثير من المشقّات، وتسهيل العمل وتسريعه.

وعندما تحقّق الانسحاب الإسرائيلي إلى داخل »الشريط المحتل«، لم يتراجع الجرّاح عن تعاونه المثمر مع »الموساد«، بل طوّر عمله وسفرياته التي لم تعد مقتصرة على فلسطين المحتلة مباشرة، وصارت تشمل بلداناً أوروبية مثل بلجيكا وإيطاليا، فيسافر إليها لينتقل منها بجواز سفر إسرائيلي إلى الاجتماع بالضبّاط الإسرائيليين في فلسطين، وهذا ما قام به ستّ مرّات لغاية العام .٢٠٠٤

زيارة السفارات الإسرائيلية

وكان الجرّاح يودع جواز سفره اللبناني في مقرّ السفارة الإسرائيلية في بلجيكا أو إيطاليا خلال مروره بهما، ويستلم مكانه جواز سفر إسرائيلياً، ثمّ يعود ويستردّه في طريق الإياب. وقد خصّصت هذه الاجتماعات لعقد المزيد من ورش التدريب على أجهزة لاسلكية حديثة ومتطوّرة يتطلّب تنامي العمل الاستخباراتي توافرها وإتقانها والعمل بها.

وقد تقاضى علي الجرّاح خلال مسيرة تعامله مع »الموساد« مبالغ مالية طائلة اعترف بأنّها ثلاثمئة ألف دولار أميركي، لكنّ طبيعة عمله وصعوبته ومهارته تشي بأنّ المبلغ كان في حقيقة الأمر، أكثر. وكان يقبضه على هيئة رواتب شهرية بدأت بثلاثمئة دولار أميركي ووصلت إلى ستمئة دولار. أمّا طريقة الدفع، فكانت تتمّ، إمّا مباشرة خلال رحلات السفر إلى إسرائيل من أجل إغرائه لتقديم المزيد من التعاون، وإمّا بواسطة »البريد الميت«.

والمقصود بهذا البريد، مكان ما بعيد عن العيون، غير ثابت على الإطلاق، وتغيّر كثيراً، حتّى أنّه توزّع في مناطق مختلفة من لبنان، وكان الإسرائيليون عبر عملائهم، يدفنون فيه حقيبة تحتوي على هذه الأموال أو على الأجهزة اللاسلكية، وكانت العلامة الدالة عليه، شجرة دُقّ فيها مسمار بشكل لا يلمسه إلاّ العارف به، ويقوم الجرّاح بحفر حفرة بمسافة عشرة سنتيمترات في الأرض تحت المسمار مباشرة، ويستخرج الحقيبة وما فيها من أجهزة لاسلكية وأموال وأسرار وتعليمات.

ولم يقتصر وجود »البريد الميت« على مكان واحد بعينه، بل شمل قرى مختلفة في الجنوب وجبل لبنان وبيروت ومنها بلدة زندوقة، والعزونية، ودير الزهراني، ومروحين، ومطار بيروت الدولي.

وأعطي علي الجرّاح أجهزة لاسلكية مختلفة الأنواع وجهازاً خلوياً دولياً، وكاميرا قام بتثبيتها بعد رجوعه إلى لبنان داخل سيّارة »جيب« عائدة له، ووصلته هذه البضاعة الثمينة بواسطة »البريد الميت« وذلك على الشكل التالي:

* فبالنسبة لخطّ الهاتف الدولي، فقد كان موضوعاً ضمن حقيبة تشتمل على مفكّرة وأموال وضعت في محلّة دير الزهراني حيث انتقل علي وشقيقه يوسف معاً وأحضراها.

* وفي العام ،٢٠٠٧ انتقل علي الجرّاح إلى بلدة مروحين الجنوبية التي ارتكب العدوّ الإسرائيلي مجزرة رهيبة بحقّ أهاليها خلال عدوان تموز العام ،٢٠٠٦ وما أن وصل إلى منطقة حدودية هناك، حتّى طلب منه عبر الهاتف التوقّف في مكانه، وخرج رجل من الجهة المقابلة من بين الحشائش، من دون أن يرى وجهه، وأعطاه جهازاً، بينما قام علي بإلقاء كمّية من الأشرطة التي صوّرها بواسطة الكاميرا المتنقّلة.

* وذات يوم طلب من علي الجرّاح التوجّه إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت حيث انتظر بعض الوقت، وتلقّى اتصالاً هاتفياً طلب فيه محدّثه أن يدخل إلى الموقف الخاص بالمطار حيث توجد سيّارة من نوع »نيسان« والاقتراب من مقدّمتها (الدفاع الأمامي) وملامسة لوحتها، وأخذ مفتاح السيّارة الموضوع هناك، ففعل، ولمّا فتح صندوق السيّارة، عثر على جهاز لاسلكي كان تدرّب على واحد مثله في إحدى جولات التدريب في إسرائيل، فحمله وأقفل الصندوق، وأعاد المفتاح إلى مكانه ورحل، من دون أن يستفسر عمن أوصل هذه السيّارة إلى هناك، وهذا يعني أنّه كان يوجد عملاء آخرون مهمّتهم تنفيذ أعمال معيّنة من دون معرفة الغاية منها، أو العملاء المولجين بالحضور لاستلامها، وهذا دليل إضافي على وجود شبكات تجسّس متفرّقة وغير مرتبطة ببعضها بعضاً، وإن كان بعضها يؤدّي دوراً مساعداً في وظيفة ما لشبكة أخرى مجهولة من قبله تماماً.

تصوير الشاحنات القادمة من سوريا

وأجاد علي الجرّاح استعمال الكاميرا المتطوّرة التي زوّد بها، فاستخدمها بحسب التوجيهات التي كان يتلقاها هاتفياً وبشكل شبه يومي وعند الضرورة، حيث تسنّى له تصوير مناطق داخل سوريا من دون أن يثير انتباه أحد، كما أنّه قام بالتقاط صور متنوّعة لشاحنات قادمة من سوريا إلى لبنان كان الإسرائيليون يراقبونها ويرصدون قدومها بداعي أنّها تحمل أسلحة للمقاومة.

فقد تلقى الجرّاح مرّة، اتصالاً هاتفياً عاجلاً بواسطة الهاتف الدولي أبلغه الضابط الإسرائيلي خلاله، بأنّ شاحنة قادمة من سوريا وتضع »شادراً« تغطّي فيه حمولتها، وأعطاه مواصـفاتها كاملة ورقم لوحتها، وطلب منه انتظارها في محلّة المصنع وتصــويرها ومعرفة المكان الذي تقصده، فاستنفر الجرّاح كلّ طاقته وجهّز الكاميرا مترقّباً وصول هذه الشاحنة التي ظلّ يراقبها ويصوّرها من محلّة المصنع إلى محلّة شـــتورا، ولم يكتف بالتصوير، بل صار يتكلّم خلال التصوير محــدّداً مكان وجود الشاحنة ليترافق التصوير مع تسجيل الكـلام.

تسهيل مرور عملاء

وأيضاً، طلب الإسرائيليون من علي الجرّاح، مراقبة الطريق الممتدة من محلّة شتورا إلى بلدة قبّ إلياس البقاعية وتصويرها بواسطة الكاميرا نفسها، وذلك لمعرفة ما إذا كانت توجد عليها حواجز أمنية للقوى الأمنية اللبنانية، بغية تسهيل مرور عملاء وجواسيس إسرائيليين من دون توقيفهم أو وقوعهم في أيدي هذه القوى.

وأشبع الجرّاح طريق المصنع ـ شتورا تصويراً بهذه الكاميرا التي جال بها على قرى في الشمال وجبل لبنان، وعلى القرى الشيعية المتاخمة للسلسلة الشرقية لجبال لبنان، وعندما يبلغ عمله ذروته يرسل الأشرطة المصوّرة إلى العدوّ الإسرائيلي عن طريق الانتقال إلى بلدة مروحين الجنوبية حيث يكون بانتظاره أحد العملاء الذين لا يعرفهم ولم تسنح له الفرصة برؤيته من قبل، كما أنّه لم يسمح له بالتعرّف إليه عن قرب.

يوسف الجرّاح

أمّا يوسف ديب الجرّاح، فبدأ نشاطه التجسّسي في العام ١٩٨٣ وارتبط مباشرة بالعدوّ الإسرائيلي لغاية العام ،١٩٨٧ وزار خلالها فلســطين المحتلة مرّات عبر الشريط المحتل، وعبر السفر إلى قبرص وإيطــاليا، ومن ثمّ الطيران منها إلى تل أبيب حيث عقد اجتماعات مــع ضبّاط »الموساد« وأخضع لتدريبات على أجهزة لاسلكـية.

وما لبث الإسرائيليون أن طلبوا من يوسف الجرّاح بعد انسحابهم إلى »الشريط الحدودي«، العمل بإمرة شقيقه علي، وربطوه به بحيث صار يرافقه لإحضار »البريد الميت« وتسليم الأشرطة المسجّلة بالكاميرا، ويتقاضى لقاء عمله هذا راتباً شهرياً يتراوح بين ثلاثمئة دولار وستمئة دولار أميركي.