كساد دبي يصيب وافديها من اللبنانيين بمقتل

ينتظرون العائدين في المطار
ينتظرون العائدين في المطار


في الطائرة، يسأل الراكب اللبناني آخر بجانبه: «شو؟ صرفوك؟»، فيجيبه: «لأ. احترمت حالي واستقلت بضربة استباقية». فحالياً، فقدان الوظيفة أو ترقب حدوثه هما سيدا الموقف في حياة مغتربينا في الإمارات

أرض الأحلام العربية تلفظ وافديها اليوم بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، بعدما غذّت آمالهم بمستقبل زاهر لسنوات مضت. اليوم، أصبحوا عبئاً على شركاتها ومؤسساتها الضخمة التي يوشك بعضها على الانهيار ويؤجل بعضها الآخر إعلان إفلاسه.

«إيه، ماكسيموم منرجع عالضيعة نزرع بندورة وخيار، المهم بس الإسرائيلية يرحمونا من الجهة التانية كمان»، بهذه العبارة تجيب س.م التي آثرت، كالكثيرين ممن خابرتهم «الأخبار» في الخليج، عدم ذكر اسمها في ما يتعلق بشهادتها عن احتمال فقدانها وظيفتها في دبي، «لإنو عم نمشي حد الحيط، وبدنا يا رب السترة هاليومين» كما تضيف ضاحكة.

سخرية وجدت فيها هذه المغتربة منفذاً وحيداً للتوتر الذي ينتابها هي وزملاؤها من اللبنانيين عند كل زيارة من تلك التي أصبحت تتكرر أخيراً لأحد كبار ممولي المؤسسة التي تعمل فيها.

لم يكن من هم في مواقع القرار والاستثمار المتقدمة يتدخلون في تفاصيل المؤسسة من قبل. أما الآن، فقد أصبحوا يزورون أقسامها ويدققون في مواردها البشرية: «إنت شو بتشتغل بالضبط؟ وإذا إنت كمان عندك نفس الوظيفة، ليش إنتو اثنين؟».

أثناء تلك الزيارات، تسقط على الوجوه أقنعة صفراء، ويشرد كل موظف خلال الوقت المستقطع بين روتين عمله اليومي والتهديد بفقدانه في لحظة، مفكراً في القروض التي أغرقه نظام الحياة الخليجي الرأسمالي فيها، قبل أن تجبر أزمة السيولة والاستثمار العالميين الشركات على التخلي عن الغريق في نصف البئر.

لم يتأثر المغتربون من موظفي الشركات التابعة للدولة في البلدان النفطية كثيراً بالأزمة. هكذا هي حال السعودية التي «لم تتعرض الشركات العاملة فيها لانهيارات كتلك التي شهدتها قريناتها في دبي مثلاً» كما يشرح ع.ف، أحد اللبنانيين العاملين في شركة إعلانات في السعودية، مضيفاً «قد تتأثر بعض الشركات الأجنبية، لكن الاقتصاد السعودي غير قائم عليها، لذلك ينجو موظفو السعودية من آثار الأزمة المدمرة التي يتعرض لها سوق العمل في دبي».

كذلك هي الحال في أبو ظبي، الإمارة الغنية بنفطها، حيث تعمد الشركات، بحسب ن.ف، إحدى الموظفات اللبنانيات في شركة للتوظيف «إلى تأجيل التوظيف ومشاريع التوسيع التي كانت تنوي القيام بها، حتى نهاية شهر كانون الثاني، إلى حين تتبيّن ذيول الأزمة. أما بالنسبة للموظفين الموجودين أصلاً فيها، فبعضها يعمد إلى إعطائهم إجازات مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر، بعدها قد يستعيدون وظائفهم أو لا يستعيدونها».

تعيش ن. ف. في أبو ظبي منذ حوالى خمس سنوات. اعتادت خلال هذه الفترة على منطق مختلف في الحياة والاستهلاك والسيولة، ومستوى أعلى في المعيشة. تعترف بصعوبة «إعادة التأقلم في لبنان» بسبب كل ذلك. برغم أنها تجد أن عودتها قد تكون أسهل من عودة معارفها. إذ إنها نجحت في النجاة خلال الأعوام السابقة من إغراق نفسها في القروض والديون في أبو ظبي، وفي تقسيط شقة أو بناء منزل في لبنان. تأثير الصرف من الوظيفة سيكون كارثياً على هؤلاء، وخصوصاً أنهم إذا ما صرفوا، فلن يحظوا سوى بشهر واحد لإيجاد عمل جديد وإلا وجب عليهم مغادرة الأراضي الإماراتية. وإيجاد وظيفة جديدة قد أصبح شبه مستحيل اليوم، وقد ضاق سوق العمل، وزادت شروط أصحابه مقابل خفضهم للرواتب.

«قمت بآخر تبديل في وظيفتي منذ شهر مضى» يقول لوسيان حكيم، وهو مهندس معماري، يزاول إحدى أكثر المهن «خطورة» حالياً في دبي. «راتبي انخفض مع النقلة، وشروط عملي ازدادت، بعدما صرفني صاحب العمل قائلاً لي: «بمعاشك بجيب 2 فيليبينية». مستدركاً «كان حظي جيداً إذ وجدت عملاً آخر، فغيري ممن صرفوا عادوا إلى لبنان».يشرح حكيم أنه في دبي أكثر من 150 ألف لبناني يعمل معظمهم في وظائف من الدرجات المتقدمة، نظراً لمهاراتهم، ما يجعلهم أول المرشحين لفقدان وظائفهم، كون «الشركات الكبيرة هي التي تأثرت، بعدما أوقفت المصارف القروض وتمويلات المشاريع»، لافتاً إلى أن فقدانه وظيفته سيعود بنتائج كارثية عليه. فهو «منضبط مالياً» كما يصف نفسه، يقسم مصاريفه شهرياً: «500 $ لبيروت قسط الشقة التي تعهدت بتسديد كامل ثمنها على مدى 30 عاماً. 500$ مصاريف لأهلي لأنني أشارك في المسؤولية عنهم، و500$ لتسديد قيمة بطاقتي الائتمانية في لبنان، إضافة إلى مصاريف سكني وسيارتي المستأجرة في دبي». وفق هذه الحسابات، ستكون عودته إلى لبنان لو اضطر لذلك «مصيبة!». ففي لبنان، «لن أجد وظيفة براتب يفوق 3000$ شهرياً. وأنا أحتاج إلى خمس سنوات على الأقل لأسدّد قروضي في دبي فقط، كما أنني أحضّر لزواجي القريب. لبنان هو الحل ما بعد الأخير. سأبقى هناك حتى لو اضطررت لمزاولة مهنة في مجال آخر غير تخصصي».

يعترف حكيم بأن مسؤولياته ازدادت بحكم اغترابه، وكذلك أسلوب حياته الذي أصبح أكثر كلفة «كنا جميعنا هنا مطمئني البال بشأن حصولنا الدائم على «الإكرامية» السنوية وعلى رواتب أعلى فأعلى، ما دفعنا إلى مزيد من الالتزامات والمصاريف. الأزمة هلكتنا. اليوم عايشين كلنا عأعصابنا».

اللبنانيون في دبي، إذاً، على أعصابهم، حتى أنهم هجروا أماكن السهر التي كانوا أشهر الجنسيات بإحيائها في منتجع «دبي مارينا»، كما قلّت مساهماتهم في «شوبينغ المولات» الذي لطالما مارسوه بشغف، كما يشرح حكيم. مضيفاً أن الكثير من اللبنانيين الذين يعرفهم قد آثروا العودة إلى لبنان حيث «هناك ازدهار سريع بسبب الاستقرار النسبي، ما دفع بمستثمرين لبنانيين إلى نقل ودائعهم من بنوك دبي إلى مصارف لبنانية. هذه السيولة حتماً ستنعش السوق الاستثماري اللبناني، وقد ترتفع بسببها الرواتب، لكنها حتماً لن تفوق الـ3000$».

الرواتب المنخفضة لا التخوف من ضيق سوق العمل وعدم قدرته الاستيعابية على احتوائهم هو ما يخيف اللبنانيين في دبي من العودة.

«لو عطوني ربع المعاش اللي باقبضه هون، برجع»، يقول ح.ب، المهندس المعماري الذي قصد دبي منذ عام واحد بعدما «وقف الشغل بأميركا». الآن، يفكر ب. بتغريبة جديدة نحو أفريقيا «يعني، منشوف شو في هونيك» يقول ضاحكاً. فاللبناني تعوّد على الغربة، كما تعوّد على الظروف الصعبة «مرقت علينا حرب طويلة عريضة. ما بقى يصير علينا أكتر من اللي صار». المشكلة أن ب. يعي اليوم أن القضية لن تحلها الهجرة التي قام بها بدل المرة مرتين «فأنا لا أشكو من مشكلة تنقل، لأنني أمتلك جواز سفر أميركياً، لكن إلى أين أذهب به؟ فالأزمة طالت الكوكب كله وليس بلداً محدداً!»

يؤكد ب. أن 20 ألف مهندس لبناني سيعودون من الخليج إلى لبنان من الآن حتى آذار، في هذه الأثناء، يذهب كل صباح إلى عمله متوقعاً أن يجد تلك الورقة اللعينة على مكتبه، بينما ينتظر أجوبة من شركات تقدم بطلبات للتوظف لديها في دبي ولبنان، ولم يحصل منها حتى الآن على أجوبة.

تعويض نهاية الخدمة طبق من اللحم!

في خطوة هي الأولى من نوعها، رداً على أزمة عالمية هي الأولى من نوعها منذ عام 1929، قرّرت إدارة أحد الفنادق الكبيرة في دبي تقديم الوجبات المجانية للمطرودين من وظائفهم. عرض يستمرّ طوال فترة الأعياد، أي بين الخامس عشر من كانون الأول والخامس عشر من كانون الثاني. ففي دبي دورة اقتصادية لا ترحم، ونظام رأسمالي شرس قد يسقط منه سهواً «قليل حظ» لن ينتظره قطار «البينزنس» المسرع بل سوف يدهسه، ليصبح من يطرد من عمله في عداد المتشردين بسهولة.

هدية غير تقليدية للعام الجديد، يتماهى الابتكار فيها مع منطق إمارة ارتكزت الطفرة الاقتصادية التي حققتها والعالمية التي وصلت إليها خلال السنوات العشر الأخيرة على ابتكارات رأس المال وعلى سواعد وافدين يمثّلون اليوم أكثر من 80% من القوة العاملة فيها.

في واقع كهذا، من المرجّح، بحسب التقارير الاقتصادية العالمية الحديثة، أن يتراجع النمو الاقتصادي المرتكز على حلقة الاستهلاك فيها، مع مغادرة الأجانب، حاملين معهم مدّخراتهم والإنفاق.

تعليقات: