معبّر جداً هذا السلوك الجنبلاطي القلق والمتذبذب في تقلّبه، حتى باتت قاعدة ثابتة أن يعقب كل كلام جنبلاطي توضيح أو تصحيح، أو حتى سحب الكلام، كما حصل في موضوع السجال مع نبيه بري على طاولة الحوار قبل يومين.
كثيرة أسباب هذا القلق. بينها طبعاً موازين القوى الدولية، وانكشاف رهانات خطرة داخلياً وخارجياً. وبينها قطعاً طبائع شخصية وطبيعة جماعية وذاكرة ووجدان معتقد، وغيرها الكثير من الأسباب.
غير أن لهذا السلوك جانباً واعياً وإرادياً لدى وليد جنبلاط، كما يؤكد بعض عارفيه. والهدف منه تضليل الخصوم، وإقامة «ستار دخاني» للتعمية على حقيقة أوضاع المختارة وكليمنصو وسيدهما. ما هي هذه الحقيقة؟ بكل بساطة، هزيمة وليد جنبلاط، بالسياسة وبوسائلها حصراً، باتت ممكنة، كما يقول هؤلاء العارفون. ويعود هؤلاء إلى صفحات التاريخ الدرزي الحديث والمعاصر، ليؤكدوا خطأ المقولة الشائعة بأحادية الزعامة الدرزية في الوجدان الدرزي، أو بعصمتها، أو بكونها الزعامة التي لا تُقهر. صحيح أنه بعد ذلك الحدث المفصلي في التاريخ الدرزي، سنة 1711، وبعد انتصار القيسية على اليمنية، انتقل عدد كبير من زعماء الطرف الخاسر إلى خارج لبنان، وخصوصاً إلى سوريا، وصحيح أن الجنبلاطيين كانوا أبرز مَن انبثق من الفريق الرابح، لكنهم لم يتكرّسوا يوماً زعامة أحادية، لا طبعاً في تلك المعركة، ولا في كل ما أعقبها.
فمن الإمارة، حتى القائمقاميتين والمتصرفية، وصولاً إلى الكيان والاستقلال، ظلت الزعامات الدرزية الأخرى حاضرة في المجتمع الدرزي، وفاعلة.
هكذا مع قيام دولة الاستقلال كان المير مجيد أرسلان متقدماً على كمال جنبلاط في الواقع الدرزي الحياتي واليومي. وهو ما أدركه جنبلاط نفسه، وأدرك عجزه عن المنافسة فيه. فاتجه نحو الرسملة في القضايا القومية والكبرى. لكنه لم يلبث أن اكتشف أن اهتمامه بالحضور على مستوى المنطقة أو العالم، لا يعوِّض تدخّله في نقل شاويش مخفر. وهذا ما أسهم في خسارته مقعده النيابي سنة 1975.
لكن في المقابل، ثمّة أساطير كثيرة تروى عن التزوير لإسقاطه يومها؟ يجيب العارفون، إن هذا أحد أبرز أصدقاء كمال جنبلاط، ونائبه في رئاسة حزبه، يروي عنه هذه الواقعة:
يوم توفيت الراحلة زلفا شمعون، زوجة الرئيس كميل شمعون، دلف كمال بيك إلى السعديات معزّياً ومتأثّراً. سأله صديقه عن سرّ تأثّره العميق، فأجابه: كانت سيدة فاضلة. يوم سقطت في انتخابات الـ57، دخلت على الرئيس وقالت له: لا يمكنك إصدار النتائج وكمال جنبلاط خاسر. وكان هو مقتنعاً بذلك. أخّروا إعلان النتيجة في انتظار أي تطورات، قبل أن يفرض عليهم نعيم مغبغب القبول بها. ويضيف الصديق نقلاً عن كمال جنبلاط: خسرت الانتخابات لأنني ابتعدت عن الناس. صحيح أن العهد كان ضدي، وابن مغبغب في وزارة الأشغال، أقفل مناطق مسيحيي الشوف، لكن الأكيد أيضاً أنني مسؤول عن خسارتي...
من تلك الواقعة التاريخية، يخلص عارفو وليد جنبلاط وعائلته وجماعته، إلى أن هزيمته في السياسة ممكنة. تماماً على طريقة نعيم مغبغب، الذي انتهى مغدوراً في الاغتيال الشهير... والحقيقة نفسها يعرفها وليد جنبلاط ويحاول صدها ودرأها عنه بالوسائل نفسها.
كيف يربح جنبلاط حتى الآن معاركه؟ بطريقتين: إمّا أن يستدرج خصومه إلى مقاتلته عنفاً، كما فعل أمين الجميل وسمير جعجع سنة 1983، فيكرّسوه زعيماً أوحد للدروز، وإمّا أن يفرض عليهم التسليم بوحدانية مرجعيته الحياتية سلماً، كما نجح مع السوريين وبيت الحريري طوال 16 عاماً. يقول أحد حلفاء جنبلاط الحاليين، إن لديه الطائفة الوحيدة في لبنان، التي ليس لديها ـــــ كطائفة رسمية ـــــ مدرسة، أو جامعة، أو مستشفى، أو مؤسسة كبرى... وهذه سياسة جنبلاطية، لتظلّ دار المختارة هي المدرسة والجامعة والمستشفى، وكل حياة الدرزي.
اليوم ثمّة فرصة، يقول عارفو جنبلاط، لمواجهته، ليس بالسلاح، بل بمنطق الدولة. وهذا ما يفسّر قلقه حتى الجنون، والآتي قد يكون أعظم، إذا ما ظهرت الخسارة حتمية...
تعليقات: