حين شاركت بعض الحركات الاسلامية في العمليات الانتخابية، أعطت صورة مغايرة عما أُشيع عنها. لا بل هي أحرجت خصومها. لكن هذا الإنجاز الشكلي بدا ناقصا بسبب غياب الإجابة المباشرة عن سؤال جوهري عما إذا كانت تلك الحركات تتبنى مشروعا مدنيا للحكم. فمن نافل القول ان الفصل بين الديني والمدني في المشروع الاسلامي يجعل نظرية الحكم المستوحاة من جوهر العقيدة الاسلامية قابلة للتداول لدى جماعات وأحزاب تنتمي الى ديانات مختلفة، لا بل من قبل افراد ينتمون الى مذاهب اسلامية شتى. كما من شأنه ان يثبت ـ لمن يهمه الأمر ـ ان مشاركة الحركات الاسلامية في العملية السياسية ليست مناورة آنية تنتهي لحظة الوصول الى الحكم من أجل الانقلاب على اللعبة الديموقراطية. ان فصلا كهذا بإمكانه ايضا ان يُضعف الانطباع السائد على نطاق واسع بأن المهاجرين المسلمين في دول العالم المختلفة غير قابلين للاندماج في مجتمعاتهم الجديدة بسبب التصادم بين المدني والديني في ثقافتهم الاسلامية، علما بأن الاندماج هنا يعني الانصهار المدني وليس الديني في ظل دولة ذات طابع ديموقراطي. ان اختلاط الناس داخل المجتمعات الحديثة قد جعل من الاحتكام الى نصوص دينية بحتة في إدارة شؤون الدول عملية صعبة. إنها إحدى الاشكاليات التي تتجاوز بأبعادها المجتمعية قضايا عامة تتعلق بالعمل السياسي وتداول السلطة الى قضايا تتعلق بحقوق الناس الشخصية. ومما يدفع الى الاعتقاد ان هذه الاشكالية ليست من دون حل، حقيقة ان نظام الحكم في الاسلام قابل للتحول الى نموذج قيد التداول لإدارة الدولة، شرط تقديمه في إطار المشروع السياسي الكلاسيكي المفصول عن الالتزامات الدينية. فلا إكراه في الدين. فكيف في السياسة والإدارة؟
ان النموذج اللبناني بإمكانه ان يقدم تجربة مفيدة على هذا الصعيد. فكلما طغت الحسابات السياسية على الانقسام الداخلي اللبناني كلما أمكن لجماعات اسلامية ومسيحية ان تتحالف ضد جماعات اخرى دفاعا عن برامج وخيارات سياسية وليس عن هويات دينية. وكلما حدث العكس انقسم المجتمع اللبناني على أساس الانتماء الطائفي والمذهبي.
ان الحركات الاسلامية، بحرصها على وضع برامجها السياسية تحت عناوين مدنية (مستمدة من عقيدتها)، تخلق أرضية صلبة للتفاعل الايجابي مع النخب السياسية المنتمية لشعوب اخرى، لا سيما شعوب اميركا اللاتينية وآسيا وافريقيا. وهي بذلك تُقلل من شأن الحجج القائلة بأنها حركات محلية متحصنة خلف جدران وقلاع دينية، وانها غير صالحة للانتشار والتفاعل على الصعيد العالمي. ان حرصا كهذا بإمكانه ان يوسع دائرة المتعاطفين معها داخل المجتمعات الغربية نفسها، خصوصا ان هناك من يريد استغلال اي غموض او التباس في مواقف الحركات الاسلامية، السياسية او الايديولوجية، من أجل تشويه صورتها. وخير شاهد على ذلك تجربة «حماس» في السلطة. علما ان «حماس» ليست محاربة لأسباب تتعلق بدورها في نظام الحكم «الافتراضي» على الساحة الفلسطينية، بقدر ما تتعلق بدورها كحركة مقاومة. الا ان إشاعات كثيرة قد جرى اطلاقها غداة إعلان فوزها في الانتخابات حول كيفية تطبيقها للشريعة الاسلامية. ينطبق هذا الأمر على الحركات الاسلامية في الجزائر ومصر والسودان وايران وتركيا. هذه الحركات هي على درجات متباينة من المرونة في المسألة الديموقراطية، ومنها من هي اليوم في الحكم. وهي تخضع للفحص الديموقراطي المستمر من قبل الرأي العام العربي والاسلامي المتعاطف ضمنا مع معظمها بسبب أدواره كحركات ممانعة او مقاومة ضد الاحتلال الأجنبي. وبسبب موقعها هذا، هي محكومة بصياغة علاقات سلمية وديموقراطية في ما بينها، واستطرادا مع الحركات القومية والوطنية الاخرى، تأكيدا للمبدأ اولا، ودحضا لمزاعم بعض القوى المتطرفة في الغرب القائلة بأن النخب الاسلامية (والعربية على الأخص) تستمرئ ثقافة الاستبداد.
ان العدالة الاجتماعية التي يُنادي بها الدين الاسلامي تتقاطع مع ثقافات انسانية ذات أبعاد عالمية، ناهيك بمبادئ التسامح التي تتشارك فيها معظم الأديان. ولعل أكبر خطأ ارتكبته ـ بحق نفسها وجمهورها ـ الأحزاب الشيوعية اثناء الحقبة السوفياتية هو إصرارها اللامجدي على إدراج «الإلحاد» ضمن عناصر النظرية الاشتراكية، ما قطع الطريق على اي تواصل او تفاعل بينها وبين الحركات الاسلامية التي وجدت نفسها في أحضان الغرب. وبالرغم من ذلك، فقد تبين لهذه الأخيرة ان الأحزاب الشيوعية لم تكن ألد عدو للاسلاميين. فالغرب الرأسمالي بقيادة أميركا استطاع ان يلعب بذكاء على تناقضات هؤلاء مع اولئك الذين تجمعهم فكرة العدالة وتفرقهم فكرة الدين. هذا الأمر ساهم في هزيمة المشروع الاشتراكي وأدى لاحقا الى مطاردة الاسلاميين باعتبارهم ارهابيين. اليوم يتبين ان تحقيق العدالة يتطلب تضافر جهود كل قوى التغيير من دون استثناء، شرط ان تعتمد الديموقراطية كأساس لا بد منه لتدعيم ركائز العمل السياسي، في ما بينها وفي المجتمع ككل. ان الحركات الاسلامية في ذروة صعودها تملك فرصة فريدة لنسج تحالفات عالمية ذات طابع اجتماعي واقتصادي. لكن ذلك لن يحدث على الارجح، أولا بسبب الطابع الايديولوجي المقفل لمشروع الدولة الاسلامي الذي يشكل «عُقب أخيل» تصوّب عليه القوى المعادية وتخاف منه القوى الصديقة. وثانيا بسبب التدخل العسكري الاميركي الذي يقلب الأولويات دائما ويدفع شعوب المنطقة الى المقاومة والجهاد في سلسلة لا تنتهي من الحروب والأزمات. لكن في كل الأحوال ليس كافيا ان نرى قادة الحركات الاسلامية وهم يصافحون هذا الرئيس المناهض لأميركا، او ذاك الناشط العالمي المعارض لسياسات الغرب، حتى نستنتج ان الحالة الاسلامية قد اكتسبت الصفة العالمية. فالتحالفات التي يمكن ان تقوم بين القوى الاسلامية وبعض زعماء الدول والأحزاب، انما تقوم على قاسم ظرفي مشترك هو العداء لأميركا. في حين يقوم التحالف الاميركي الغربي على مصالح ورؤى مشتركة وتشابك اقتصادي واجتماعي وثقافي هائل. وهو لا يتورع عن البحث عن حلفاء له داخل مجتمعاتنا على الرغم من عظمة امكاناته. في ظل هذا الوضع لا يكفي اللعب على التناقضات الظرفية او الاستراتيجية التي قد تنشأ داخل التحالف الغربي. فقوة جبهات الممانعة والمقاومة تكمن في متانة التحالف الاجتماعي المضاد الذي ترتكز إليه، وليس في الرهان على تصدعات او تشققات في الجبهة المعادية. مع الإشارة هنا الى ان نموذج الدولة الليبرالية، التي تضم مواطنين من كل الأجناس والأعراق والأديان يبقى، على الرغم من كل عيوبه، اكثر جاذبية من نموذج الدولة المفصلة على قياس مواطنين من لون واحد.
ان الاصطفافات الدينية البحتة، لا تفعل سوى الابقاء على هشاشة القوى الرافضة للهيمنة الاميركية، وعلى درجة سطحية من التنسيق في ما بينها. وهو أمر ينسحب على الأطراف الداخلية في كل بلد اسلامي. فليس من مصلحة الحركات الاسلامية الضغط باتجاه دفع الفئات الشعبية غير الاسلامية (بالمعنى السياسي) الى الخندق الليبرالي الاميركي. وليس بمقدورها ان تشترط عليها الذوبان في مشروعها الاسلامي كي تلحظ وجودها. لكن الوضع يختلف عندما يصبح للحركات الاسلامية مشروع مدني (او أكثر) يستطيع ان يفتح باب الانتساب ـ النظري والعملي ـ لأي مواطن مهما كان انتماؤه الديني او القومي او العرقي. وبالتالي يفتح المجال لتفاعل حقيقي بين حلفاء الداخل والخارج على أسس سياسية وثقافية. ان التطورات العالمية المتلاحقة، وآخرها الانتخابات الرئاسية الفرنسية، قد دلت في وجه من وجوهها، على وجود انقسام ثقافي واجتماعي عالمي. ولا يمكن لأحد ان يُغمض عينيه بعد اليوم على مؤشرات «المجزرة الكبرى» التي بدأت تلوح في الأفق، ليس بين الأديان والهويات الإثنية والعرقية ـ كما تقتضي مصالح بعض القوى المهيمنة في الغرب وبعض القوى المتطرفة في الشرق ـ وإنما بين الطبقات الاجتماعية المتباعدة باستمرار، في بناء عالمي يتجه اكثر فأكثر نحو الطلاق بين الشمال والجنوب، بين المقيمين والمهاجرين، بين الأغنياء والفقراء، وبين «العاملين الضروريين» في النظام العالمي.. و«الفائضين عن الحاجة».
ان التاريخ يُعيد نفسه ليس بالتفاصيل والوقائع الصغيرة، وإنما بالصراع الذي لا ينتهي بين «الناجين» و«الغرقى» في لجة التفاوت الاجتماعي. فأيهما أهم بالنسبة للاسلاميين: التأييد الفكري للمشروع السياسي الاسلامي، ام اعتناق الدين الاسلامي من قبل افراد ينتمون الى أديان اخرى، ما لا يؤدي سوى الى استعار المنافسة بين الأديان؟ فكيف إذا ما استعرت بين المذاهب؟
([) كاتب لبناني
تعليقات: