رحيل التجربة الرحبانية والمسرح الغنائي الشامل


في هذه المقاربة التي قدمت في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة 2006، محاولة لإلقاء الضوء على التجربة الرحبانية في المسرح الغنائي الشامل، بكل العناصر الموسيقية والكتابية والغنائية والحركية التي صاغ بها الرحبانيان صيغتهما المسرحية المعهودة على امتداد أعمال انطلاقاً من مهرجانات بعلبك الى آخر ما تشارك به الكبيران.

هنا الحلقة الاولى:

المسرح والغناء

بدأ المسرح مع الغناء، الغناء في تكويناته البدائية الاولى. سواء كان صرخة، صلاة، ابتهالاً، إيقاعاً خاصاً أو اجتماعياً، نشيداً أي الكلام الذي يحمل ايقاعاً يختلف عن الايقاع العادي، العاري، ذي الوظيفة المعرفية المباشرة. إنه بداية تململ الحواس، والصوت والنبرة في ايقاعات تحمل ايحاءات أو ظلالاً، نفتقدها في الكلام العادي. وهكذا بدأ الشعر أيضاً. وليس غريباً ان يتواءم الشعر والغناء في الذاكرة الفردية والجماعية. قلما انفصلت القصيدة (او الشعر)، عن الغناء، غالباً هذا الالتباس بين الاغنية (النشيد) والقصيدة. غالباً هذا الالتباس بين ما هو شعوري، بدائي، وبين القصيدة الاغنية، باعتبار الاغنية من التجليات الاساسية للتعبير الشفوي. ولعل هذا التراكم الغنائي ـ الشعري تقدم على شكل أو آخر ولفترات طويلة كعلاقة تواصل، وكعلاقة ابداع ايضاً. وقد استمرت هذه العلاقة حتى عندما اصبحت القصيدة مركبة، وكيميائية بقيت جذورها الغنائية ـ الشعورية عميقة. من هذه العلاقة بالذات طلع المسرح، كشكل غير مقصود، ربما ولكن كمعطى أولي. وقد رافقت هذه الظاهرة الشعر، ولا تزال. الشعر الجاهلي كان ينشد في مكان خاص، أي مهيأ لكلام غير عادي، وأمام اناس، تهيأوا له، ومن خلال شاعر يلقيه او ينشده فالعناصر المسرحية كلها موجودة تقريباً. الشاعر هو الممثل، القصيدة (النص) تؤدي اداء مختلفاً (ايقاعياً)، المكان (هو الخشبة)، وهناك الجمهور وهذه هي مكونات المسرح، كأنه مسرح مونودرامي يواجه فيه الممثل الواحد الجمهور المتعدد. يواجه فيه الجمهور بكل ما يملك الممثل: الحركات، الصوت، وأحياناً الملابس، والاداء، والتنوع، ومحاولة التأثير اي انه يضيف الى القصيدة امتداداته فيها ومن ثم تأثيره فيها الذي ينقله الى المتفرج او السامع لهذا لا تعود، عندها، القصيدة قطعة ادبية منفصلة عن فضائها المسرحي، وعند "احساسات" المؤدى وبراعته اذن هناك عنصر مسرحي تمثيلي يضاف الى العنصر الشعري، هذه الناحية تتعمق في المظاهر الطقوسية، حيث تتخذ العفوية عناصر "تقنية" اكثر قصداً وتعقيداً فالشاعر يغني قصيدته امام الجمهور، فهو يقدم قصيدة غنائية. وممارسو الطقوس يغنون (ينشدون) نصوصهم وتراتيلهم امام جمهور، فهم يقدمون نصوصاً غنائية، اي ملامح مسرح غنائي، في مستوياته الاولى. او بالاحرى في مواده الاولى. بهذا المعنى تكون دلالات النص في الاداء الى حد كبير مفتوحة، وغير محددة، حيث يتغير المكان والمؤدى، وربما الجمهور ونظن ان الدلالات هذه تختلف. في ايماءاتها وتأثيراتها. عندما تغنى او تنشد او تؤدى. كما هي عندما تقرأ قراءة صامتة في مخطوط او في كتاب... أي حين تنتفي عنها آثار الصوت والجسد والمكان والجمهور تماماً كما تختلف قراءة مسرحية في كتاب من مشاهدتها على الخشبة. هذه الاضافة الشفوية/ الجسدية/ المكانية، هي الجزء الذي يحول هذا النص من نص أدبي أو ديني الى نص لمسرح. من هنا فالغناء هو الجزء الذي يمسرح النص من داخله من هنا ان الصوت ـ الجسد هو الذي يمسرح النص من ضمن ايقاعاته المحتملة. أي الذي يعطيه بعده المادي الآخر. او بالاحرى هو الذي يكوّن المسافة المادية التي يقطعها النص الى الآخر. ليكتسب، عبر هذا الآخر ايقاعاً مختلفاً او على الاقل وقعاً مختلفاً. أي الانتقال من خصوصية الى خصوصية لكن اذا كان الغناء في مسافته هذه يلتقي من عناصر المسرحة ما يلتقي، ويشكل، في ما يشكل ملمحاً مسرحياً غنائياً، إلا ان هذه الخصوصية التي يعيد فيها تشكيل النص الشعري او الكلامي، تبقى خصوصية غير مقصودة، أي خصوصية، رغم اكتسابها مسافات جديدة تبقى في اطارها وقصدها منتمية الى الاغنية، أو الى الطقس، أو الى النشيد او الى كلام آخر. وهذا بالذات ما يحول دون اكتسابها بنية خاصة تحركها ما يمكن ان نسميه المسرحة. او فعل المسرحة او حركة المسرحة. وهي التي تجعل من الاغنية ومن العناصر الاخرى عملاً مسرحياً واعياً شروطه وادواته وأهدافه، أي بنيته وخصوصيته فالقصيدة عندما ينتفي عنها قصد المسرحة تبقى قصيدة تنتسب الى الشعر او الادب. تنغلق في بنيتها الخاصة التي تختلف عن الاغنية، وعن المغني، وعن الرواية، والقصة والمسرح. والاغنية بدورها، عندما ينتفي عنها قصد المسرحة. تبقى اغنية تنتسب الى الغناء، تنغلق في بنيتها الخاصة التي تختلف حتى عن القصيدة العادية، ومتطلبات القصيدة العادية، المغني عندما يفتقد قصد المسرحة يبقى مغنياً، يبقى مخلصاً لشروط الاغنية ولخصوصيتها. والمكان أيضاً. المكان الذي لا يحمل مواصفات المسرحة كمسافة خاصة به، تختلف عن مكان الاغنية، وعن مكان السينما، وعن مكان الطقس، يكون مكاناً شائعاً مكاناً ليس فيه خصوصية المكان والمسرح والجمهور، في هذا المضمار لا يكون جمهوراً مسرحياً إلا اذا قصد ان يكون في عرض لا ينسى فيه لحظة واحدة انه في مسرح، وليس في مكان آخر، وبهذا القصد تتحدد علاقته بما يجري امامه وكذلك ردود فعله. ولعل ما يجمع كل هذه المقاصد التي تقوم على المسرحة، هو المخرج حامل القصد ومنفذه وهو الذي يجمع كل هذه العناصر في خصوصية واحدة، وفي بنية واحدة، وفي لغة واحدة، لا تنتمي إلا الى نفسها، لا تخص إلا نفسها. انه محرك المسرحة التي تجعل منه العناصر كلها فعلاً مسرحياً موحداً ذا دلالة نوعية خاصة بمعنى آخر هو الذي يحول العناصر كلها الى عناصر مسرحية، يعطيها الهوية والقسمات، ويصهرها في حركة تتطور الى ذاتها باستمرار فالنص (الاغنية، أو القصيدة، أو النشيد) يحوله المخرج الى مادة درامية مفتوحة. والمغني، عندما يغني ضمن هذا الاطار، ينسيه انه مجرد مغن ويذكره بأنه يمثل او يؤدي دوراً في مسرح. والمكان يحوله الى مكان مسرحي وكذلك الجمهور والاكسسوارات إلخ... فالمخرج هو حامي الخصوصية وحامي المسرحة، ومعه، تكون مسرحية غنائية، هي مسرح أولاً وأخيراً، أي مسرح مغنى يخضع لكل التطورات والتحولات التي يخضع لها المسرح في ظروفه واكتشافاته وتجريبياته.

المسرح الغنائي العربي

في هذه المسرحية الشاملة للعناصر المختلفة يمكن ان نرى الى المسرح الغنائي العربي، من ضمن العلاقات القائمة بين النص والاداء والاغنية والاخراج... ومن هذه المسرحية بالذات يمكن ان ننظر الى اي مدى كان عندنا مسرحية غنائية، والى اي مدى انصهرت هذه العناصر كلها في هذه المسرحية، حيث ان هذه العناصر لم تعد عناصر منفصلة عن بعضها او طارئة، او خارجية.

اذا قلنا ان المسرح بدأ مع الغناء، فليس غريباً ان يكون المسرح العربي اعتبر الاغنية عنصراً خاصاً في عناصره، أو لازمة ضرورية او ان يكون القصد المسرحي الذي أشرنا اليه تناول المعطيات المختلفة للمسرحية بما فيها الاغنية والرقص والشعر، وحاول اذابتها في بنية مسرحية خصوصية، تأرجحت بين عمل مسرحي فيه أغان وألحان، وبين عمل مسرحي يطغى فيه العامل الغنائي عموماً، وبين عمل مسرحي لامس الاوبرا او الاوبريت معاً. وبين عمل مسرحي غنائي توافرت فيه شروط المسرحية.

فروايات مارون النقاش كانت تتضمن ألحاناً غنائية. وفي نهاية 1876 عندما وفد الى الاسكندرية سليم نقاش، مع فرقة من اثني عشر ممثلاً، وأربع ممثلات، وقدمت على مسرح زيزينيا مسرحيات عمه مارون نقاش كان يعمل معه يوسف الخياط كما كان يقوم بتدريب الموسيقيين والمغني بطرس شلفوني (المسرح الغنائي العربي، محمود كامل، دار المعارف، مصر 1977).

كما نجح يوسف الخياط في اقناع الشيخ سلامة حجازي بأن يغني في فترات الاستراحة قبل ان يكوّن في ما بعد، فرقة خاصة به بعد ان تربع على عرش الغناء عبده الحامولي وقد التقى ادباء كثيرون حول الشيخ سلامة أمثال الياس فياض وطانيوس عبده وانطون فرح وانطون سركيس وخليل مطران والشيخ نجيب الحداد وراحوا يمدونه بمؤلفاتهم (المرجع ذاته).

الحدث البارز كان في مجيء (أبي خليل القباني) الدمشقي الى مصر. ومعروف أن القباني كان "الممثل المبدع الشامل، فكان شاعراً وموسيقياً وأديباً وممثلاً)، ولهذا بدت أعماله أكثر وحدة وأعمق نسيجاً وأشمل خصوصاً وإن هذه المسرحيات كانت تتميز بعنصر الرقص الإيقاعي الى العنصر الموسيقي والغنائي. وكان يتناوب على الغناء في مسرحيات عبده الحامولي. وألمظ.

سيد درويش الذي كان يلحن لفرقة جورج أبيض وحجازي ومنها "فيروز" شاه والهواري "وهدى" والدرة اليتيمة وكوّن أيضاً فرقته الخاصة (1922) وكان يقوم بالغناء والتمثيل في مسرحيات عدة "شهرذاد" والبروكة و"العشرة الطيبة" ويقال أنه "كما في المسرحيات منحى جديداً، في إيقاعها الراقص والحبكة الموسيقية المسرحية" (المرجع ذاته).

ومن هذه الفرق تأسست أخرى كفرقة منيرة المهدية. واتجه في هذا الإطار، كل من عزيز عبد وجورج أبيض اتجاهاً جديداً وهو تقديم روايات غنائية استعراضية. ولحقت أوبرات عالمية مترجمة كـ"كارمن" و"تاييس" وقد شارك محمد عبدالوهاب في تلحين عدد من الأعمال منها مسرحية "كليوباترة" و"مارك أنطون" تأليف سليم نخلة وقام عبدالوهاب بدور البطولة أمام منيرة المهدية.

ولحن لهذه الأخيرة كذلك كل من محمد القصبجي ورياض السنباطي. ويمكن إضافة فرقة نجيب الريحاني التي ساهمت في نهضة المسرح الغنائي وفرق أخرى كفرقة علي الكسار وفرقة يوسف وهبي. وفرقة فاطمة رشدي التي قدمت "مصرع كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"علي بيك الأكبر" لأحمد شوقي...

أردنا من خلال هذا الاستعراض السريع أن نتوصل الى بعض خصائص المسرح الغنائي في مصر كما برزت في ما قدم على تلك المسارح. ويمكن أن نشير عبر ذلك الى مجمل أمور.

أ ـ المسرح الغنائي العربي منذ بداياته وحتى الثلاثينات لا ينفصل عن واقع المسرح العربي بواقعه العام، من نصوص مسرحية معظمها مترجم ومن أداء ومؤدين ومن جمهور، حيث إن عنصر الأغنية كان أساسياً، وقلما قدمت مسرحية لا تتضمن أغاني. الأمر ذاته ينطبق على بدايات السينما العربية. فكأن الأغنية كانت الجسر المشروع الذي اعتمده المسرح للوصول الى الجمهور.

ب ـ وجود نص مسرحي كامل، مترجماً كان أم موضوعاً. هذا النص سواء خضع للتلحين أم أدخلت عليه الأغنية، كان يحتفظ ببنيته الخاصة.

ج ـ وجود الفنان الشامل الذي تمثل بالعديد وأبرزهم أبو خليل القباني الذي كان أديباً وموسيقياً وممثلاً ومخرجاً. وكان السيد درويش يمثل ويلحن، وكذلك الشيخ سلامة الحجازي...

د ـ تنوع حضور الأغنية، بين تطريبية في المسرح، وبين إقحامية بين الوصلات، وبين درامية من داخل العرض.

هـ ـ معظم مؤلفي الفرق المسرحية كانوا ملحنين أو موسيقيين أو مطربين وهذا ما جعل العنصر الغنائي الصرف يطغى أحياناً على العنصر المسرحي.

و ـ تقدم المطربون الى المسرح عموماً كمطربين، وليس كمسرحيين. هذا التقليد بقي موجوداً في السينما حتى اليوم. وقد أثر بالطبع على طريقة الأداء.

ز ـ وجود العنصر الاستعراضي سواء من خلال الديكورات أم خلال الرقص. مع الإشارة الى بروز الرقص التعبيري.

ح ـ طغيان النصوص الأدبية الموضوعة وهذا العنصر الأدبي يتمثل في مسرحيات شعرية أم في قصائد مغناة. وقد ساهم في الحركة المسرحية الغنائية كثير من الشعراء والأدباء سبق أن ذكرنا بعضهم. وهذا طبيعي باعتبار أن الكتابة المسرحية آنذاك لم تكن منفصلة عن الأدب. والكاتب المسرحي هو الأديب بشكل عام.

ويمكن أن نستنتج من هذه النقاط المحددة أنه كان هناك قسمات مسرح غنائي عربي في مصر يميز نصه الأدب. وتميز مكنوناته الأغنية، وهذا ما أوجد نوعاً من الصراع بين الأغنية وبين النص. وبين ما أسميناه المسرحة. مع تقدم عناصر استعراضية وراقصة هذا الصراع (وهو مشروع بالنسبة الى تلك الفترة) كانت تتقدم فيه الأغنية والمغني على سائر العناصر الأخرى.

إضافة الى ذلك، بروز ما يسمى اليوم المسرح الشامل الذي يتضمن القصيدة، والأغنية، والرقص الاستعراضي والرقص التعبيري والموسيقي، والمطرب، والممثل، والديكورات...

معنى هذا أن بذور المسرح الغنائي العالمي والعربي الحديث كانت موجودة، مبثوثة في المسرح الغنائي العربي ازدهر في بدايات القرن حتى ثلاثينياته.

معنى هذا المسرحية الغنائية العربية التي ظهرت في بعض البلدان، خصوصاً في لبنان في بداية الستينات مع الرحبانيين، ليست بلا جذور، وليست بلا موروث، وهي متصلة على شكل أو آخر بإنجازات تلك الفترة وإن لم يتبق منها، سوى بعض مخطوطات النصوص وسوى اغار وألحان وأوبريتات.

التجربة الرحبانية

في نهاية الخمسينات لم يكن تبلور في لبنان مسرح لبناني ذو تجارب مغايرة أو ذو تراكم يكرسه. كانت بدايات مسرحية تخلو من الكاتب وتكاد تخلو من المخرج وتكاد أيضاً تخلو من الممثل. كان المجال الأوسع لمسرحيات إذاعية يؤلفها أو يترجمها الأدباء والكتاب والشعراء. والأغنية اللبنانية لم تكن في تلك المرحلة ذات خصوصية، أو ذات حضور. ربما الشعر في لبنان كان وحده يتقدم، سواء الفصيح منه والمكتوب، أم العامي أو المحكي. هذه الحركة الشعرية المزدوجة، كانت تتحاور، وتتطور على تأسيس إرث طويل جمع شعراء كباراً كالأخطل الصغير وأمين نخلة وسعيد عقل وصلاح لبكي والياس أبي شبكة. لكن هذه المرحلة كانت تنبئ من ضمن الظروف الاجتماعية مسافة والسياسة والاقتصادية، بنهضة ثقافية شاملة (في هذا المناخ بدأ الرحبانيان عملهما في المسرح وفي الأغنية وفي الشعر). دخلا الى مجالات تكاد تكون شاغرة خصوصاً كما قلنا في المسرح. ولهذا كان عليهما أن يبحثا عن شكل يستوعب تدفقهما الموسيقي والشعري، خارج إطار الأغنية. وقد جاءت مهرجانات بعلبك الفرصة الذهبية لبداية تحقيق هذه التجارب لكن كيف يبدآن، ومن أين وإلى أين؟ وتالياً، ماذا يحققان: إنجازات موسيقية غنائية، أم إنجازات شعرية، أم إنجازات مسرحية. والسؤال يتكثف عندما نعرف أنهما حاولا تحقيق كل هذه الأمور مجتمعة في إطار المسرح. لكن أوجد هذا نوعاً من الصراع الذي لم يحسم بين الرحبانيين كشاعرين يريدان أن يساهما في حركة التجديد الشعرية خصوصاً في مستوى الأغنية. والرحبانيين كموسيقيين يريدان أن يحققا ثورة في مستوى الموسيقى العربية والأغنية العربية والرحبانيين كمسرحيين يريدان أن يؤسسا لشكل مسرحي يكون قادراً على احتواء هذه الإنجازات. وإذا عرفنا أن الفولكلور الشعبي جزء من هذه اللعبة، نعرف أنه دخل أيضاً ضمن هذا الصراع. ليجعل النتاج الرحباني المسرحي يتأرجح بين السعي الى العرض المسرحي والاسترسال في ما هو استعراضي، في مستويات الديكور والملابس والرقص بشقيه الفولكلوري وغير الفولكلوري.

هذا الصراع بين عناصر التجربة الرحبانية يخفي في الواقع صراعاً حاداً (لم يحسم أيضاً) بين محاولة المسرحة الى التوصل الى مسرح غنائي شامل وبين العناصر اللامسرحية التي تهدد هذه المسرحة في صميمها. لكن هذا الصراع يصل الى ذروته عندما يتقدم النجم أو المغني عنصراً أساسياً في العمل، كوديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وجوزيف عازار وملحم بركات وخصوصاً نجمة التجربة الرحبانية الكبيرة فيروز فكيف كانت ملامح هذا الصراع، وما هي الصيغة المسرحية التي توصل إليها الرحبانيان والتي أصبحت، كما سنرى، صيغة نموذجية ليس للمسرح الغنائي العربي فقط وإنما للمسرح الشعبي عموماً بذرواته وحضيضه.

على امتداد ربع قرن (أول عمل لهما أيام الحصاد 1957 ـ وآخر عمل مشترك وقع باسمها "الربيع السابع" 1982) قدم الرحبانيان نحو خمس وعشرين مسرحية. اي مسرحية كل سنة تقريباً. هذه الكثافة في التقديم جعلتهما من ناحية يجدان في البحث عن "صيغتهما" لكنها من ناحية اخرى راكمت تجارب متشابهة خصوصا في البدايات مما حال احيانا كثيرة دون ايجاد مسافة لاجراء مراجعة نقدية مطهرة، لهذا النتاج الضخم. (احياناً كانا يصنعان مسرحيتين في العام الواحد).

ضمن هذا النتاج المتراكم المنوع، لكن ذي الوحدة العنصرية من الصعب الكلام على مراحل حاسمة تشكل كسراً في ما بينها، او ثورة على بعضها، يمكن الكلام على تهيؤات او على محطات تأسيس ويمكن اعتبارها منطلقات بحث للرحبانيين عن لغتهما الموسيقية من ناحية وعن "صيغتهما" المسرحية من ناحية اخرى، ضمن اقتراب اكثر فأكثر من التناقضات السياسية والاجتماعية وامتداداً للتاريخية التي كانت تميز الواقع اللبناني بعد مرحلة الاستقلال.

لكن اذا كان من الصعب الكلام على مراحل فاصلة في بنية العمل الرحباني، الا اننا، يمكن، ربما اصطلاحاً مقاربة مرحلة اولى متكاملة الأجزاء والهواجس وهي الممتدة من "ايام الحصاد" الى "دواليب الهوا" (1965) مرحلة عشر سنوات تقريباً حاول فيها الرحبانيان تأسيس ثورتهما الموسيقية اولا. والشعرية (على صعيد الأغنية) ثانيا، عبر ما يمكن ان نسميه جماليات المكان. هذه الفترة تشمل "ايام الحصاد" (1957) "موسم العز" (1960م) "البعلبكية) (1961) "جسر القمر (1962) و"دواليب الهوا" (1965) هذه المرحلة المهيئة كأنها محاولة لمسرحة المكان، اكتشاف جمالياته، غسل ذاكرته، تمجيدها، انها الاقتراب من المكان وهي القرية اللبناينة والريف اللبناني، اقترابا ملحمياً. بل ويمكن القول حاول فيها الرحبانيان تأسيسها لمسرحة هذا المكان، مسرحة فولكلوره، مسرحة حكاياته، الغرف من معجمه ومن الطرنة، وكأنه كتلة واحدة متموجة. لا شقوق فيها، والتناقضات "شكلية" انه المكان السعيد بحصاده وشوكه ووعره وبنفسجه وعليقه وجباله وقمره وغيومه وثماره وزهره وحكاياته، وناسه الذين يشبهون مكانهم. مرحلة رومانسية بل مرحلة حنين واحياء للمكان الذي بدا وكأنه مهدد بالتطور والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة الوافدة.

الرحبانيان في هذه المرحلة، كانا يحاولان اختراق اشكال جديدة في الكلمة الشعرية المغناة، تترافق مع اشكال وايقاعات موسيقية جديدة في الكلمة الشعرية المغناة، تترافق مع اشكال وايقاعات موسيقية جديدة. لهذا كانت اعمالهما في هذه الفترة ذريعة لتقديم هذه الانجازات في اطار مسرح غنائي، تنتصر فيه الجماليات الشعرية والموسيقية والفولكلورية على المسرحة، اي على البنية الشاملة التي تتمسرح فيها كل هذه العناصر. واذا عرفنا ان مهرجانات بعلبك، قبل الرحبانيين كانت تقدم "منوعات" لبنانية، اي عبارة عن لوحات فولكلورية غنائية راقصة، نفهم، كيف دمج الرحبانيان هذه المنوعات في اعمالهما اللاحقة، في مسرحهما او اذا عرفنا ان مهرجانات بعلبك اكتسبت شعبية كبيرة، يمكن ان نفهم ابعاد هذا الدمج، والخلط، بين منوعات تبدأ بأغنيات او برقصات وتنتهي باسكتش مروراً بالملابس الجميلة الفولكلورية وغير الفولكلورية. هذه العناصر، اي الأغنية التي تأتي من خارج النص، والموسيقى القائمة بذاتها، والاسكتش المجاني، والرقصة التي لا تندمج بالمناخ الدرامي والملابس التي تخدم الاستعراضية بأناقتها وطرافتها وجماليتها اضافة بالطبع الى ما تمثل من لون محلي فولكلوري، جعلت المناخ الشعري الموسيقي الجمالي والايقاع الراقص والملون تنتصر في مجموع هذه الأعمال. بمعنى آخر ان الانجاز الموسيقي الفذ الذي قدمه الرحبانيان والتمثل وبالأغنية معاً، لم يكن دائماً أو غالباً انجازاً موسيقياً درامياً. فالأغنية على روعتها بالأصوات المهمة التي قدمتها "كفيروز ـ وصباح ـ ووديع الصافي ـ ونصري شمس الدين ـ وجوزيف عازار" كانت، كأنها تسعى الى نفسها كبنية مستقلة، اي كجسم يلمع وحده، وسط التنويعات المقدمة. كانت اغنية جديدة ساطعة، لكن ليس داخل السياق دائماً، تؤدي وتسمع خارجاً لنفسها جوهرة ثمينة خارج العقد. ونظن ان التحدي الذي واجهه الرحبانيان في تلك المرحلة كان تحديا موسيقياً بالدرجة الأولى، ثم كان تحدياً شعرياً، فاللحن الرحباني، قد يكون درامياً في هذه الأغنية، لكن ليس من الضروري ان تكون هذه الدرامية ضمن السياق الخاص الذي تخضع له المسرحية. وهكذا بالنسبة الى الشعر سواء جاء في حوارية او في قصيدة مغناة، يأتي ايضا من خارج المناخ المطلوب، وهذا يتم في مستويات عدة:

1 ـ كانت الجمالية تميز الشعر العامي او المحكي اللبناني في تلك الفترة، جمالية تقوم على الاهتمام بالشكل وبالايقاعات المرهفة. وباللقيات الشعرية الطريفة. وان تم ذلك احيانا على حساب المضمون. أو فلنقل ان هذه الجمالية كانت في بعض جوانبها شكلية. كأن نقول ان الشكل هو المضمون. هذا الاتجاه الصافي للجمالية الشعرية كان من رواجه ميشال طراد ـ وسعيد عقل. وقد تأثر بهما الرحبانيان عميقاً. على ان هذه الجمالية كانت تصطدم احياناً كثيرة بالسياق، او بالبنية العامة للعمل او بالدرامية، فتنفر لقوتها، وتعصى لجماليتها. الجمالية في الشعر احيانا هي اللادرامية، خصوصا عندما تخدم اغنية مطلقة، او ايقاعا مطلقاً، او شكلية مطلقة، مثلاً، سعيد عقل في مسرحيتي "قدموس" وفي "بنت يفتاح" لحق احيانا القصيدة كشاعر، ولم يلحق دائماً متطلبات العمل المسرحي ككاتب مسرحي او كشاعر مسرحي. قد يكون كتب قصيدة حوارية بأصوات متعددة تقترب في سياقها من الدرامية، لكن هذه الحوارية بقيت الاطار الجمالي ـ الشعري، اكثر مما بقيت في الاطار المسرحي. أحمد شوقي لحق كذلك، وان اقل من سعيد عقل، التدفق الغنائي الذي جرف المنحى المسرحي، وهدد البناء الدرامي واللغة الدرامية. والأمر ذاته بالنسبة الى عبد الرحمن الشرقاوي ـ وصلاح عبد الصبور وكثير من الشعراء الذين ظلوا في كتاباتهم ينتمون للشعر اكثر مما ينتمون للمسرح. وقد تكون مواصفات المسرح الشعري عموماً حتى اليوم.

2 ـ اتصال القصيدة او المقطوعة بالعنصر الموسيقي. كان غالب الأحيان اقوى منه بالنسيج المسرحي. وهذا طبيعي بالنسبة الى فنانين يعلنان انتماءهما الاول للموسيقى وللشعر.

3 ـ هذه العلاقة كانت تجعل الرحبانيين احيانا يلحقان كلمات الأغنية باطار موسيقي سابق لها. اي انهما كانا يتوصلان الى لحن ومن ثم يبحثان له عن كلمات، سواء في لحن موضوع ام في لحن مقتبس وهذا يتم بالطبع خارج البناء الدرامي المقترح. لهذا قد تأتي اغنية او اغنيات عدة، في هذه المسرحية وتلك، مصادفة، وكان يمكن ان تتقدم في عمل آخر.

4 ـ كان الرحبانيان، من ضمن الهاجس التجديدي للتراث الشعري أو الموسيقي يضعان اغاني فولكلورية لبنانية. أو اخرى تراثية عربية، وكان عليهما ان ينوعا بها عملهما المسرحي الموسمي، خصوصا في هذه المرحلة التي اقتربت فيه اعمالهما من البيئة القروية او الجبلية او عموماً الفولكلورية.

5 ـ حتى كتابة الأغنية الدرامية (المختلفة الى حد في جورها عن كتابة الأغنية الجمالية وان لم تنفصلا عندهما). كانت دراميتها لذاتها، احياناً كثيرة، تماماً كما هي الموسيقى التعبيرية التي تؤلف لأعمالهما والتي تحشر حشراً أحياناً في هذه المسرحية او تلك او تشطح لقوتها الخاصة.

6 ـ اشتراك ملحنين وشعراء في وضع اغان في هذه الأعمال، "كفيلمون وهبة" و"سعيد عقل" كان يخدم الأغنية فنياً. والأغاني التي لحنها فيلمون لقيت شعبية واسعة. لكن هذا النجاح الشعبي لا يعني بالضرورة توظيفاً داخل منطق العمل ومتطلباته.

(لكن هذه المرحلة التأسيسية، رغم طابعها البحثي عن شكل او عن صيغة لها حملت، في العمق ملامح المسرحية الرحبانية وقدمت اعمالاً، ورغم مجمل الملاحظات التي اشرنا اليها) تتسم بحس درامي عميق ذي بنية درامية عامة، تحاول، ان تلف مجمل هذه والسياق الواحد المبني على تتابع اللوحات او الشاهد، وهناك نوع من الوحدة التأليفية الكتابية والموسيقية، وبشخصيات لها ملامح واضحة تحمل تناقضاتها وصراعاتها. كما نجد في "البعلبكية" (رغم اسطوريتها)، وفي "الليل والقنديل" وخصوصا في "بياع الخواتم" التي كانت، في رأينا تتويجاً لهذه المرحلة التأسيسية على هذا الاساس ويمكن ان نجد في هذه المرحلة التأسيسية كل مكونات الصيغة الرحبانية، هذه المكونات التي ستبقى عناصر ثابتة في مسرحهما، رغم التطور الدرامي الذي سنشهده في الأعمال اللاحقة ويمكن تلخيص هذه المكونات:

1 الأغنية بوجهها الحالي.

2 الشعر بوجهيه الجمالي والدرامي

3 اعتماد اللوحات والمشاهد المتتابعة كمكونات للسياق.

4 الاسكتش الذي لا يندرج دوماً في اطار العمل.

5- العنصر الفولكلوري الذي يلازم عن ضرورة أو غير ضرورة تركيب العمل.

6 عنصر التأليف الدرامي وان مخترقاً بهذه العناصر.

7 ديكورات جميلة تستخدم كمجرد دريكورات، ولا تكون دوماً، جزءاً من الكتابة الدرامية.

8 الرقص الفوكلوري يأتي عادة منفصلاً عن هذه الكتابة.

9 الملابس رغم اشارتها الى تعريف الشخصيات والي البيئة المحلية الا انها تقدم كأزياء جميلة، لا تنسجم بالضرورة، لا مع الديكورات ولا مع المناخ العام، اي انها تبقى بعيداً من الايحاء الدرامي والدلالي.

10 ـ عنصر المغني الذي يتقدم بصفته الغنائية للجمهور "كصباح" و"وديع الصافي" و"نصري شمس الدين" وخصوصاً "فيروز" يبقى احياناً عنصراً غنائياً فحسب.

11 ـ الاسقاطات السياسية وغير السياسية.

12 ـ المباشرة، والخطابية والوعظية احياناً.

13 ـ الشغل على الممثلين لم يكن اساسياً.

(إن مجمل هذه العناصر المكونة للشغل الرحباني تكررت في نتاجهما اللاحق كله، سواء جاء بعضها، من داخل المسرحة، ام بقي خارجها لكن هذه العناصر التي تشكل بنى، حاول الرحبانيان صهرها ودفعها في اتجاهات اكثر درامية، وأكثر التصاقاًَ بالنسيج المسرحي العام. واذا كانت تلك الفترة تمثل ما أسميناه محاولة مسرحة المكان. فان فخر الدين (1966) تمثل احدى الذروات المسرحية التي حملت معها كل هذه العناصر ولكن تجاوزتها في بناء مسرحي موسيقي غنائي يكاد يكون النموذج الأبرز للصيغة الرحبانية. بهذه المسرحية افتتح الرحبانيان افقاً جديداً هو التاريخ. اي من محاولة مسرحة المكان "الفردوس الجميل الشعرية" والخيبات والصراعات. بهذه المسرحية دخل الحس الفاجع التراجيدي) المسرح الرحباني، ودخلت معه البنية المركبة للعمل في مستويات الشخصيات والسياق، التأليف الموسيقي الدرامي، حيث بلغ فيها الرحبانيان ملحمية عالية. ومن خلال هذه "الملحمية" التي تتضمن في ما تتضمن، اشكال الاسقاط على الواقع (وإن من موقع تمجيدي للتاريخ الخاص) واجه الرحبانيان قسوة الواقع وقدريته الطاغية. القدرية التي تجعل ارادات الناس والابطال تصطدم بالحلم و"هالة الملك" (1967) و"جبال الصوان" و"بترا" واخيراً "صيف 840" تندرج ضمن هذا الاطار التاريخي الذي يطل باسقاطاته على الواقع.

من الانفتاح على التاريخي هبط الرحبانيان الى المسرحية السياسية من مسرحة المكان السحري. الى مسرحة التاريخ الفاجع، الى مسرحة الواقع السياسي واذا عرفنا ان المرحلة التي خاض فيها الرحبانيان هذا النوع أي في بداية السبعينات مرحلة من أخصب المراحل وأخطرها في لبنان وهي التي كانت تمهد للحرب، نعرف كم كان العبء ثقيلاً. في هذه المرحلة تقدم الرحبانيان بحس سياسي مرهف عبر اعمال كان أولها "الشخص" ومن ثم تتالت في "يعيش يعيش" و"لولو" و"المؤامرة مستمرة" و"الربيع السابع".

وإذا كانت المرحلة الأولى الممتدة من "أيام الحصاد" الى "دواليب الهوا" مرحلة منسجمة الى حد كبير من حيث مناخاتها وإيقاعاتها فهذه المرحلة الثانية الممتدة من "فخر الدين" الى "الربيع السابع" كانت متواترة فيها المواضيع وأشكال التناول، ارتباطاً بمتطلبات الواقع من جهة وإلحاحات التجديد في المستويات المسرحية والغنائية المختلفة. فمن المسرح التاريخي الى المسرح السياسي الى المسرح النقدي الى المسرح الجمالي، كان ثمة تواتر لا تتابع،

المسرح العربي الحديث

لكن رغم هذا التواتر، يمكن ان نتوقف عند هذه المرحلة من خلال ملاحظات عدة منها:

أ ـ احتفظ الرحبانيان بمجمل العناصر التي كوّنت أعمالهما في المرحلة الأولى. وهي عناصر أشرنا إليها سابقاً.

ب ـ الى الاحتفاظ بهذه العناصر كان ثمة تطهير لكثير من الإضافات غير المسرحية.

ج ـ بروز الاتجاه الملحمي في مسرحهما التاريخي خصوصاً في "فخر الدين" و"جبال الصوان".

د ـ بروز الاتجاه النقدي المباشر وغير المباشر ليصل في "لولو" الى حد الهجاء وإبراز الوجه المعتم (على حد تعبيرهما) في المجتمع في "لولو" إدانة شاملة للمجتمع. وهي المسرحية الأكثر سواداً.

هـ ـ تقدم المنحى الدرامي الشامل في أعمالهما. ونضج الصيغة الرحبانية واهتمام أكبر بمحاولة المسرحة.

و ـ الأغنية والشعر والموسيقى باتت أكثر التصاقاً بمتطلبات العمل، لكنها لم تتخل عن منحاها الجمالي، واختباريتها الفنية. اللذين ميّزا المرحلة الأولى.

ز ـ بقيت التجريبية مرتبطة بالأغنية وبالقصيدة، وبالموسيقى، ولم تطل الى الشكل المسرحي والعناصر المسرحية. وكأن المسرح بقي المكان الأمين لممارسة أو لتقديم هذه التجريبية في الموسيقى اللبنانية والعربية. ولهذا بقي المسرح ذريعة لتقديم هذه الاكتشافات الموسيقية والصوتية أكثر مما كان مجالاً لاكتشافات مسرحية أو أدائية. ولهذا ربما بقي المسرح الرحباني على هامش التجريبيات الطليعية التي عرفها المسرح اللبناني في بداية السبعينات مع مسرحيين تجريبيين كأنطوان ملتقى ومنير أبو دبس وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي ونضال الأشقر وروجيه عساف. نقول هذا من دون أن نغفل أن تطور الهاجس المسرحي عند الرحبانيين من الصعب أن نفصله عن المناخ الطليعي الذي ساد المسرح اللبناني في تلك المرحلة فالمسرح الرحباني (ذو الصيغة الرحبانية) لم ينتم يوماً لا الى المسرح البرشتي ولا الى المسرح الغروتوفسكي ولا الى ستانسلافسكي ولا الى بيترفايس ولا الى يونسكو ولا الى بيكيت... بالرغم من انفتاحه على تجارب مسرحية جديدة عديدة.

مسرحية لولو (1974)

مسرحية "لولو" التي قدمت في العام 1974 تكتسب أهمية مميزة لاعتبارات عدة منها، أنها من أكثر الأعمال الرحبانية هجائية للمجتمع ولعلاقاته ولتناقضاته، وناسه. هذا الهجاء الأسود لا يطول الى السلطة فقط، وإنما أيضاً الى العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي شوّهتها القيم الاستهلاكية والتجارية ودمرتها المصالح وأشكال النفاق. كأن مسرحية "لولو" في مضمونها الهجائي، نقيض المناخات الرحبانية التي عرفناها في البدايات، (في المكان السعيد)، مع "أيام الحصاد" و"جسر القمر" و"بياع الخواتم" و"دواليب الهوا" وحتى في مرحلة "فخر الدين" و"جبال الصوان" امتداداً الى "ميس الريم" و"بترا" و"الربيع السابع" شعرية العلاقات وطيبتها وبساطتها في المرحلة الأولى، حيث ينتصر الإنسان السعيد الذي خلبته البيئة والحلم والفردوس الطوباوي وملحمية الشخصيات البطولية في "فخر الدين" و"جبال الصوان" ومن ثم "بترا" وحتى "صيف 840" (علماً بأن هذه المسرحية التي وضعها منصور رحباني، تحمل الكثير من الهجائية السوداء في تضاعيفها)، كأن هذه المسرحية أي "لولو" تنبئ بما سيحصل في 1975، أي الحرب في لبنان. فالمجتمع المنخور بالنفاق والكذب والسمسرة والنهب والاثراء غير المشروع وتضامن السلطة (ممثلة بالقاضي وبالمرشح الانتخابي وبرجال الأمن وبالتجار)، مع هذه الظواهر الاجتماعية، كأنهما من العوامل التي ستفجر التناقضات لقد ابتعدنا عن مختار المخاتير الذي يجمع أهل الطبقة. وابتعدنا عن "فخر الدين" الذي يمثل رمز الصمود والعدالة ابتعدنا لنقع على أهل الحكم المهترئين، المتواطئين مع الخراب الاجتماعي. ولعل ختام المسرحية يدق ناقوس الخطر على لسان "لولو" (فيروز):

خلصت القصة

خدني لعندك يا جدي

المجنون إلو حق يحاكم العالم

طيارات رمادية مثل الترغل

انفجار القنابل فضي بلون الشمس

ناس بالخنادق

ناس بالبارات

العدالة كرتون

الحرية كذب

صار الحبس كبير

كل حكم بالأرض واطي

حلو يطلع الضو

خذني لعندك يا جدي.

كأنه يأس ما قبل اللحظات الكبيرة، بل كأنها الصرخة التي تسبق الانفجارات الشاملة. مسرحية "لولو" المقتبسة عن "عودة السيدة العجوز" لدورنمات، ورثته هذه السوداوية من دورنمات وورثت أيضاً الإدانة القاسية للمجتمع. لولو التي سجنت زوراً بسبب اتهامها بقتل يونس. وشهد عليها أهل القرية (ما عدا البويجي) تخرج من السجن وتعود الى قريتها لتنتقم من الجميع. وتنجح في النهاية في الانتقام، حيث تترك الجميع في مواجهة الجميع. وهي ترحل مع جدها على الطريقة الرحبانية المعتادة.

هذه المسرحية تحمل مجمل العناصر التي تتكون منها الصيغة الرحبانية والتي يسميها الرحبانيان "المسرح الغنائي الشامل": أي الأغنية والاسكتش والرقص والديكورات والملابس الجمالية والأغنية الدرامية والأخرى المجانية، والشخصيات الملتبسة والواقعية والمباشرة والإسقاط السياسي والخطابية... إنها المسرحية السابعة عشرة في المسيرة الرحبانية، ومن الطبيعي أن تمثل، وإلى حد كبير، الصيغة أو التوليفة المعروفة.

الشخصيات والسياق

الشخصيات الأساسية، مرتبطة الى حد كبير بالشخصية الرئيسية "لولو" التي تتمحور حولها الشخصيات الاخرى، وتبدو احياناً كظلال او كذرائع لها. هذه الشخصيات تنتمي الى مجموعة اجتماعية "كالمرشح والسمسار أو الى مجموعة مهيئة كالطبيب، أو الى السلطة كالمفوض تكون في مستوى التجريد شخصيات مستقلة معنوية، لهذا فهي شخصيات تؤدي وظائف رمزية، هذه الوظائف الرمزية التي يتعلق بها الرحبانيان في مجمل مسرحهما شخصيات ـ تمثل طبقات اجتماعية او رموزاً ايديولوجية او وطنية كالمجد او الوطن او الارض وتصل هذه الشخصيات في رمزيتها حتى النموذجية. شخصيات لولو كلها نموذجية اي ثابتة في قسماتها. ولهذا فهي لا تتطور في المسرحية. تحتفظ بمواصفاتها السابققة واللاحقة متجمدة في مواقعها "لولو" التي يفترض انها قطعت مسافة التحول اثناء وجودها في السجن، تتقدم في المسرحية بملامح تكاد تكون على التباسها الخارجي، نهائية. المجموعات الاخرى لا تزال على حالها. القاضي يمثل نموذج القاضي الذي يبيع ضميره. المرشح الانتخابي كاذب كالعادة في وعوده. نايف رمز الحبيب الذي تجرفه طموحاته المادية، فينقلب على من كان يحب ويتآمر عليها. القبضايات شرائح تمثل بيئات اجتماعية مختلفة. وهي ذات مواصفات معروفة تتظاهر بالشجاعة وهي في الواقع شخصيات. وهنا يسخر الرحبانيان بحنان ظاهرة القبضاييات التي سادت في لبنان لفترات، سخرية تتقدم بعطف عميق عليها. فالقبضايات يقفون الى جانب "لولو" وليس الى جانب المجموعة الاخرى اي الى جانب العدالة لكن إذا كان الرحبانيان أظهراً عطفاً على القبضايات وعلى "المجنون" أيضاً فإنهما دانا الطبقة الاخرى التي تنتمي الى السلطة، والى الفئة الاجتماعية التي برزت في تلك الفترة على السطح من تجار السلاح والدخان والسمسرة انها ادانة جماعية شاملة.

الشخصيات هذه تحدد حركات البنية الدرامية القسم الاول من "لولو" مخصص تقريباً لبلورة شخصية البطلة. الثاني يقدم علاقتها بمجمل الشخصيات الاخرى، سلفاً وحاضراً: القاضي، المفوض، التاجر، حبيبها، ماسح الاحذية، المرشح الانتخابي...

القسم الثالث تنفجر فيه التناقضات؛ يأس لولو ورحيلها، وسقوط الآخرين النهائي.

مع هذه الحركات تتطابق ايقاعات درامية، ومشهدية مختلفة، القسم الاول مقدم على شكل سريع، خفيف، جدي، ومضحك، هادئ وملتبس معاً...

القسم الثاني ـ كأنما أبطأت فيه الحركة لأسباب منها العنصر الغنائي (المجاني والاسكتش) ويحتفظ هذا البطء بنوع من الثبات فيعود الى التسارع في النهاية.

لكن الحدود بين هذه الاقسام غير واضحة تماماً. فثمة تواتر وتتابع وتكرار وتداخل، والتباس يطمس هذه الحدود، ويؤثر تالياً في البنية الكلية للعمل.

الى جانب ان الادوار التي تحرك هذه البنية لم تتوسع كما قلنا. بقيت كما قدمت. أي ملامح ثابتة والاحداث التي تتعاقب او تتكرر تأتي لتخدم هذه الملامح الثابتة.

اما المشاهد فقد اتخذت ضمن السياق المضطرب شكل التتابع غير السوي فتوزعت بين مشاهد جماعية. ومشاهد ثنائية واخرى فردية.

المشاهد الجماعية تميزت عموماً بالغنائية أو بالرقص ضمن اطار احتفالي او غير احتفالي.

1 ـ تجمع أهل البلدة بحثاً عن ماسح الاحذية الذي اختفى. وفي هذا التجمع محاولة لتكثيف المعرفة بهذه الشرائح.

2 ـ القبضايات في حوارهما مع ماسح الاحذية، وثم مع لولو، وبعدها مع المفوض.

3 ـ الحفل الختامي.

4 ـ الرقصات الجماعية.

المشاهد الثنائية كانت الحرب واكثر امتلاكاً للحوار:

1 ـ مشاهد لولو وماسح الاحذية.

2 ـ مشهدا الطبيب النفساني ولولو.

3 ـ مشهد لولو ونايف (خطيبها).

4 ـ لولو والمرشح الانتخابي.

أما المشاهد الفردية فتكاد تقتصر على لولو فتكون ذريعة للغناء بعد مشهد، أو تمهيداً لآخر، أو من أجل الفناء فحسب.

اللغة

مزيج من نثرية وشعرية وحوارية حية، استخدم فيها الرحبانيان عامية متنوعة تنوع الشخصيات والمواقع ولهذا فاللغة في "لولو" عنصر معرفي للشرائح الاجتماعية ولملامح الشخصيات ويبدو ذلك من خلال استعمال لهجات عدة تشير الى انتماء جغرافي واجتماعي كما نجد في كلام القبضايات، فالقبضاي البيروتي يتكلم لهجة بيروتية وابن القبيلة بلهجة القبيلة والارمن بلكنة ارمنية، وابو الشباب، بلهجة متوسطة. وهذا يشكل غنى في استعمال هذه اللهجات ودلالة درامية ملموسة.

والقاضي والمفوض والمرشح وزوجة القاضي ونايف يتكلمون بلهجة غير محددة هي اللهجة المركزية.

أما الحوار فيتنوع، من حوار درامي حي يخدم البناء العام، الى الحوار الاسكتشي الخفيف. الى الحوار الشعري الخالص، الى الحوار المباشر، فالى الحوار المعمم الذي تتشابه فيه شخصيات في كلامها او تتكلم هذه الشخصيات لغة ليست لغتها: فماسح الاحذية يتكلم كالواعظ والشاعر والمفكر احياناً. تقول له لولو:

لولو" صحيح اني رجعت لبيتي وحريتي، بس صار بيتي حبس.

ماسح الاحذية: الحرية مسؤولية وبيقدر الانسان يكون حر وين ما كان...

فالحوار في هذا المعنى غني بدلالاته الاجتماعية والجغرافية والنفسية وكذلك بحيويته الدرامية، لكن هذا الحوار يبدو احياناً كثيرة مبتوراً، يتشكل في مشاهد او في اسكتشات مغلقة على بعضها فيضعف ذلك اتصاله بالنسيج العام للعمل، خصوصاً عندما تفتعل اسقاطات او التفاتات مباشرة، او شعرية مجانية.

الأغنية

يمكن الكلام على الأغنية في "لولو" من خلال مستويات عدة:

1 أغنية تأتي ضمن السياق الدرامي وهي عدة ومنها الأغنية الأولى في المشهد الثاني بعد خروجها من السجن.

إنسى وكيف

والحبس وأيام السهر

مشتاقة للقمر

خلف الطاقة القمر

لا سأل عني يوم

ولا ودا خبر

وينسى مثل الكل بينسى.

أو الأغنية الأخرى. (وهي تتذكر):

في قهوي عالمفرق

في موقدي وفي نار

نبقى أنا وحبيبي

نفرشها بالأسرار

كل اصحابي كبرو

وتغير اللي كان

صاروا العمر الماضي

صاروا ذهب النسيان.

والأغنية بعد لقائها خطيبها السابق نايف وخيبتها ويأسها:"الله معك يا هوانا"

(..........).

خلص الحب وسكتت الكلمي

وتسكر القلب

وما وقع ولا نجمي

ما تاري الكلام

بيضلوا كلام

وكل شيء بيخلص

حتى الأحلام

والأيام بتمحي

الأيام.

ومن الأغنيات الأخرى التي تأتي في هذا السياق الحوار الذي بدأ نثرياً وتحول شعرياً غنائياً بين لولو والقبضايات والأعنية التي قدمها نصري "بويا بويا وبويا" ومن ثم الأخرى التي قدمها أثناء الحفل الختامي:

عالهوب الهوب الهوب.

2 أغنية تأتي من خارج السياق فتقحم اقحاماً وتجمد هذه السياق ومنها:

- أغنية الطبيب النفساني بصوت أوبرالي

- اغنية فيروز الروسية

- أغنية "من عز النوم بتسرقني" الى تأتي بعد حواريتها المغناة مع فارس (المرشح) و(ماسح الأحذية) فتبدو كأنها تغني للجمهور اكثر مما تغني في المسرحية.

- أغنية "راجعين يا هوى راجعين" التي تلي أغنية "الله معك يا هوانا" بعد لقائها الأخير خطيبها وخيبتها، فكأن الأغنية تأتي عكس الجو والموقف.

- أغنية دارينا

نطرونا كثير

ع موقف دارينا

لا عرفنا اساميهن

ولا عرفوا اسامينا

عموقف دارينا...

هذه الأغنية الجميلة مقحمة ايضاً.

أغنية هدى "زوجة القاضي" المعبأة حقداً على لولو وتخطط للقضاء عليها. هذه الأغنية لا تكشف لا نفسية زوجة القاضي ولا تفسر حتى الحوار ولا تعكس السياق.

الأغنية "الطقطوقة" تنفر كذلك من طلب العمل، وتبدو كأنها حشو للترويح والترفيه.

فالأغنية اذن في "لولو" ارتبطت حيناً بموقعها واحياناً اخرى تقدمت لنفسها، لجماليتها، والجمالية لا تكفي ولا هي ضرورية في العمل، تماماً كالإنشاء في التأليف الدرامي، وكذلك التجريبية الموسيقية (والغنائية) تنتشر اذا لم تتوجه الى بيئة درامية تجريبية ايضاً فالذي حدث ان الرحبانيين مارسا هاجسهما التجديدي التجريبي في الموسيقى ولكن في اطار مسرحي غير تجريبي، فانتصرت الموسيقى والأغنية على حساب المسرح. اضافة الى ذلك كله، يبدو العامل الصوتي، من خلال وجود مغنين ومطربين مهمين "كفيروز" و"نصري شمس الدين" (وفي مسرحيات اخرى وديع الصافي وصباح وجوزيف عازار)، يحمل الرحبانيين على الأخذ بالاعتبار بالأغنية لنفسها، وبالصوت لنفسه.

وهذا يتصل بالمغني الذي ينبغي أن يتقدم كمغن، ومن خلال أغنيات جديدة "موسمية" وكذلك من خلال الجمهور، الذي يأتي في معظمه ليسمع فيروز مثلاً. أو بالأحرى ليحضر فيروز. هذه الالحاحات الجماهيرية (اذا صح التعبير)، جعل الرحبانيين يدخلان "قسراً" أغاني تأتي كوصلات أو كمحطات راحة (كما قال عاصي أو منصور) بل يجعل العمل أحياناً على النجم الواحد، والشخصية الواحدة، حيث تتمحور الألحان والحوارات حول هذه الشخصية وكانت في "لولو" (ومعظم المسرح الرحباني) فيروز ومن ثم نصري شمس الدين. وهذا بالطبع تدخل من خارج العمل يصيبه بالتشقق والتفكك، ولولا قوة النسيج الموسيقي ومحورية النص لبدا المسرح الرحباني مسرح أغنية لا مسرحاً غنائياً. أو في أفضل الأحوال مسرح اسكتشات غنائية. في "لولو" أوقفت الأغنية، والحوارات المغناة، مرات، السياق وباتت المشاهد وكأنها تنتمي الى عمل آخر.

الرقص

اذا كان الرقص عنصراً بارزاً في المسرح الرحباني فانه يتقدم كعنصر استعراضي جمالي (فولكلوري أو غير فولكلوري) لكن الرقص في المسرح الغنائي (وفي المسرح عموماً) جزء من المسرحية في لولو، تبدو الرقصات (الدبكة او الرقصة الروسية)، وكأنها تنتسب الى مكان آخر. فقد حشرت هذه الرقصات من اجل تقديم حركة جميلة، او مرفقات جميلة. أو لمرافقة الأغنية. انها جزء استعراضي في العرض. وقفة جمالية بصرية ايقاعية ليس اكثر، لا نعرف لماذا يجب ان تؤدي "رقصة الخناجر" او "الرقصة الروسية"، او حتى الدبكة، في مكان ليس هو بالقرية ولا بالمدينة بل اضغاث مكان. (الرقص وظف جيداً مثلا في مسرحية منصور الرحباني الاخيرة "صيف 840") فالراقص يرقص، يؤدي ايقاعاً، ويمكن ان يؤدي في حفلة ساهرة، او في حفلة استعراضية. حتى العنصر التعبيري في مستوياته الأولى غير موجود، فكيف بالرقص كعنصر دلالي ـ ايحائي، او حتى تفسيري.

الملابس

اذا كانت الملابس جزءاً من اللغة المسرحية، تحمل كسائر العناصر الأخرى قيمة دلالية، مكانية أو زمانية أو نفسية أو اجتماعية.. فان الملابس في "لولو" لعبت مثل هذه الأدوار. فهي اشارت الى الموقع الجغرافي الاجتماعي مثلا للقبضايات. القبضاي البيروتي بالطربوش، والعباية (ينتمي الى بعض العشائر ربما في بعلبك)، بالكوفية والعكال، والأرمني بطريقة لبسه، البويجي ايضا من خلال الكاسكيت (القبعة)، رجلا الامن بالمعطف والنظارات على الطريقة (السينمائية المعروفة)، المجنون (رعد)، الذي يضع في عنقه قوساً. (روبن هود) مع انه تلبس شخصية نابليون.. الطبيب. والممرضات بالبرنس، المرشح العتيق بالطربوش والبدلة، القاضي والمفوض ونايف ببدلات انيقة وفي حفلة الختام الجميع بالسموكن حتى ماسح الأحذية الذي تحول الى رئيس للخدم. لكن "لولو" بقيت ملابسها من دون اية دلالة. ملابس جميلة، فرحة وكان يمكن ان تكون اكثر ارتباطاً. بموقعها الدرامي عائدة من السجن، مقررة الثأر، حزينة ويائسة من الداخل.. ملابس الجد في النهاية لا نعرف ماذا تعني؟ مع انه، كما نعرف من خلال الوقائع فلاح او اقرب الى القروي. فجأة يطل مرتديا بدلة وكأنه آت من توه من باريس.

الكتابة الدرامية أو الاخراج

من الصعب القول ان وراء هذه المسرحية اخراجاً يهندس العناصر المكونة للصيغة الرحبانية ام مسرحة هذه العناصر" الغنائية والحوارية والاسكتشية والمشهدية و.. أم مسرحة توحد مجمل هذه العناصر في نسيج اخراجي يشتغل على الأدوات البلاستيكية والأدائية والتقنية بحيث ينتقل العمل من مجموعة مشاهد تربطها حكاية الى عمل مسرحي، اي محاولة مسرحة اللوحات الراقصة، ومسرحة الأغنية ومسرحة الشعر وتاليا الممثل، بل تحس وكأن كل عنصر في ضعف التدخل الاخراجي يتحرك على حدة، دون ان تصهره حركة واحدة بل تحس كأن هذه العناصر تكاد تكون مجمعة تجميعاً وأحياناً مكدسة فوق بعضها.

فالأغنية لا تؤدي كأغنية الا لكون "السلة" الاخراجية ضعيفة. والرقص لا يؤدي الا كرقص (ايقاعي ـ استعراضي).

الا ان الضعف الاخراجي لم يحول هذه الايقاعات الراقصة الى ايقاعات درامية كما هي الحال في مسرحية غنائية عالمية.

واذا كانت المسرحة، تعني، في ما تعني ان لا ينسى الممثل لحظة انه يمثل، وأن لا ينسى لحظة انه يعمل في مسرحية، وأن لا ينسى لحظة ان التمثيل هو السيد، اذ كانت تعني المسرحي انتصار الممثل (وانتصار العناصر المحيكة به كأدوات مسرحية)، فمن الصعب ان نتعامل مع اي عمل يغيب فيه الممثل ليتقدم المغني، ويغيب فيه الممثل ليتقدم الراقص..

.. في هذا الاطار يبدو التمثيل في "لولو" وكأنه شبه غائب. حركات محدودة في الدخول والخروج، اداء معمم وتقليدي وبراني، اداء نموذدي يتقاطع مع الاداء التلفزيوني الشائع. بمعنى آخر. لم يشتغل الرحبانيان (ومن اخراج لهما) على الممثل واذا كان المسرح الغنائي الشامل يتطلب ممثلا شاملاً. واقعاً ومغنياً ومؤدياً، فان هذا الممثل الشامل شبه غائب نقول هذا ونحن نعرف ان الديكورات الجميلة والملابس الجميلة، والأغاني الجميلة، والرقصات الجميلة تفترس الممثل الذي يضيع بين هذه الجماليات الاستعراضية والشعرية والغنائية، ولا نقصد بذلك انه ليس من ممثلين او خامات تمثيلية جيدة في "لولو" ولكن نقصد ان الممثلين والخامات التمثيلية الجيدة غير مشغول عليها تلقى القاء هنا، وتؤدي اغنية هناك. وترقص لمجرد الرقص لكن بتبسيط للأداء. وتبسيط للأغنية.

اذا تناولنا "لولو" من مفهوم المسرحة الشاملة. قد يكون "قسرياً" بالنسبة الى الصيغة الرحبانية التي تتبنى، ربما مفهومها الخاص لهذه المسرحة، وللمسرح الغنائي الشامل، فهي، كما بينا، ليست مسرحاً بالمفهوم الشائع، وليست اوبرا بتفاصيل الأوبرا الشائعة وليست استعراضا بالمعنى المتداول، وليست حوارية بالمنحى المعروف، فلها منطقها الخاص وآليتها الخاصة، وتركيبها الخاصة هذه التركيبة التي تحولت الى صيغة نموذجية احتذاها مجمل المسرح الغنائي اللبنانية فباتت هذه الصيغة رائدة سواها، وربما نمطية لنفسها انها، رغم كل شي ذاكرة جديدة لتوليفة مسرحية حية، ويمكن ان تكون معطى مغاير لمسرح غنائي متجدد.

2 ـ "الربيع السابع"

ادراك القمة، بالنسبة الى فنان او شاعر، يعني اثنين: اما الانحدار ببطء (و فلنقل كالذبول)، او بقوة (او فلنقل كما يسقط خاتم في بئر) وأما الالتماع كما تشتعل الشمعة ولا تحترق. هكذا الوقوف في الالتماع. الانتصاب في الاشتعال. بهذه الصورة، ولا اعرف كم هي جميلة او كئيبة، ار الرحبانيين، في قمتهما، يلتمعان وان رف، غافلاً، بريق هنا، او طال بريق هناك. هذا الالتماع (ولم استعمل كلمة لمعان) تحسه عند اهل القمة، ينسحب الى الداخل، كأنما يشيع في الشرايين، وينسرب الى الاعمال الصامتة، ليتخذ من صفات الدم الصمت في المجاري الداخلية. الصمت في الأوردة، الصمت والاختباء، الخوف من التجاهر، الوحدة الى كلمات الجليد، جليد الزمن، كأنما، كل ذلك، كمن يحمي فؤوسه واسلحته بيديه كمن يحمي يديه بعينيه، كمن يحمي عينيه بعينيه.. اي كمن يقف بلا يدين ولا اسلحة، في زمن الحروب والانكسارات والخيبات، في زمن الوحدة. أولم يقولا في مسرحيتهما.

سافر منصور وحده ملكاً

نقولا فتوش

"سافر وحده ملكاً"

سافر منصور...

لا بل غاب كما تغيب الشهب، أو كما تمتطي الريح صوب الاعالي على صهوة العبقرية.

كيف عسانا نحصي غيابه سوى بالاشتياق، بالتحسر على عالم شره بالحقيقة المكسوة بالخيال، فحمله معه مظلة في اسفاره البعيدة عن وجودنا.

منصور الرحباني كسر قلبي، وهو ذو القلب المدوزن نبضاَ على الحب الأقصى او الغضب الأكبر ودوماً الطفل المرصود لتشييد عالم على قياس الحق والبراءة والأسطورة.

ما أروعه، وعاصي المعلمان الكبيران لهذا الشرق، حين كتبا الشعر والأسطورة ردد صوتهما الرهيب أناشيد الرعيان في الجبال المزروعة تاريخاً يمتزج فيه هدير الشلالات مع سكون السواقي ورائحة الأرض العذراء.

منصور هذا الذي غاب كان أكبر من اللقب واكبر من الإسم واكبر من المساحة التي يحتل في دنيا المسرح والشعر والفن.. فسافر وحده ملكاً.

انا الذي عرفته عن قرب وعايشته في الكثير من ابداعاته يوم توليت مسؤولية وزارة السياحة:

يحدثك، كملك، بكل ما في ملوك الابداع من اكتفاء واصالة وسمو.

غادر منصور وترك نبضات روحه وفنه في كل منا، وهو الذي كتب بشعره وموسيقاه للمجد، للقهر، للهزيمة، للانتصار، للحب المستحيل، للوعد المنتظر.

له في قلبي ارث وفاء ولا استطيع الا ان انحني امام وصيته، وما أروعها بأن ينقل جثمانه بالواح من خشب المسرح الذي نذر نفسه له.

وأنحني امام غيابه لان كان همه لبنان.. لا بل همه الأكبر الانسان وحقه في العدل..

حمل القيم الانسانية والوطنية ببساطة العظماء.

لم يتصاغر امام مجد، ولم ينهر امام اغراء.

يكفيك ان تجلس مع الرحابنة، تماماً كما يجلس الشاعر امام الحياة، او كما يجالس الفيلسوف الكون، أو كما يهيم الرسام بأنوار وظلال.

مذ علق الرحابنة بذاكرة لبنان ووجدانه، واستعملوا لغة وايماءات من اطراف لبنان حيث ينتهي صقيع المدن او حرها اللافح، وحيث يتوغل النور بعيداً عن هذيان الحضارات وكرها الرتيب السريع الممل.

مذ صار هذا الحدث... هذا الحدث الوحيد سعيداً في التاريخ... في كل التاريخ... توحد لبنان.

اعذروني اذا قلت... "توحد لبنان" فأنا قبل ان اكون ابناً لأهلي وطائفتي وسياستي، انا لبناني وكنت افتش عن هذه الوحدة في ضمير الكتب وعلى صفحات الجرائد وفي السياسات فما وجدتها الا في أدب الرحابنة وضمير الشعب والحب.

صدقوني اني سعيت جاهداً لأعرف اياً من الكلمات كانت لعاصي وأيها لمنصور واي الموسيقى كانت لأحدهما والكلام ذاته قله عن الفكرة، والأسلوب ومن بدأ، أولاً ولمن كانت النهاية؟

انا ذاتي حاولت ثم رأيت ان بحثاً من هذا لا يجدي ولا يقدم ولا يؤخر، في قيمة العمل الفني ثم ركنت الى حقيقة عظيمة، ليست في الأخوين رحباني وطبيعتهما بل في لبنان ذاته وفي كل قيم الحب والتوحد.

ففي قيم الحب لا تسأل: هذا يخص من من المحبين، لأن السائل والسؤال ليسا من طبيعة الموضوع بل من كون آخر.

وفي قيم التوحد والوحدة لا يسأل عن خصوصيات في هذا الواحد، او الآخر لأن كل خصوصية تفنى في كلية الواحد الأحد.

وفي قيم لبنان، كما في قيم الحق والخير والجمال، لا يسأل عن جبل بمفرده وشعب في محافظة، ونغم في جوقة وكر حسون في جنينة ارتادها مئات العصافير.

وأية قيمة للسؤال طالما ان الكل خرج من وحدة وهو يعود اليها، وان حاولت تفريغه الى اثنين وأكثر مئات المحاولات.

في العام 1959 وفي الجامعة اليسوعية، ورد كلام عن مائدة للأستاذ روبيار، أستاذ الرحابنة في الموسيقى، أسرّ به الى أحد الأصدقاء، وفيه كلام نبوءة، عن مستقبل الفنانين العظيمين، منصور وعاصي.

قال روبيار: جميع الموسيقيين والفنانين الشرقيين، توقفوا الآن أو سيتوقفون عند درجة معينة، رغم غزارة وعظمة الإنتاج الذي قدموه للموسيقى الشرقية، وسبب ذلك هو جهلهم أو عدم تفهمهم للألحان البيزنطية والسريانية خاصة.. أما الرحابنة فظاهرة فذة في الموسيقى الشرقية في القرن العشرين، فلم يتركا لا في الموسيقى، ولا في الشعر، وتراً في قلب إلاّ وحركاه. ومن ألحانهما نستنتج عمق إطلاعهما على التاريخ الموسيقي العالمي، وعلى المنحى التاريخي والأدبي والاجتماعي والفني، لهذه الموسيقى وعبقرية التكيف، بطريقة أن هذه الألحان، تصل الى السامع، بشكل يستشفها وينسجم معها.

الى جانب هذه الثقافة الموسيقية يتمتع الرحابنة بثقافة أدبية وتاريخية واجتماعية، قلّ نظيرها. فمنصور مطالعاته كمعدة الحجل، حسب تعبير مارون عبود، يلتهم أي شيء، ويهضم كل شيء وقد يذهلك بمعرفته وإلمامه العميقين بالتاريخ الكنعاني، والمصري والإسلامي، وبالشعراء والشعر العربي.

من الأدباء من نتمنى لدى قراءتهم أن تنتهي منهم، أما الرحابنة، فلا تملّ معهم من سماع أو حضور، وتتمنى، لو تستمر المسرحية، أو يستمر اللحن كي لا ينتهيا هم منك.

عالمهم عالمك الذي تتمناه، إنهم من هذه الأرض، وتشعر معهم بوصال الأزمنة، فلا الماضي معهم منقطع عنك، ولا كذلك عالم المستقبل.

إن جيل الحرب لا يعرف إلاّ الحرب وشؤونها، فكيف تعرف الى الرحابنة كأن الحرب كانت إلغاء للماضي كله فكيف بقي الرحابنة في الساح؟

كان صوت الرصاص يمزّق بيروت، ولحن كان يعلو كل الأصوات والمدافع، وكان الرحابنة في إذاعة ووراء أو أمام كل نشرة أخبار.

لو تعرف يا منصور، كما بذلنا من المحاولات لإعادة التعرّف الى وجوهنا وأشياء طفولتنا، وأحلام شبابنا، وبارق الأمل في نظرات شيوخنا، ولكن لحناً للرحابنة، أو نغماً أو شعراً، كان، وبفعل السحر يمحو فينا هذا الصدأ، ويردنا الى حيوات التواصل، وهنيهات تجعلنا نحسب، أن ما كناه بالأمس، بإمكانه أن يشكل فينا التحدي، كي نستعيد إطلالتنا وانطلاقنا.

أقول هذا في كل إنتاجك، وأخصه بمسرحيتك "الوصية ـ وصيف 840 ـ والمتنبي ـ وآخر أيام سقراط وعودة الفينيق".

في الوصية: أن بشراً، عاديين جداً من أبناء الجبال والأرياف، يعالجون مواضيع غير عادية إلاّ على من اعتاد معرفة أشياء البشر ومسار التاريخ. إنها السذاجة والأسطورية، تسبق بحدسها كل علوم التوقعات. إنها مسرحياتك تتوقع اللامتوقع، فتعرف مسبقاً كيف ينهار التاريخ بواسطة المفاجآت، لترى كيف يكون سكون بعد هذا الانهيار.

آه يا منصور، دعني أقول معك، سيكون في الشرق سلام، ولكنه سيكون خارج إطار كل التوقعات، عنيتُ كل الاتفاقات والمبادئ والأسس والإمضاوات وبوس اللحى.

أقول معك، سيكون السلام في لبنان، ولكن خارج أطر الحكم والحكام كأن السلام في طبيعته وأجوائه، ليس مادة حكم بقدر ما هو طبيعة في عقلية، وإرادة في شعب، ومجلى من مجليات الروح، وأفق نبوي، العبادة فيه، مخصصة لا للمال والأعمال، بل الى ما يشدّ الإنسان صوب الفوق ويتعالى.

أقول هذا، وأظنني أخطئ في الكثير، لأن مداك في الرؤيا النبوية على سعة ما في موسيقاك تلمح وتسري، في ما المدى واسع والاتجاه صحيح.

ويبقى أخيراً، أن الشرق، وروح الحضارات فيه، لم يتمثلا بوجه حاكم، أو بطبيعة في نظام حكم، بل كان فيه، الأنبياء يدينون الأفعال، ويقبضون بروح الوحي على مسارات التاريخ.

سقطت العروش، وبقي كلامهم لا محمولاً في الرجع والصدى، بل في حنايا القلوب ومحاريب المعابد.

لكم يحلو لي، يا منصور، أن أسمع منك كلمات الدينونة، يخفف من وقعها في مسمعي وفي رهبة الوجدان، وقع وقدر من الموسيقى وكل زهور الشعر والأطياب.

منصور تغادرنا، كيف؟ ولبنان اليوم ينضح بعودة "الفينيق".

تلفزيون لبنان يستعيد حلقة رحبانية بُثَّت قبل 40 عاماً: الله معك يا هوانا...

يقظان التقي

اسم البرنامج: "حنكشيات منوعة".

المناسبة: ذكرى وفاء للاخوين رحباني.

الزمان: الخميس في الرابعة والسادسة مساء.

إعادة بث حلقة على تلفزيون لبنان منذ أربعين سنة.

الشخصيات: عاصي الرحباني، منصور الرحباني، فيروز، صبري شريف، جان بيار دوليفير، هدى، نصري شمس الدين، نجيب حنكش، عبد الحليم كركلا والمذيعة جان دارك فياض الى أعضاء مسرحية "ناس من ورق" وآخرين.

من بين كل القنوات وبرامج التلفزيون كانت الصورة أمس على الشاشة الرسمية (تلفزيون لبنان) الاكثر حنيناً والاكثر رومنطيقية. صورة رائعة تأتي من زمن بعيد، من أربعين سنة وأكثر، من زمن كلاسيكي جميل، من زمن طويل وطويل عشية عرض المسرحية الغنائية "ناس من ورق" في البيكاديللي!

رأيت صورة أمس تجمع الكبار، العصب الرحباني، الصافي والودود واللبق والمتواضع في واحد من برامج تلفزيون لبنان الذي كان نجيب حنكش يديرها والتي شارك فيها الاخوان رحباني الى اسماء أخرى وكانت جان دارك تقدمها بتقاطع مع اسكتشات ومقاطع غنائية ونكات وطرائف ومقابلات.

بالصورة الجميلة التي تأتي من زمن طويل على تواضعها ودفئها وطرافتها، ويا لنقاوة ذلك الزمن الجميل: منصور الرحباني بقامته الطويلة وبلاغته في الشرح ولباقته وبورتريه عاصي الرحباني في تواضعه وخجله وألقه ودفء وحميمية صوته، الى فيروز التي تتغنج "أنا بعرف غنيّ"، الى ألق الشباب عند هدى وتجدد الشباب مع ايلي شويري ومروان محفوظ، الى دماثة أخلاق وطواعية نصري شمس الدين وصوته الهائل، وتموضع صبري الشريف وسط العائلة...

لغة جميلة ومضمون اجمل افضل بكثير الكثير من لغة اليوم وكل برامج المنوعات التي تقدم بعد 40 سنة حضوراً غامراً، ابداعاً فنياً. الفن كله امام الكاميرا، أداءات حية تمثيلاً وغناءً. غناء على الورق واسكتشات مباشرة كأنها في الهواء الطلق بين نصري وهدى، ونصري وفيروز، ومروان وإيلي شويري وهدى.

حتى صورة الكاميرا لا تقل حناناً، تتحرك الكاميرا في فضاء واسع، الى الامام، والى الوراء، فضاء مفتوح، صورة تؤدي دوراً وتتحرك مع الجميع، الى نكات حنكش التي لا تترك شأناً بين حوارات قصيرة طريفة، صريحة.

صورة مهمة عن برامج الامس بديكور حيّ. كان زمناً كريماً جداً، يتحدث صبري شريف عن موازنة عالية على الملابس و7 فساتين وأكثر للسيدة فيروز وحدها يقدمها مع كل اسكتش أو أغنية مع مصمم الازياء الارمني الشهير جان بيار دوليفير.

الاهم طريقة الحوارات التي جرت والاداءات المباشرة والسيناريو التمثيلي التمهيدي قبل العرض ومرونة جان دارك وضحكات تروح وتأتي بعفوية كاملة، الى التواضع الغامر الذي يلف حديث عاصي ومنصور عن فنهما، او نظرتهما الى الفن.

صورة كبيرة لكبار في الفن اللبناني وطريقة تعبير مذهلة من 40 سنة، أين منها برامج اليوم، ومنوعات اليوم والادعاءات والمغالطات والمبالغات والصراخ والحوارات التي لا طائل منها والميديا الاعلامية التي تجري تلفزيونياً تصنع نجوماً بالصورة فقط.

رأيت أمس فيروز قبل ان تجري عملية تجميل لأنفها، وسمعتها تحكي بطريقة وأخرى مقتصدة وبطريقة تعبير وتحويل الى صورة ايتونوغرافية قبل ان تغني غناء Life "الله معك يا هوانا يا مفارقنا" بطريقة سحرية رائعة.

تدخل صورة هؤلاء المبدعين الى الذاكرة، تتحول الى حصة مدرسية للكبار والصغار في منازلهم، خلف الشبابيك والابواب المغلقة. هذا هو عاصي هذا هو منصور، هذه هي هدى، هذا هو نصري. هذا هو حنكش بطريقة تعبيره الرائع وهذا هو عبد الحليم كركلا الحقيقي الحقيقي بخطوات فرقته كتحفة فنية راقصة للمشاهدة.

شاهدت الحلقة كاملة، لو عاد بنا الزمن الى الوراء أكثر. انتباه الى المحطة الاهم، شعور بالحنين الى المنجز الذي أعاد ترميم ارشيفه بذكاء وحنكة ودراية لامعة من قبل فؤاد نعيم وجاد كلود بولس.

لو يعاد ترويج هذه المادة على كل المحطات بطريقة وأخرى، بميديا جديدة وأخرى.

صورة تلفزيونية لا توازيها غالبية برامج اليوم المستهلكة والتافهة، لأنها صورة الامس، الناس تمشي وراءها عصراً بكامله لأنها بكل بساطة ناس حقيقية ومبدعة.

يا للمفارقة!

تعليقات: