عبد الباري عطوان
لا نعرف كم من الاطفال والنساء تحتاج اسرائيل الى قتلهم وتمزيق اجسادهم بقذائف دباباتها وصواريخ طائراتها حتى تروي ظمأها، وتوقف عدوانها الوحشي الحالي على قطاع غزة. فيبدو ان تجاوز رقم الضحايا حاجز الألف شهيد، وخمسة آلاف جريح ليس كافيا، فهناك تعطش للمزيد.
ولا نعرف ايضا كم سيحتاج الزعماء العرب من الوقت حتى يتحركوا من اجل انقاذ كرامتهم، او ما تبقى منها، هذا اذا تبقى شيء، قبل الاستجابة لنداءات الثكالى، وأنين الجرحى، وصراخ الاطفال المرعوبين من القصف الاسرائيلي المتواصل.. ثلاثون يوما، اربعون يوما، ام عدة اشهر؟
عشرون يوما، والحكومة المصرية تتفاوض مع نظيرتها الاسرائيلية على مبادرة مهينة، تحقق للمعتدي كل ما يتطلع اليه من اهداف، ومع ذلك يتدلل، ويطلب المزيد من التنازلات والدماء.
كنا نتطلع الى قمة عربية حاسمة، تعكس تحركا عربيا رسميا يوظّف إمكانات هذه الامة، وهي كثيرة ومؤثرة، لوقف هذا العدوان، فانتهينا بثلاث قمم، هبطت علينا دفعة واحدة، اولها خليجية انعقدت فعلا في الرياض امس، والثانية طارئة بايعاز من معسكر دول الممانعة، جرى اجهاضها بشكل مؤسف، وكان من المقرر ان تبدأ اعمالها اليوم، وثالثة قادمة ستكون الكويت مسرحها يوم الاثنين المقبل.
دول ليست لها علاقة بالعروبة، ولا تنتمي الى العقيدة الاسلامية انتصرت لاستغاثات الضحايا في قطاع غزة، وبادرت الى قطع علاقاتها فورا مع الدولة العبرية (فنزويلا وبوليفيا)، بينما ما زالت الاعلام الاسرائيلية ترفرف، في استفزاز غير مسبوق، في اكثر من عاصمة عربية.
من يريد ان يتحرك لا يحتاج الى انعقاد قمم عربية، عادية او طارئة، فقط يبادر باتخاذ خطوات عملية، كل قدر امكانياته، حتى يترجم اقواله الى افعال، ويبرئ نفسه، امام الله ومواطنيه، من تهمة التواطؤ مع هذه المجازر التي نتابع تفاصيلها الدقيقة، ساعة بساعة، عبر شاشات التلفزة.
اعتقدنا ان ضخامة الفجيعة في غزة ستكون عامل توحيد للعرب والمسلمين، وكم كنا متفائلين سذج، فقد استخدمها البعض بطريقة بشعة لتعزيز هذا المحور في مواجهة ذاك، او العكس تماما، الامر الذي شجع اسرائيل وآلتها الدموية الجبارة على مواصلة عمليات التصفية والتطهير العرقي دون رادع.
تسيبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل قالت انها تخوض هذه الحرب نيابة عن معسكر المعتدلين العرب، ولخدمة اهدافهم في التخلص من 'ارهاب' حركة 'حماس' والفصائل الاخرى، ويبدو انها اصابت في اقوالها هذه، لان هذا المعسكر هو الذي يعرقل اي تحرك عربي فاعل، ويقوم بعضه بدور الوسيط المنحاز ضد بني قومه.
اهالي قطاع غزة الصامدون لا يريدون اكفانا يرسلها اليهم اشقاؤهم في عواصمهم المترفة، ولا خبزا، او حفنة ادوية، وانما الاسلحة، والمواقف العملية الرجولية، فماذا سيفعل هؤلاء بالخبز وهم يواجهون الموت في اي لحظة، ويهيم اطفالهم وسط انقاض البيوت المدمرة يبحثون عن امهاتهم بين ركامها ؟ .
الحكام العرب يفضلون شد الرحال الى قمة الكويت الاقتصادية، للاتفاق حول كيفية استثمار اموالهم وفوائضهم بشكل اكثر ربحية، وتنسيق المواقف لضمان اسعار افضل لنفوطهم، اما دماء اطفال غزة فتحتل مرتبة متدنية على جدول اولوياتهم، هذه هي الحقيقة المخجلة التي يبتعد الكثيرون عن ذكرها.
العالم الغربي الذي يدعم اسرائيل، ويوفر الغطاء الشرعي لعدوانها المتواصل، لا يفهم الا لغة المصالح. ومصالحه تنحصر في امرين اساسيين هما أمنه وجيبه، ومن المؤسف انه لا يوجد اي تحرك عربي او اسلامي، يهدد أيا منهما، لا من دول الممانعة ولا من دول الاعتدال، فقد تساوى الجميع في حالة العجز المزرية التي نراها حاليا بأم اعيننا.
السيد احمدي نجاد رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية ينتقد عجز الزعماء العرب المعتدلين، مثلنا تماما ككتاب ومعلقين، ولكننا لا نملك غواصات وصواريخ وحرسا ثوريا مثله، ولا نستطيع اغلاق مضيق هرمز في وجه الملاحة الدولية، فلماذا لا يفعل السيد نجاد وحلفاؤه شيئاً عملياً لتخفيف العدوان على أهل غزة؟ نستجديهم ان يقدموا على أي خطوات عملية، تثبت لنا انهم مختلفون عن الحكام العرب الآخرين المتواطئين مع العدوان الاسرائيلي.
ندرك جيداً انهم مستهدفون، وان العدوان على غزة هو مقدمة لعدوان قادم عليهم، ولا نريدهم ان يقعوا في مصيدة الاستفزاز الاسرائيلي، ولكن لا بد ان هناك اوراقاً في ايديهم يمكن استخدامها بفاعلية لاظهار تميزهم، وتأكيد مشاعرهم الوطنية الطيبة في دعم المقاومة وفصائلها المتعددة في هذه الحرب المصيرية.
من حقنا ان نسأل العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز ما اذا كان يشاهد اشلاء اجساد الأطفال في قطاع غزة مثلنا عبر شاشات التلفزة، واذا كان يشاهدها فماذا ينتظر، وهو خادم الحرمين الشريفين، والحليف الأوثق للولايات المتحدة والغرب، وصاحب مبادرة السلام العربية، وحوار الأديان؟
نوجه السؤال نفسه الى الرئيس المصري حسني مبارك الذي نعتقد انه على قناعة تامة بأن دور الوسيط الذي يمارسه حالياً هو افضل ما في جعبته، ونسي وهو قائد سلاح الطيران اثناء حرب اكتوبر المجيدة، ان دور مصر هو اشرف وأكبر من ذلك بكثير، ولكن يبدو انه لا يريد احدا ان يذكره بأبسط واجباته كعربي ومسلم، بل وكإنسان، فقد سدّ اذنيه واغمض عينيه عن كل هذه المناظر والصور التي تزعج حياته، وتنغّص عليه استمتاعه بها فيما تبقى له من سنوات العمر.
اما السلطة الوطنية في رام الله فقد باتت تتصرف وكأنها احد كانتونات النظام العنصري السابق في جنوب افريقيا، تراقب الامور من بعيد، وتكتفي بارسال المعونات الغذائية والطبية الى القطاع، ومساندة المبادرة المصرية لوقف الحرب. سلطة لم تمارس اي نوع من الضغط على اصدقائها في اسرائيل، بل على العكس من ذلك سهلت مهمة عدوانهم بقمعها للمظاهرات الاحتجاجية في مدن الضفة الغربية.
يتحدثون في رام الله عن معارضتهم لفصل الضفة عن القطاع، ويؤكدون انهم لن يعودوا الى غزة على ظهور الدبابات الاسرائيلية، فليثبتوا هذا عملياً، وليقدموا على خطوات فعلية تؤكد نواياهم، وليكونوا القدوة الصالحة للعرب الآخرين، من حيث حل هذه السلطة واعلان موت العملية السلمية التي يراهنون عليها، والعودة الى خيار المقاومة.
قطاع غزة وقع تحت الاحتلال الاسرائيلي مرتين، وهذه هي المحاولة الثالثة، وقدم الآلاف من الضحايا والشهداء، وخرج في كل مرة قوياً، منتصراً وعنيداً في تمسكه بالمقاومة وثوابته الوطنية، ومن المفارقة ان 'حماس' لم تكن موجودة في المرتين الأوليين، وانما الادارة المصرية التي آمنت بوحدة المصير، ورفضت الرضوخ للمشروع الاستعماري الاسرائيلي الغربي، واختارت الانحياز للشهامة والكرامة والقيم العربية والاسلامية العريقة.
الاجيال الفلسطينية المقبلة التي ستنهض من ركام هذا الدمار قطعاً ستكون مختلفة، وقد لا تقبل بما يقبل به الجيل الحالي، وتسعى للانتقام من كل الذين خذلوا آباءها، وتواطأوا مع العدوان، وتتعامل مع هؤلاء تماماً مثلما ستتعامل مع المعتدين، ان لم يكن اكثر. وعلينا ان نتذكر حلم وأمنية اسحق رابين بان يصحو يوما من النوم ليجد غزة وقدغرقت في البحر واختفت كلياً.
تعليقات: