من انتصر في الحرب على غزّة؟

سعد الله مزرعاني
سعد الله مزرعاني


بعد الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 على لبنان، ثار نقاش بشأن نتيجة الحرب. ثمة من رأى أن المقاومة قد حققت نصراً كبيراً رغم الخسائر والدمار. وكان هناك آخرون دافعوا، بلا أدنى تردّد، عن محصلة مغايرة، ترى في نتائج تلك الحرب خسارة كبيرة للبنان واللبنانيين. ولم ينفع في «تليين» موقف هؤلاء ما ساد في إسرائيل من مناخات الخيبة والإحباط واستقالة القادة السياسيين والعسكريين وتأليف لجنة «فينوغراد» للتحقيق في «إخفاقات الحرب»...

وبدأ يثور اليوم نقاش أوسع، بشأن نتائج حرب «العامين» (أواخر 2008 ـــــ أوائل 2009) الإسرائيلية ضد غزة وشعبها ومقاومتها. تدل كل الإشارات على أن هذا النقاش سيكون صعباً وحاداً وطويلاً. وفي لقاء عقد في القاهرة (بدعوة من «مبادرة الإصلاح العربية» وضم باحثين وصحافيين وكتّاباً سياسيين وممثلي بعض التيارات السياسية) عشية قرار الحكومة الإسرائيلية بوقف إطلاق النار من طرف واحد، قال أحد المشاركين: كيف يكون القتيل منتصراً؟ تهامس بعض الحاضرين بما يشبه الموافقة. ارتفعت أصوات مقابلة، تؤكد فشل إسرائيل في تحقيق ما أعلنته من أهداف لجهة إخماد مصادر إطلاق الصواريخ من غزة وتدمير بنية حركة «حماس» خاصة. كاد سجال حاد يبدأ في هذا الموضوع، لولا أن تدارك رئيس الجلسة مطالباً بالعودة إلى جدول أعمال النقاش الذي كان جوهره بحث بعض تجارب التعاون والتحالف بين تيارات سياسية متباينة، في عدد من البلدان العربية.

حجم القتل والدمار بشكل همجي وبربري، في غزة، وصور آلاف الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء ممن مزقتهم آلة الحرب الأميركية بيد الصهاينة، سيغري البعض بالجزم بأن لا شيء يعادل هذا الثمن، ولا انتصار يمكن الحديث عنه، إذا كان المقابل له كل تلك الخسائر والمجازر، وخصوصاً تلك التي كان ضحيتها الأطفال. قال كاتب أردني كان يجلس قريباً: «كنت كل بضع دقائق أسارع مذهولاً في منزلي في عمان، إلى سرير طفلي، أتفقده خشية أن يكون قد أصابه مكروه!». أتحدث هنا عن نوع من المواطنين ممن لا يذهب تحليلهم للأحداث إلى عمق ما يمليه الالتزام بمشاريع التغيير والانخراط في جبهات الكفاح من أجل تحقيقها. أي أتحدث عن مواطنين عاديين من أوساط عديدة ومتباينة في مستوى الوعي وفي الانتماء الاجتماعي... لقد كانت الصورة بالنسبة لهؤلاء، بما انطوت عليه من بشاعة وإجرام وأشارت إليه من تباين في القدرات والإمكانات، كافية للحكم المبرم بشأن من هو الرابح ومن هو الخاسر. وعزّز من هذا الاستنتاج، كل لحظة، ما لمسه المواطن العربي، من أن بعض «كبار» حكامه، إنما يمارسون سياسة التخلي أو العجز أو التواطؤ، لا فرق، ما دامت النتيجة واحدة: ترك غزة وشعبها ومقاومتها، وحيدين لا تحرك أشلاء أطفالهم بقايا من ضمير أو كرامة أو أخوة أو إنسانية. الواقع أنه، في امتداد تجارب أخرى، هنا أو هناك، يمكن ملاحظة أن ردة الفعل لدى المواطنين العاديين، إنما تتحدّد استناداً إلى المحاكمات البسيطة والمباشرة: هل تتناسب الكلفة والتضحية مع المردود؟ ويجب القول، استناداً إلى هذه المعادلة، أن أصحاب السطوة ومالكي زمام الجيوش القوية والمجهزة بآلات القتل والدمار، إنما يعولون على إرهاب المواطن العادي في سبيل تحقيق بعض (أو حتى كل) أهدافهم. وكذلك، فإنه في مجريات صراع عام وما يرافقه من انقسامات واصطفافات، يعمل فريق مستفيد، في سبيل الترويج لسياسات الخصم، عبر تسليط الضوء على عناصر الخسارة من جهة، وعبر تحجيم عناصر الربح أو تغييبها، من جهة أخرى.

هذا المسار العام للتعامل مع الصراعات وكلفتها ونتائجها، أمر ملازم لحدوثها منذ اندلاعها في الماضي السحيق وإلى يومنا هذا.

لا شك في أن الكلفة هي أحد أبرز العناصر في الحكم على النتائج. وقد تكون في بعض صيغ الصراعات، هي الإشارة الحاسمة في تحديد ذلك الحكم. فإذا تقاتلت قوتان وانهارت إحداهما تحت وطأة ضربات عدوتها، فتلك إشارة قاطعة إلى تحديد الخاسر والرابح من دون أي التباس. إلا أنّ هذا الأمر لا ينطبق على الصراعات المعقدة والطويلة، وخصوصاً منها التي تخوضها حركات مقاومة شعبية في سبيل استعادة أرض أو سيادة أو ثروة أو حقوق أو هذه جميعاً، كما في حالة الشعب الفلسطيني! ولعلَّ قراءة الأمور على طريقة «الفلاش باك» (أي الإعادة من آخرها)، تساعد في توضيح بعض ما نرمي إليه.

لا يجادل أحد اليوم في أن الشعب الفيتنامي قد انتصر على أعتى قوة في العالم ممثلة في الجيش الأميركي. وهو كان قد انتصر قبل ذلك على الاستعمار الفرنسي الذي كان بدوره يملك قوة هائلة، وخصوصاً بالمقارنة مع الإمكانات الضئيلة للثوار الفيتناميين. لكن هل يتذكر العالم اليوم، كم دفع الشعب الفيتنامي من الخسائر؟ هل يتذكر الكثيرون، كيف كان يشوي الطيارون الأميركيون الأطفال الفيتناميين بقنابل النابالم؟ هل بقي في الذاكرة كيف حرقت حقول وقرى ومدن ومدارس عن بكرة أبيها؟

إنّ اعتماد الكلفة مقياساً وحيداً للحكم على نتائج الصراعات، هو دعوة بريئة أو غير بريئة، مقصودة أو غير مقصودة، للاستسلام لمنطق القوة ولرغبات الأقوى!

في غزة، نقع على لوحة معقدة من تداخل الأهداف والمصالح والقوى، في صراع استعصى على الحلول، حتى الآن لسببين: رفض الصهاينة ومَن وراءهم، الإقرار ولو بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني. والثاني، هو تمسك الشعب الفلسطيني بهذه الحقوق، وإصراره على الكفاح من أجلها بوصف ذلك تعبيراً عن تمسكه بوجوده في أبسط شروطه وأكثرها تواضعاً.

إن وضع صراع غزة في هذا النطاق، سيقودنا حتماً، وبعيداً عن العواطف والأغراض، إلى حقيقة أن محصلة معركة غزة، قد عمّقت من الشعور بعدالة القضية الفلسطينية، وأعادت هذه القضية إلى مقدمة الاهتمام بعد محاولات طمس وتغييب، وفضحت أكثر من أي وقت مضى الداعمين والمشاركين والمتواطئين والعاجزين... وكان من بعض نتائج ذلك، ما أقدم عليه الملك السعودي من نقد ذاتي في خطابه في قمة الكويت، الذي صيغ بطريقة مؤثرة، تعبيراً عن تحوُّل فرضه فقط صمود غزة وأهلها ومقاومتها من جهة، وجسامة الجريمة الصهيونية (مقرونة بفشل المراهنات أيضاً)، من جهة ثانية. في مجرى هذا الصراع التاريخي المستعصي حتى الآن، والممتد والمفتوح، لا تقاس النتائج فقط بالخسائر المادية، بل بالأساس بالمحصلات السياسية. وتضاف إلى ذلك نتائج لا تقل أهمية في استنفار «الشارع العربي» مرة جديدة ضد الإجرام الصهيوني وضد داعميه وضد المتواطئين...

إن الهبة الشعبية هي عامل مهم في حسابات الربح والخسارة. ويدرك المغرضون أهمية التحرك الشعبي العربي في إطلاق إشارات مقلقة لأنظمة التواطؤ مع العدوان، بل الشراكة فيه إلى حدّ بعيد.

وحتى بالنسبة إلى الأهداف المباشرة في إخماد المقاومة ومنع إطلاق الصواريخ فقد فشل العدو في ذلك! أما النجاح الباهر في قتل الأطفال وفي استهداف المدنيين وفي استعمال الأسلحة، فذلك سيف ذو حدين. وقد بدأ بعض الإسرائيليين يدركون ذلك لجهة أن البادئ سيكون أظلم! وليس بدون معنى في هذا الصدد أن إحدى أكبر الجمعيات الحقوقية الإسرائيلية قد نعت على صفحة كاملة في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، 335 طفلاً فلسطينياً تحت عنوان «كفى»!!

بدورها قرّرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن إسرائيل قد «فشلت في تحقيق أهدافها» من وراء الغزو، وطالبتها باعتماد سياسات جديدة حيال الفلسطينيين.

في أمثالنا وحكمنا المتوارثة أنّ الشرف الرفيع يسلم بإقامة الدم، وأن الشهيد يحيا في يوم مماته، وأنه لا بدّ «دون الشهد من إبر النحل»، وأن القضايا الكبرى لا يمكن إلا أن تسقيها أنهار أكبر من الدماء: هل يتعظ بعض الفلسطينيين ممن تخلفوا عن مواكبة بطولات شعبهم العظيم وتضحياته؟ هل يرتفع حملة أفكار التغيير وشعاراته، إلى مستوى دماء أطفال غزة؟

* كاتب وسياسي لبناني

تعليقات: