أم رياض على مصطبة بيتها المتواضع في كفرشوبا
قلّما تورد كتب التاريخ قصصاً لبطولات فردية، وخصوصاً من بين النساء. إلا أن أهالي المناطق التي قاومت الاحتلال يكرّرون يومياً قصص أبطال يعيشون بينهم، باتت من بديهيات حكايات القرى الجنوبية المتاخمة للعدو. من هؤلاء ديبة علي عبد الحميد التي تختصر قصتها وزوجها أحمد عبدو خليفة جزءاً من التاريخ المقاوم لمنطقة العرقوب، منذ الانتداب الفرنسي حتى الاحتلال الإسرائيلي وصولاً إلى التحرير
98 عاماً هو عمر ديبة علي عبد الحميد. رغم ذلك لا تزال تتمتع بذاكرة خصبة تجعل من الساحة الفسيحة التي تتقدّم منزلها المتواضع في بلدة كفرشوبا محطة لأهالي العرقوب، ولكثير من الصحافيين الذين اعتادوا زيارة «المقاوِمة» أم رياض، كما هو اسم شهرتها في المنطقة.
تحت سنديانة معمّرة، وضعت أم رياض أريكتين خشبيتين اعتادت استقبال ضيوفها عليهما. تبدو كأنها اعتادت محادثة الصحافيين، فتسرد بلباقة وبدقة متناهية أحداثاً ووقائع، مبدية حرصها على إيراد التواريخ.
ولدت «أم رياض» في بلدة كفر حمام عام 1910. تعلّمت قليلاً كغيرها من أبناء القرى تحت سنديانة الضيعة إلى أن تزوجت من أحمد عبدو خليفة، وانتقلت معه إلى بلدته المجاورة كفرشوبا، حيث كوّنا عائلة من ثمانية أولاد.
تختصر أم رياض هذه المرحلة بالترحّم على أيام زمان، ولا سيما في ما يتعلّق بالوضع الاقتصادي. آنذاك كان أهالي العرقوب يكتفون بالزراعة في مزارع شبعا ليحصلوا على غلال وفيرة. تقول أم رياض إنهم كانوا يقايضونها بسلع أخرى مع تجار يأتون إلى سوق الخان، أو في أسواق شعبية أخرى كانت تقام في القنيطرة وحوران وصفد ودرعا.
لكنّ الوضع تغيّر في أواخر ستينيات القرن الماضي، بسبب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاعتداءات اليومية التي كان يتعرّض لها لبنان قبل الاجتياح الأول في عام 1978. منذ ذلك الوقت، تؤرّخ أم رياض بداية معاناتها مع الاحتلال وعملها المقاوم «البديهي»، هي التي لم تغادر البلدة يوماً واحداً طيلة فترة الاحتلال التي استمرّت حتى عام 2000.
لا تنفي أم رياض أنها حاولت مراراً زيارة الأراضي اللبنانية المحررة لزيارة أبنائها وأحفادها الذين هجّرتهم قوات الاحتلال وعناصر الميليشيات المتعاملة معهم: «جوبه طلبي بالرفض أكثر من مرة بحجة قيامي بنقل معلومات لمقاتلي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية».
الحجة نفسها جعلت من المنزل هدفاً يومياً لميليشيا جيش لبنان الجنوبي، يقصده عناصرها دورياً للتفتيش وأحياناً للمداهمة، ظناً منهم أنه يحوي أسلحة لجبهة المقاومة. تتذكر اعتداءاتهم بألم: «صادروا مني مبلغاً من المال، هددوني مرات عدة، وكنت دائماً أحمّلهم مسؤولية سلامتي. كانوا يحضرون أسبوعياً لأخذ إفادتي وتهديدي بإقفال البيت بالشمع الأحمر. وللضغط عليّ، اعتقلت قوات الاحتلال ولدي عبد الناصر ونقلته إلى معتقل أنصار ومنه إلى سجن عتليت داخل فلسطين المحتلة، حيث أمضى سنة كاملة».
ظلّت أم رياض تتعرّض لهذه المعاملة، رغم سنّها المتقدم، حتى الأيام القليلة التي سبقت التحرير. تذكر جيداً ما حصل: «كان إنذارهم الأخير لي قبل التحرير بأيام، قالوا لي إنه عليّ إحضار شاحنة لأنقل محتويات المنزل ومغادرة البلدة بأسرع وقت ممكن، لكني لم أوافق وقررت الصمود وعدم المغادرة». لا تخفي أنها توقعت الأسوأ: «فضّلت الموت شهيدة في البيت على ترك البلدة والنزوح».
روح المقاومة هذه تعلّمتها أم رياض من زوجها عبدو خليفة، الذي لا تغيب سيرته عن طيّات حديثها. تحرص ديبة على القول إن زوجها قاوم الفرنسيين لمدة طالت أكثر من عقدين، وإنه من الذين قادوا الثورة في حاصبيا والعرقوب ضد الاستعمار، حتى صدر حكم بالإعدام بحقه. وعندما وقع عبدو في الأسر عام 1927، اقتيد مكبّلاً للمحاكمة في جبل لبنان، «وهناك أصدر الحاكم العسكري الفرنسي حكمين بإعدامه».
بعد عدة وساطات، خُفض الحكم إلى السجن مدى الحياة، ومن ثمّ إلى 18 سنة، قضى منها 15 في سجون الجيش الفرنسي في صيدا وبعبدا وبيت الدين وراشيا الوادي، ليعود إلى الحرية في عام 1942 ويرحل عن هذه الدنيا في أيار عام 1965 بصمت وهدوء. خلال هذه المرحلة، تحمّلت أم رياض وحدها مسؤولية إعالة العائلة وتربيتها، وكان عليها تدبّر الأمر رغم احتلال إسرائيل لمزارع شبعا التي كانت تمثّل مصدر الرزق الوحيد لها.
يعتزّ رياض، الذي شارك في الجلسة، بوالديه. يقول عن والدته إن ثوب الشيخوخة الذي ألبسها الزمن إياه لم يحدّ من نشاطها ومتابعتها للأحداث: «لا تزال تشاهد التلفزيون وتتابع الأخبار بدقة، تُناقشنا وتسأل عما لا تعرفه، كما تبدي رأيها في الاستحقاق الانتخابي المقبل». يكرّر رياض بفخر ما ترويه والدته: «عائلة أم رياض متحدرة من أصول مجاهدة ضد الاستعمار الفرنسي والاحتلال الإسرائيلي. هذه الروح ستبقى ثابتة فينا لتحقيق العدالة الاجتماعية» يقول.
أم رياض التي عاشت وحيدة في منزلها طيلة ربع قرن من الزمن تعيش، منذ التحرير، مع أولادها. تمضي بعضاً من وقتها في حديقة صغيرة، وتعمل قدر المستطاع في زراعات بسيطة مؤكدة حبها للأرض التي طالما تمسكت بها.
تعليقات: