الارتفاع الخيالي في أسعار الشقق إلى تراجع لكن بنسب ضئيلة..
شكل الائتمان العقاري احد الاسباب الرئيسية للأزمة المالية العالمية. وباقي تفاصيل القصة باتت معروفة بعدما تصدرت اهتمامات وسائل الاعلام والصحف العالمية والعربية والمحلية. وأبدى اللبنانيون، شأنهم شأن الآخرين، اهتماماً بالشأن الاقتصادي العالمي صرفهم لبعض الوقت عن متابعة قضاياهم المعيشية. وكان السؤال البديهي الذي قفز الى الأذهان حول مدى انعكاس هذه الازمة محلياً وتأثيرها على الاقتصاد المحلي الذي يعاني ما يعاني منه من اختلالات بنيوية. وسرعان ما جاءت التطمينات بأن لبنان بمنأى عن الازمة، وبأن عملته ثابتة، واقتصاده مستقر. ولكن ماذا عن السوق العقارية، فهل ستبقى تعاند التغيرات العالمية وتحافظ على اسعارها التي كانت تحلق عاليا في النصف الاول من العام الماضي؟
يتمنى اللبنانيون لو ان الازمة المالية العالمية ارخت بظلالها على السوق العقارية المحلية حصراً، لعل ذلك يؤدي الى انخفاض سعر الشقق السكنية التي شهدت ارتفاعا خيالياً في اسعارها خلال العام الماضي. ولكن مصائب قوم لم تتحول عند قوم فوائد. وحافظت اسعار العقارات على ثباتها وخصوصاً ان لبنان نجح حتى اللحظة في تجنب تداعيات الازمة لتكون المرة الاولى التي لا يكون له" عرس في كل قرص".
ورغم ان السوق العقارية اللبنانية تشهد حالياً هدوءاً، وهي الصفة التي ارتأى الخبراء استخدامها في تحديد اوضاع الاستثمار العقاري بدلاً من صفة جمود التي لا تتسم برأيهم بالدقة المطلوبة، فان الحال لن تطول كثيرا قبل ان تستعيد السوق نشاطها الطبيعي. ذلك ان أسباب هذا الهدوء ليست انعكاسا علميا للأزمة المالية العالمية، بل هي ناتجة عن تخوفات المواطنين من ان تطاول تداعيات الازمة لبنان في المستقبل القريب في ظل الحديث عن ان آثار الركود الاقتصادي العالمي ستتجلى بشكل كبير خلال السنة الحالية. لذا، فهم يفضلون الاحتفاظ بالسيولة بدلاً من استثمارها في السوق العقارية حتى ولو كانت الغاية شراء شقة سكنية للاستخدام الشخصي. من ناحية ثانية، يراهن الناس على انخفاض اسعار العقارات بنسبة قد تصل الى 30 في المئة انطلاقا من ان الاسواق العقارية شهدت انخفاضات حادة في معظم دول العالم ولا بد ان ينسحب الامر على لبنان، والتأخر الحاصل على هذا المستوى مرتبط، برأيهم، بجشع التجار وطمع المطورين وليس بالسعر الفعلي للعقار.
القروض السكنية
ولكن يبدو ان نسبة التروي في الاقبال على شراء العقارات كانت هامشية ولا سيما في الشق المتعلق بالشقق السكنية التي يقتنيها المواطنون بهدف السكن وليس المضاربة العقارية. هذا ما عكسته حركة الطلبات المقدمة الى المؤسسة العامة للاسكان بهدف الحصول على قروض سكنية.
يشير رئيس مجلس ادارة المؤسسة العامة للاسكان عبدالله حيدر الى ان "المؤسسة العامة للاسكان لم تتأثر بالأزمة المالية العالمية، واستمر الاقبال على طلب قروض سكنية وفق الوتيرة عينها. وبلغ عدد الطلبات خلال شهر كانون الثاني 425 طلباً، علماً انه لا يمكن اعتماد هذا الشهر مقياساً نتيجة ارتفاع ايام العطل الرسمية فيه، وانصراف المصارف والمؤسسات الى وضع موازناتها السنوية. لذا، من المتوقع ان يتراوح عدد الطلبات المقدمة اعتباراً من الشهر المقبل بين 500 و600 طلب شهرياً، بمعدلات العام الماضي نفسها. وكانت المؤسسة قد منحت خلال عام 2008، 6 آلاف ومئتي قرض موزعة على مجمل المناطق اللبنانية مع وجود تفاوت بين منطقة واخرى ربطاً بفرص العمل، وحركة العرض والطلب، في حين بلغت قيمة المبالغ التي دفعتها المصارف اللبنانية المتعاقدة مع المؤسسة خلال العام الماضي نحو52 مليار ليرة لبنانية، اي ما يعادل 350 مليون دولار".
ويلفت حيدر، في المقابل، الى ان "المصارف اللبنانية المتعاقدة مع المؤسسة العامة للاسكان اتجهت بعد بدء الازمة المالية العالمية الى مزيد من التدقيق في ملفات المقترضين بعدما كانت وتيرة المنافسة بين هذه المصارف قد ارتفعت في الآونة الأخيرة بهدف استقطاب مزيد من الزبائن، مما دفع بعضها الى تقديم حوافز مثل الاستغناء عن الشرط الذي يفرض على طالب القرض تأمين الدفعة الاولى من ثمن الشقة، او اعفاء المقترضين من بعض الرسوم وسواها من الحوافز التي انعكست ايجاباً على حركة الاقتراض والمقترضين".
يصعب تحديد اتجاه السوق العقارية بالمطلق ربطاً بالازمة المالية العالمية من خلال رصد حركة الطلبات المقدمة الى المؤسسة العامة للاسكان، ذلك ان الذين يستفيدون من خدمات هذه المؤسسة هم الموظفون أصحاب الدخل المتوسط وما دونه، واللبنانيون المقيمون في الداخل وليس المغتربين. غير ان التحليل العلمي للوضع العقاري في لبنان يخلص الى التأكيد ان العقارات في لبنان لم تتأثر بهذه الازمة في ظل وجود جملة عوامل حيّدت السوق المحلي وحمته واهمها، وفق ما يؤكد مدير عام شركة "رامكو" للاستثمارات العقارية، رجا مكارم:
"- عدم ارتباط القطاع العقاري بالقطاع المصرفي،
- احجام الخليجيين عن الاستثمار في السوق العقاري اللبناني إثر حرب تموز 2006. وكانت آخر الاستثمارات المهمة، في هذا الاطار، قد حصلت في النصف الاول من العام عينه. وكانت عبارة عن مشروعين مساحة كل واحد منهما نحو 200 الف متر مربع.
- بعد انحسار الاقبال الخليجي، اصبح 90 في المئة من المشترين، لبنانيين مقيمين او مغتربين. اما الغاية من الشراء، فهي الاقامة الدائمة او الموسمية، مما يعني ان المضاربة العقارية كانت ضئيلة جداً قبل بدء الازمة المالية.
- معظم عمليات البيع العقاري كانت تتم نقداً وخصوصاً ان المصارف كانت تبدي تحفظاً كبيراً ازاء منح القروض. ولم تصبح التسهيلات المصرفية شائعة إلا قبل ثلاثة اعوام.
- رفض المصارف اقراض المطورين العقاريين اموالاً لشراء الارض، اي كان على هؤلاء ان يمكلوا الارض اولاً حتى يحصلوا على التسهيلات المصرفية والتمويل اللازم لبناء المشروع.
- اعتبارا من العام 2000، ارتفع الطلب على الشراء مع استنزاف المخزون العقاري، مما اتاح للمطورين ان يبيعوا الشقق السكنية قبل البدء بتنفيذها، وهو ما يعرف بـ"البيع على الخارطة". وارتفعت نسبة هذا النوع من البيع لتلامس الـ50 في المئة، مما اتاح للمطورين الاستغناء عن القروض المصرفية لتمويل مشاريعهم العمرانية وخصوصاً ان معظمهم كان ينجح في بيع 90 في المئة من الشقق السكنية قبل انجازها".
اسعار خيالية
اذا كان لبنان قد نجح موضوعيا في تجنب تداعيات الازمة المالية العالمية على السوق العقارية تحديداً، فهذا لا يعني ان ارتفاع اسعار العقارات الذي بدأ يحلق عالياً بعد انتهاء حرب تموز2006 ليلامس حدوداً غير منطقية خلال العام الماضي، أمر صحي وله مبرراته الاقتصادية. ففي حين كان القطاع العقاري يرتفع بمعدل 30 في المئة سنوياً، شهد ارتفاعاً غير منطقي في الاشهر الثمانية الاولى من العام الماضي وصلت نسبته الى حدود 50 في المئة، وذلك نتيجة طلب اللبنانيين المتزايد واقبالهم الكثيف على الشراء، مما دفع عدداً من المطورين الى رفع الاسعار مستغلين حاجة الناس للحصول على شقق سكنية. والمفارقة، ان انخفاض اسعار مواد البناء عالمياً وتراجع سعر الأورو مقابل الدولار، لم يكبح جماح الاسعار انطلاقاً من ان سياسة العرض والطلب هي التي تتحكم في السوق بغض النظر عن اي عوامل أخرى تبدو ثانوية في موازاتها.
يشرح نقيب المهندسين بلال العلايلي الاسباب التي حالت دون تراجع اسعار الشقق السكنية ربطا بانخفاض مواد البناء عالمياً لافتاً الى ان" المتر المربع الاجمالي يتألف من جزئين هما: متر مربع الهواء ويتضمن العقار الذي يرتفع عليه البناء، ومتر مربع البناء الذي يشمل مواد البناء (حديد وترابة وخشب ونحاس وسواها) واليد العاملة. صحيح ان مواد البناء انخفضت عالمياً، لكن قابلها ارتفاع في سعر اليد العاملة الماهرة التي اختارت الذهاب للعمل في الدول الخليجية حيث تتقاضى أجراً أعلى مما تتقاضاه في لبنان. وهذا يعني ان انخفاض اسعار مواد البناء من جهة وارتفاع سعر اليد العاملة من جهة ثانية، ابقيا سعر متر البناء في لبنان على ما هو عليه.
اما بالنسبة الى سعر متر الهواء، فمن المستحيل ان يشهد اي انخفاض في ظل ندرة العقارات التي يقابلها ارتفاع كبير في الطلب عليها في المدن عموما وفي بيروت خصوصاً. لذا، فان السوق العقارية في لبنان مرشحة اما للمحافظة على ثباتها واما الى الاتجاه صعوداً ولكن بنسبة معقولة تتراوح بين 10 و15 في المئة".
ندرة العقارات
ينطلق رئيس جمعية منشئي وتجار الابنية في لبنان ايلي صوما من المعادلة عينها في تحليل وضع السوق العقارية في لبنان، مشدداً على ان "ندرة العقارات لن تساعد اطلاقاً على انخفاض سعر الشقق السكنية. اذ ان تشييد اي بناء جديد يتطلب هدم بناء آخر". لذا، يرى صوما ان الاسراع في تنفيذ مشروع "اليسار" في منطقة الاوزاعي ضروري بهدف توسيع المساحة العقارية في بيروت بما يساهم في خفض اسعار المتر المربع الاجمالي او الوهمي وفق التعبير الفني ".
ولكن يبدو ان المواطنين بدأوا اخيراً يتململون من الجنون الذي اصاب اسعار العقارات، واحجموا اعتباراً من الثلث الأخير من العام الماضي عن الاقبال على شراء الشقق السكنية بعدما شعروا ان اسعارها اصبحت غير منطقية، علماً ان "المؤسسة العامة للاسكان عمدت في آذار الماضي الى رفع قيمة القرض من 80 الف دولار الى 120 الف دولار تماشياً مع حاجات السوق وارتفاع اسعار الشقق السكنية"، وفق ما يؤكد حيدر، الذي توقع ان يبلغ عدد القروض التي ستمنحها المؤسسة هذه السنة 6 آلاف و200 قرض، اي كما كان الحال في العام الماضي. وهذه هي الحدود القصوى التي يمكن ان تصل اليها المؤسسة".
لا يمكن، كما هو معلوم، ان يستفيد جميع المواطنين من تقديمات المؤسسة العامة للاسكان لأسباب مرتبطة بقوانين المؤسسة وشروطها. لذا، فان الارتفاع الفاحش في اسعار العقارات أدى، وفق ما يشرح مكارم، الى "تعريض معادلة العرض والطلب الى انتكاسة فعلية تزامنت، لحسن الحظ، مع خروج الازمة المالية العالمية الى العلن اعتباراً من شهر ايلول الماضي، مما ساهم في لجم حركة الجنون في السوق العقاري المحلي. وكانت الاصوات المطالبة بخفض أثمان الشقق السكنية تماشياً مع كلفتها الفعلية، واجراء تصحيح في اسعارها لا تقل نسبته عن 15 في المئة قد بدأت تعلو، مما اجبر عدداً قليلاً من المطورين على الرضوخ الى هذه المطالب. غير ان التصحيحات طالت الشقق السكنية وليس الاراضي التي بقيت اسعارها تحلق عالياً، وخصوصاً ان عدد الاراضي الى تناقص في وقت لا يزال الطلب عليها مرتفعاً".
انتج هذا الصراع بين المطورين والزبائن جموداً او بالأحرى هدوءاً في السوق العقارية. اذ ان المطورين لا يزالون يراهنون على بيع الشقق رغم ارتفاع سعرها، في حين يراهن الزبائن على انخفاض اسعارها، اي ان كل طرف ينتظر الطرف الآخر لاتخاذ المبادرة التي لا بد ان تنتج في نهاية المطاف تصحيحاً في وضع السوق العقاري يؤدي الى هبوط الاسعار بنسبة بين 10 و20 في المئة.
وتجدر الاشارة هنا الى وجود نوعين من العقارات: العقارات التي تبنى بتمويل ذاتي والتي لا تتأثر بالازمة المالية ولا يمكن تالياً ان ينخفض سعرها الا في حال قرر المطورون التزام اجراء التصحيحات اللازمة في اسعارها. والعقارات التي بنيت بتمويل مصرفي والتي قد تنخفض اسعارها وخصوصاً ان المطور سيحتاج الى سيولة لاستكمال مشروعه او الايفاء بالتزاماته الملية ازاء الجهة الدائنة.
ولا يمكن على هذا المستوى إهمال الوضع المادي للزبائن المحتملين الذين قد يتأثرون بالأزمة المالية العالمية وخصوصاً ان نسبة اللبنانيين المغتربين الذين يقبلون على شراء الشقق السكنية ترتفع الى 60 في المئة بحسب عدد الرخص الصادرة عن نقابة المهندسين، وفق ما يؤكد العلايلي، الذي يتوقع ان "تنخفض هذه النسبة 10 في المئة فقط ربطاً بالاوضاع المالية لهؤلاء الذين قد يخسرون وظائفهم في الخارج". ولكنه يتوقع، في المقابل، ان يجري تعويض هذه النسبة من خلال ارتفاع نسبة المقيمين الذين يسعون الى شراء شقق سكنية، علماً ان نسبة العرب الذين يتملكون لاغراض السكن تبلغ 28 في المئة".
صيف واعد
تشير كل الدراسات والتوقعات الخاصة بالسوق العقارية الى انه لا بد من حصول انخفاض تتراوح قيمته بين 15 و20 في المئة بمعزل عن تداعيات الازمة المالية العالمية. ولكن صوما يملك رأياً مخالفاً في هذا الاطار، ولا يرى سبباً لتراجع اسعار العقار في لبنان معتبراً انه "لا يزال الارخص مقارنة مع ما هو عليه في الدول المحيطة حيث يبلغ ثمن الشقة في سوريا اربعة أضعاف، وفي الاردن 7 اضعاف، وفي قبرص 5 اضعاف".
ويبشر صوما بان لبنان سيشهد خلال الصيف المقبل ارتفاعاً كبيراً في اسعار العقارات معتبراً ان "الازمة المالية العالمية اثرت ايجاباً عليه. اذ دفعت المستثمرين العرب الى اختياره مجدداً وجهة لاستثمار اموالهم بعدما لاحظوا ان عملته حافظت على ثباتها، في حين لم تتعرض مصارفه لاي اهتزاز، وبقي اقتصاده مستقراً عموماً".
ويلفت صوما الى ان "عدداً من المستثمرين العرب بدأوا تنفيذ مشاريع استثمارية لهم في بيروت والمناطق. وقد تمت الموافقة منذ مطلع السنة الحالية على نحو 25 رخصة بناء تبلغ قيمة رسوم الرخصة الواحدة نحو 4 ملايين دولار، علماً ان رسوم بعض هذه الرخص لامس الـ10 ملايين دولار".
لا بد من ان تحمل السنة الحالية اجابات على كل الاسئلة الخاصة بالسوق العقارية، ولكن ثمة نقطة اساسية تحتاج الى دراسة معمقة وتدخل سريع لانقاذ ما يمكن انقاذه بعدما تحول لبنان، الى كتل اسمنتية قضت على الأخضر واليابس فيه. فهل ينفع دق ناقوس الخطر ام آن الأوان قد فات فعلا، واصبحت سياسة العرض والطلب هي التي تتحكم بالبلاد والعباد؟
تعليقات: