التنصت لغة أيضا. المتنصت يريد التعرف الى المتنصت عليه. يريد ان يعرف عنه أكثر، من يتصل به وبمن يتصل، ما الذي يتحضر له وبماذا يتكلم وعن ماذا. يقال:"من راقب الناس مات هماً"، ولكن هناك انواع من الناس اذا لم يراقبوا الناس يموتون هماً. هناك انواع من الناس يريدون ان يعرفوا لماذا انت فرحان اليوم ولماذا انت حزين، ومن هو الضيف الذي يزورك، وماذا أكلت ومن التقيت وما هي المواضيع التي ناقشت فيها... هؤلاء موجودون في كل مكان. هذا بعض من طبائع البشر الذين يظنون ان بهم خطب ما، وان الآخرين أفضل منهم، وان حياتهم تسير بغير ما يشتهون بينما حياة الآخرين تسير كما يريدون.
الحشرية في المجتمعات المصغرة، بين شلل الاصدقاء وبين الجيران والاقارب، هي تخفيف لفكرة التنصت. الحشوري متنصت، حين لا يتمكن من معرفة ما يريد بطريقة مباشرة او غير مباشرة فإنه يلجأ الى التنصت. وقد تكون دوافع هذا التنصت شريرة كأن يسرق خطط الآخرين في عمل ما، او يعرف أسرارا لا يجب ان يعرفها... وقد يكون تنصته حميدا. الاهل يتنصتون على اولادهم في سني المراهقة تحديدا، حين يبدأ الاولاد بالانغلاق على انفسهم وتحويل كل ما يتعلق بحياتهم الى أسرار. الاهل يتنصتون لصالح أبنائهم حتى لا تجرفهم سنوات المراهقة الى وهاد لا يُعرف لها قرار.
التنصت لغة الحصول على المعلومات بلا سؤال وبغفلة عن صاحب هذه المعلومات. ليكتمل نصاب التنصت يجب ان يتوافر شرطان: حشرية وحاجة للمعلومة لدى المتنصت، وغفلة عن الامر لدى المتنصت عليه. عدا ذلك يفقد الامر صفة التنصت ويصير وقاحة. لا يمكن ان تقول لشخص ما انك تتنصت عليه، لانك لا تكون تتنصت عليه بل تسرق أسراره او تفاصيل حياته عنوة. وهذا ما يحدث في هذه البلاد. الجميع يعلم يوجود أجهزة للتنصت. المتنصت عليهم يعلمون انهم مستهدفين بالتنصت. والجميع يعرف ما هو الهدف من التنصت والمعلومات التي يحتاجها المتنصت. بغض النظر اذا ما كان هذا التنصت مقوننا او غير شرعي. يقال ان فرقاء لبنانيين وغير لبنانيين كثر يملكون وسائل تمكنهم من التنصت على المكالمات الهاتفية. وان الجميع في لبنان يتنصت على الجميع. لنترك التنصت القانوني جانبا على اعتبار انه يهدف الى تحقيق الامن القومي وحماية الامن اللبناني. لنتكلم على التنصت غير الشرعي (مع اعتبار ان أمر تضخيمه مجرد أقاويل قد لا تكون صحيحة فعليا).
الصحيح والثابت ان هناك متضررون من وجود المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وجميع الشهداء الاخرين. بغض النظر عن هوية هؤلاء المتضررين وجنسياتهم، هناك من ارتكب الجريمة وهناك من سيعاقب. والمجرم لا بد يعرف نفسه وربما يعرف ان المحكمة لا بد منطلقة في الشهر المقبل وبأنه سيستدعى للمثول أمامها. لا بد ان المجرم بات متيقنا من هذا الامر مهما حاول الظهور بمظهر اللامبالي. لذا لا بد من ان يكون المجرم -كائنا من يكن عدوا أم صديقا. من الداخل ام من الخارج- لا بد ان يكون حشّريا تجاه ما يدور في الكواليس القضائية والدولية والقانونية، وفي كواليس الشهود المنتدبين والقضاة الذين سيديرون المحاكمات. المجرم لا بد متعجل للحصول على تلك المعلومات قبيل انطلاق المحكمة. لا بد انه متحرق لمعرفة ما الذي يتم التحضير له، وما الذي توصلت اليه لجنة التحقيق الدولية ولا تريد الافصاح عنه تاركة الامر للمحكمة عند انعقادها. هذا أمر طبيعي جدا: ان يحاول المجرم معرفة ما يخبئه له القدر والقانون والمحكمة. هذه الحشرية التي تتعلق بحياة او موت، بعقاب او فرار من العقاب، بصفقة على حساب المحكمة او بإصرار عليها مهما ازدادت الضغوط، هذه الحشرية لا بد ان تتحول الى تنصت على المكالمات الهاتفية.
التنصت لغة صامتة، لان المتنصت لا يتمكن من البوح بالمعلومات التي يحصل عليها عبر تنصته. عليه ان يدوّرها في جماعته وفي داخل داخلها. كما يدور الخوف والرهبة من المحكمة الدولية. لجنة التحقيق الدولية كانت قد راقبت ملايين الاتصالات الهاتفية السابقة على جريمة اغتيال الرئيس الحريري واللاحقة عليها فإكتشفت خيط "الخطوط الهاتفية الستة" التي تداولت الاتصالات قبيل وقوع الانفجار في المنطقة الممتدة بين ساحة النجمة والسان جورج ثم تبادلت الاتصالات بعد وقوع الجريمة قبل ان تختفي تلك الارقام الى الابد. ولجنة التحقيق تعرف ما الذي قاله المتصلون لبعضهم البعض في تلك اللحظات المشؤومة من عمر لبنان. هذا لم يكن تنصتا، بل قراءة في مكالمات هاتفية كانت قد أجريت، فالتنصت يجب ان يقع على شخص او أشخاص محددين، لمعرفة ما الذي يدور في ما بينهم، وهؤلاء، في حال التنصت اللبناني، هم الاشخاص الذين تربطهم علاقة بالمحكمة الدولية وبمسيرتها ومصيرها.
تعليقات: