الشاعر اللبناني بسام حجار (1955 - 2009)
أمس مات شاعرٌ كبير.
الشاعر صاحبُ الصوت الخفيض جداً حتى ليوقظ عشب الصمت، ومربّي الكلمة الجريحة حتى ليجعل اليأس ينبغ نبوغاً، هذا الشاعر لم يكن "موجوداً". كان فقط حاضراً بالشعر. وفيه. ولشدّة ما كان غائباً غياب النهار عن أهله، وحاضراً حضور الكلمات في العدم، عرف كيف يمسك الحياة من أذنها ويجبرها على الركوع. هذا الذي لطالما كره الظهور والاحتفاءات ونبذ الأضواء بتواضع العارفين وكِـبَر الكبار، ثم مات أمس، هذا الشاعر اسمه بسّام حجار.
قدرُ الشاعر الذين نحبّه أن يشحذ الموت سكّين حضوره فينا، أن تكون ظلاله الراقدة أكثر هيبةً من قامته المنتصبة، وأشدّ سطوعاً، أن يصلنا صوته من مملكة الصمت المطبق فاتحاً مخترِقاً لا يُـكتم، كما لو أن الغياب يعيده الى الفردوس الأول، الى منطقة الولادة اللامتـناهية، أي الى رحم الوجدان والذاكرة والحلم والنوم الجنيني الذي لا خروج منه الى الفناء. الى تلك الرحم بالذات رحل بسام حجار أمس، بعدما روى للحياة ومضاته وجماله وكسوره. رحل بعدما عرف أن يده "البلا ملمس/ هي يد الميت الذي كنتُه/ وقلبي قربة من البكاء". أوى الشاعر الى صمته وفضّل ما "لا يُقال/ إلا/ همساً:/ لا الألم/ بل مكانه بعد أن يزول/ مكانه الذي له/ يبقى موجعاً/ لشدّة ما يزول".
قصائد بسام حجار، التي عشقتُها وأوتي لي أن أترجم بعضاً منها الى الاسبانية، تقع في منطقة البين بين، فهنا صمت وهناك بوح، هنا غموض وهناك استسلام، هنا تصادم وهناك انسياب، هنا غريزة وهناك نحت واشتغال. قصائد برّية ومسالمة في آن واحد، مسكونة بالحساسية الانسانية وبهاجس الفراغ الذي تنبجس منه كيمياء اللغة. شعره شعر الأشياء والكائنات الهشة والتفاصيل القليلة، بل شعر الأسئلة التي لا جواب عنها، لأنها لا تحتاج جواباً. شعر الحياة الواقفة على شفا الكلمة، شعر الخيال المتحرك ذي القدرات المتعددة والفلسفة اليومية التي تتعالى من ضجيج الواقع وعري الحقيقة: إنه شعر طالع من الينابيع، من ينابيع الجرح الإنسانيّ البعيد الغور، وليست إلفته سوى قشرة ظاهرية، سوى "فخ" يستدرج القارئ الى الجوهر الصعب، المنيع، القاطع.
أمس مات شاعر كبير اسمه بسّام حجار. وشيء منّا جميعاً، شيءٌ جميلٌ منّا، شيءٌ حقيقي ومتوهّج ولا يُعوَّض، مات معه.
كان يروي حكايتي
وأحسب أنني ما كنت أحداً
وأحسب أنني ما كنت شيئا.
وأحسب أنني
يوما
لن أكون.
كانت حكاية
حكاية فحسب.
بسام حجار (1955 - 2009)
تعليقات: