أبو بشير.. ملك التمر هندي في دمشق
تحضيره سر وطعمه آسِر..
وأخيراً تقاعد (ملك التمر هندي) الدمشقي عن العمل، بعد خمسين عاماً في تقديم ذلك المشروب الدمشقي الشعبي البارد التمر الهندي. ولقب الملك لـ (أبو بشير حلتي) الذي منحه إياه ذواقو وعشاق التمر الهندي الكُثْرُ بدمشق لم يأت من فراغ، بل جاء بعد سنوات طويلة من جهد وابتكار، حاول أبو بشير إضفاءه على مشروب التمر الهندي، وترك عليه بصماته الواضحة؛ فجاء المشروب مميزاً بمذاقه، حيث إنه من تحضير الملك أبو بشير، كما أن منحه اللقب جاء لكون أبو بشير أول شخص يدخل هذا المشروب إلى أسواق وحارات دمشق قبل خمسين عاماً، قادماً من مدينة حلب، ومنطلقاً به من أمام سوق الحميدية الشهير، وليشكل فيما بعد مجموعة تعمل معه، من بينها ولده الكبير بشير في تقديم هذا المشروب، متجولين في أسواق وشوارع دمشق، وعليه بصمات الملك أبو بشير. ومن أجل إنجازه هذا، أدخله موثقو الفلكلور الدمشقي في قاموس الشخصيات الدمشقية الشهيرة في القرن العشرين، تلك الشخصيات التي أدّت دوراً مهماً في حياة دمشق. ولم يكتف أبو بشير بإدخال التمر الهندي إلى دمشق وتحويله إلى شراب لذيذ المذاق، بل ابتكر أيضاً اللباس الخاص ببائعي التمر الهندي في دمشق، وقام بعده البائعون بتقليده، وهو لباس مميز يثير ـ وبشكل دائم ـ شهية السياح العرب والأوروبيين القادمين لدمشق لتصوير باعة التمر الهندي بلباسهم المميز، والتقاط الصور معهم، كما أثار شهية الجهات المعنية، حيث أدخلت أبو بشير ولباسه المميز وشرابه التمر هندي في الكثير من حفلات افتتاح العديد من المنشآت الهامة السورية الثقافية والتراثية وغيرها داخل وخارج سورية، ليشكل نموذجاً للفلكلور الدمشقي الجميل بتقديمه المشروب الشعبي الدمشقي، وبلباس مميز، ومنها حفل افتتاح السفارة السورية في بون بألمانيا في الثمانينات، وفي افتتاح دار الأسد للثقافة والفنون (دار الأوبرا) بدمشق، وفي افتتاح القناة الفضائية السورية، حيث وضع ضمن الشريط البانورامي للفضائية كإحدى شخصيات دمشق ومعالمها الفلكلورية وغيرها من المناسبات والمشاركات في مهرجانات ومعارض خارج سورية في فرنسا. وهذا اللباس، الذي يميز باعة التمر الهندي فقط، يتكون من سروال وصدرية وقميص أبيض وطربوش، ويتزينون بترمس مع إبريق نحاسي ذي أنبوب طويل يزينونه بالشراشيب الملونة والصور، موصولين بسوار معدني، وهناك في الجهة الثانية سوار آخر لوضع كؤوس زجاجية (سبع كاسات) يصبون فيها التمر الهندي البارد، حيث الثلج يوجد في قلب الإبريق الكبير. وكذلك قام الملك أبو بشير وزملاؤه بابتكار الأغاني الجميلة لترديدها وهم يتجولون في الأسواق لجذب انتباه الناس وشراء التمر هندي منهم، وجميع هذه الأغاني تمجد بالتمر الهندي ومذاقه الرائع، ومنها: (يا سمرة يا تمر هندي يا أطيب مشروب عندي..). ومن العبارات أيضاً هناك: (من الشام جاي شامية وشامية في بلاد الشام.. اشرب اشرب يا حباب التمر الهندي بتروي العطشان!).. ومنها أيضاً: (شامية يا ورد وفل ورده، ع جبين الكل، قرب يا حباب لعندي، أنا عندي التمر هندي). وتخصص أبو بشير بترداد عبارة دائمة من خلال لقبه، تقول: (أنا بياع الطيب، أنا بياع الهنا.. أنا ملك التمر هندي).
وإذا كان ملك التمر هندي أبو بشير قد تقاعد عن التجوال مع إبريقه المميز في سوق الحميدية وساحة المرجة وغيرها من الأسواق الدمشقية، بعد أن وصل عمره حافة الثمانين، فإن بصماته على التمر الهندي مازالت موجودة، كما أنه افتتح محلاً في سوق اليرموك بدمشق للعصائر الباردة مع ولده بشير الذي أورثه هذا العمل.
«الشرق الأوسط» التقت أبو بشير بعد تقاعده في محله بسوق اليرموك، حيث تحدث قائلاً «بدأت أولا في مدينة حلب سنة 1950، ثم في عام 1958 انتقلت إلى دمشق. وأنا أخذت هذا العمل عن خمسة أشخاص أرمن، كانوا الوحيدين في مدينة حلب يحضرون ويبيعون التمر هندي في أسواق حلب. وتحضير التمر هندي يتم عن طريق نقع الثمار المجففة في الماء، وتركها حتى المساء، وفي الصباح نضعها في الأوعية بعد عصرها حسب الأوزان. وسابقا كان يأتينا من الهند في صناديق كبيرة (قفف)، وليس (باكيتات) مغلفة، كما هو الحال في السنوات العشرين الأخيرة. وأنا مَنْ أدخل التمر هندي لدمشق بشكله الجماهيري، حيث كانت بعض النساء تحضره في منازلهن، ولكن لم يكن ينتج لديهن مشروب جيد، بسبب ضعف خبرتهن في تحضيره. وتحققت لي الشهرة من خلال المذاق الخاص للمشروب، واللباس الفلكلوري، والإبريق المميز، والأدوات الخاصة بالمشروب. وأول سوق بدأت أتجول به كان مدخل سوق الحميدية. وأطلقوا عليَّ في البداية لقب (أبو حلب). ولم يكن المارة يعرفون التمر هندي، ويظنون أنني أبيع مشروب العرقسوس، لكونه مشهوراً في دمشق، ويطلبون تذوقه؛ فيعجبهم ويطلبون المزيد. وهكذا انتشر التمر هندي بين الدمشقيين وزوار دمشق في الأسواق، وظل الدمشقيون يلقبونني (أبو حلب) من عام 1958 حتى بداية سبعينات القرن الماضي، ليمنحوني بعدها لقب (ملك التمر هندي)، وكانوا يقولون لي «إن المشروب عندك لديه نكهة خاصة»». ويتابع قائلا «أنا لي طريقتي في تحضير التمر هندي، الذي يتميز بفوائد كثيرة، منها أنه منقٍّ للدم من السموم، ومكافح للملاريا، وهو منشط لعضلة القلب، ويرطب جسم الإنسان، ومفيد للكبد. وهو في الأصل شجرة مشهورة في الهند والسودان، ويشبه شجرة النخيل العادي، ولكن ثماره تكون حامضة الطعم، ويكون لون العصير حسب لون الثمار، وبشكل خاص الأشقر الفاتح والغامق. وهناك اللون الأسود، وهو أفضل لكونه حامض المذاق». وينصح أبو بشير محضري وبائعي التمر هندي المستمرين في عملهم بأسواق دمشق أن يعتنوا بشكل جيد بالتحضر؛ ليخرج معهم المشروب (دمعة)، ليعود الزبون ليشرب من عندهم التمر هندي، خاصة أن مواصفات مشروب التمر هندي اللذيذ ـ حيث يكشف أبو بشير سر تحضيره الجيد له ـ ألا تكون مياهه كثيرة، وأن يضع البائع نفسه (حسه الداخلي وبصمته) الخاص عليه. والتمر هندي لدى أبو بشير أشبه بالإدمان، حيث تتذوقه مرة؛ فتعشقه إلى الأبد، وتطلب المزيد منه بسبب تميز مذاقه عن الآخرين الذين يحضرونه. ويضيف أبو بشير «هذا يعود إلى أنني أحضره بحسي الخاص، ولا أبخل بإعطاء معظم وقتي لتحضير هذا المشروب الرائع، الذي يقدم بارداً مع ماء الورد الطبيعي المقطر، حيث يعطيه نكهة لذيذة».
تعليقات: