مقر بلدية الغبيري
كان انتقال العمران المحلي والبلدي في ساحل المتن الجنوبي - أي في الشياح وحارة حريك وبرج البراجنة - الى عمران الضواحي المدينية الفوضوية، قد سبق الحرب بأكثر من عقدين من السنوات. بل إن فؤاد خوري في بحثه المنشور بالانكليزية عام 1975، عن جامعة شيكاغو الاميركية، في عنوان "من القرية الى الضاحية"، يعيد الى ثلاثينات القرن العشرين بدايات تحول الشياح، المتاخمة والمماثلة لحارة حريك، الى ضاحية، بعدما كانت "ضيعة" بحسب تسمية سكانها "الأصليين"، أي قرية زراعية وحرفية محلية.
الشياح والغبيري
عوامل هذا التحول التي تتبعها خوري وأرَّخ لها في الشياح، كانت اقتصادية وديموغرافية:
- اذا كانت هجرة المسيحيين من مناطق لبنانية كثيرة الى اميركا الجنوبية والشمالية، تعود الى نهايات الحرب العالمية الاولى ومجاعتها، فإن إنهيار البنية الاقتصادية والاجتماعية لصناعة الحرير مطالع ثلاثينات القرن العشرين، أدت الى تزايد هذه الهجرة المسيحية من الشياح، حيث كانت استثمارات المسيحيين وخبراتهم الحرفية والتجارية تشكل قاعدة لهذه الصناعة في البلدة او القرية الساحلية المحلية ذات الغالبية المسيحية والاقلية الشيعية في ذاك الوقت، حينما كانت صناعة الحرير ومرافقها ودورة الاعمال التي تتطلبها، الركيزة الاساسية، بل الوحيدة، لتخالط هاتين الفئتين من السكان المحليين.
- نجم عن إنهيار صناعة الحرير وتعاظم هجرة المسيحيين من الشياح اقتصار دورة الاعمال ومصادر العيش المحلية، على الحرف البسيطة والعمل في المرافق الصناعية الناشئة (معمل غندور ومعمل "الريحة"، أي العطور، في الشياح، ومعمل جبر في حارة حريك)، الى جانب زراعة الحمضيات والخضر المتزايدة بدل التوت الذي كانت تستلزمه الصناعة المنهارة.
- كانت بدايات الهجرة الشيعية البعلبكية الى الشياح، قد سبقت زمنياً إنهيار تجارة الحرير. ففي العشرينات من القرن الماضي - على ما يترجم وهيب فاضل في كتابه "نائب الشعب الكادح، سيرة عبدالله الحاج (1899 - 1975)، منشورات "دار النهار" بيروت، 2007، نقلاً عن فؤاد خوري - "وفدت مجموعة من العائلات الشيعية البعلبكية الى الشياح واستقرت فيها"، ليعمل رجالها وشبانها ساسة خيل، تلبية لحاجات ملعب سباق الخيل الذي أنشئ "عام 1927 في غابة الصنوبر شمال الشياح"، حيث شيدت للخيول إسطبلات كثيرة، عمل فيها السائسون الوافدون، وأقاموا قربها إقامة جماعية شبه عشائرية في بيوت أو غرف شيدت متقاربة وعلى عجل لإيوائهم. وأحصى خوري نزول أكثر من 60 أسرة بعلبكية دفعة واحدة في هذه البيوت - الغرف التي أقيمت على "أطراف الشياح" الشمالية الغربية، بين منازل السكان الشيعة "الأصليين" وغابة الصنوبر. وهذا رقم ضخم بمقاييس التحركات السكانية اللبنانية في ذلك الوقت الذي تسارعت بعده موجات المهاجرين الشيعة البعلبكيين والجنوبيين الى الشياح.
- أدى تناقص سكان الشياح وملاّكها المسيحيين، وكثافة موجات الهجرة الشيعية اليها، ونزولهم بكثرة مخالطين شيعتها "الاصليين" في شمالها الغربي، وصولاً الى تخوم حارة حريك الشمالية، الى نشوء محلة - ضاحية غربية شيعية في الشياح. أما إنشاء ما سمي طريق صيدا القديمة، آتياً من خلده وعابراً كفرشيما والحدث، وصولاً الى أطراف سقي حارة حريك الشرقية، فقد أدى مروره في الشياح الى قسمتها قسمين اثنين: شرقي عُرف بعين الرمانة (غالبية سكانه الساحقة من المسيحيين، واحتفظ إدارياً وبلدياً بتسمية الشياح). وغربي إنفصل إدارياً وبلدياً عن الشياح وسمي الغبيري. والغبيري هذه هي التي صارت محلة - ضاحية غربية وشيعية، بعدما نشأت فيها بلدية ومخترة مستقلتان عن البلدة الأم، فيما صارت عين الرمانة محلة - ضاحية شرقية ومسيحية.
الغبيري وحارة حريك
هذه العوامل المستلة من بحث فؤاد خوري، والاخرى المستلهمة من بحثه والمستكملة بشهادات محلية ومعايشة شخصية، تبلور صورة سريعة عن نشوء بدايات "مجتمع الضاحية" في الشياح، منذ أربعينات القرن العشرين.
واذا كانت العوامل التي ذكرها خوري تركز على التحول الاقتصادي - الاجتماعي والديموغرافي الذي أصاب الشياح في الثلاثينات والاربعينات، فإن العوامل الاخرى المضافة، تركز على تفكك الوحدة المكانية والجغرافية والادارية البلدية للشياح في مسيرة تحولها من بلدة محلية الى ضاحية منقسمة، غربية شيعية في الغبيري، وشرقية مسيحية في عين الرمانة. وفي حال القول إن الوحدة البلدية المحلية للشياح ونسيجها العمراني والاجتماعي والسكاني، كانا ضعيفين وواهيين أصلاً، وأن هذا الضعف كان عاملاً مؤسساً في إنقسامها اللاحق، فإن عوامل نشوئها ضاحية منقسمة لا تكتمل إلا مع اضافة ظواهر تكوينية لازمت نشوء ضواحي بيروت وغيرها من المدن اللبنانية. من هذه الظواهر: الضعف، بل الغياب الكبير لفاعلية مؤسسات التخطيط المدني العامة، وللجماعة البلدية المحلية، وفوضى العمران والسكن والانتقال من الارياف الى المدن، وتسارع وتائر التمدين وتنامي حاجاته ومتطلباته المتعاظمة في العاصمة الجديدة بيروت.
هذا العرض لعوامل تحول الشياح من بلدة محلية الى ضاحية، يتصل في بعض وجوهه بتحول حارة حريك التي تتاخمها وتتصل بها من ناحية الغبيري الناشئة. فانهيار صناعة الحرير وتنامي الزراعات المحلية، وهجرة المسيحيين، أصابت الشياح كما أصابت حارة حريك وغيرهما من بلدات ساحل المتن الجنوبي كله، كالمريجة والحدث وكفرشيما، وصولاً الى وادي شحرور. أما نشوء محلة الغبيري وانفصالها عن الشياح، وإرهاصها ببدايات تكون مجتمع الضاحية، فكان له تأثيره على حارة حريك. فالغبيري التي استقلت ببلدية ومخترة، نشأت فيها ساحة وسوق حرفية وتجارية على تخوم حارة حريك الشمالية الغربية التي امتد الى داخلها في هذه الناحية حي سكني إتصل عضوياً بالغبيري وبالمهاجرين الشيعة من آل المقداد والخنسا الوافدين من بلاد جبيل ومن بعلبك. وكان تكون الغبيري على هذه الصورة الجديدة، قد أدى، بحسب فؤاد خوري، الى تململ سكان الشياح المسيحيين وتذمرهم، والى شعور مسيحيي حارة حريك بشيء من "الحذر"، بحسب ميخائيل عون الذي أكدَّ في شهادته أن نواة السكن البلدي الاساسية في شياح أربعينات القرن العشرين وخمسيناته، كانت حول كنيسة مار مخايل، والى جانبها بلدية الشياح ومقبرتها ومدرستها الرسمية الأقدم والوحيدة في ساحل المتن الجنوبي كله في ذلك الوقت، والتي تلقى فيها ميخائيل مع قريبه (الجنرال لاحقاً) ميشال عون، دروسهما الابتدائية.
التجاور الجغرافي بين سقي حارة حريك والنواة السكنية المسيحية للشياح، أدى الى جذب سكان السقي المزارعين والفلاحين المسيحيين الوافدين حديثاً اليه، نحو التواصل مع تلك النواة السكنية، حيث المدرسة والكنيسة. فنشأ عن ذلك تخالط وتمازج بين سكان هاتين الناحيتين من الشياح وحارة حريك.
في مقابل هذين التواصل والتمازج، رفض سكان النواة السكنية المسيحية القديمة في الشياح أن ترعى شؤونهم البلدية، بلدية محلة الغبيري التي شملهم نطاقها البلدي المحدث، وفضلوا أن تظل في رعاية بلدية الشياح التي صار نطاقها يسمى عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية الساحقة، ومحط رحال الوافدين المسيحيين الجدد الذين انعدم نزولهم في المنطقة التي صارت الغبيري وغلب الشيعة الاصليون والوافدون على سكانها.
نواة العمران والمزارع
في كتابه "الضاحية الجنوبية أيام زمان" (منشورات "دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة"، بيروت، 1984)، كتب محمد كزما أن ساحل المتن الجنوبي بين حرج "صنوبر بيروت (شمالاً) ونهر الغدير في صحراء الزيتون (الشويفات جنوباً) كان سهلاً أخضر فسيحاً، البيوت فيه قليلة متفرقة وموزعة بين البساتين وأشجار النخيل ورباعات الصبير". لكن هذا السهل الاخضر ببيوته القليلة المتفرقة، كان يحوي ايضاً عدداً من النوى الاساسية للعمران البلدي والمحلي، هي برج البراجنة التي تشكل محور مدونات كزما لذكريات طفولته وشبابه بين الحربين العالميتين، والشياح - الغبيري مدار بحث فؤاد خوري "من القرية الى الضاحية" في الحقبة نفسها. أما حارة حريك، وهي النواة العمرانية الاساسية الثالثة، فلها حضورها، وإن كان طفيفاً ومختلطاً، في مدونات كزما، لتحضر حضوراً اساسياً في شهادة ميخائيل عون وغيرها من شهادات أهالي الحارة المسيحيين.
النوى العمرانية البلدية الثلاث هذه، مع البيوت المتفرقة والموزعة خارجها في البساتين، نشأت، بحسب مصادر التاريخ الاجتماعي لجبل لبنان، عن حركة الهجرات المتعاقبة من القرى الجبلية (المسيحية في معظمها) الى المنخفضات والسهول للعمل والاقامة فيها، منذ القرن السادس عشر.
في بدايات هذه الهجرات المتعاقبة أقام المهاجرون الجبليون في بيوت زراعية متواضعة، صغيرة و متباعدة، ولا يربط بينها نسيج عمراني، حيث نزلوا في الاراضي والحقول، وعاشوا على الزراعة والرعي. مع تزايد حركة الهجرة والتوطن في السهل الساحلي، راح بعض كبار الملاّك الاقطاعيين يتنازل عن مساحات أملاكه لمزارعين وفلاحين ورعاة يعملون في أرضه لقاء عملهم واقامتهم فيها. وعن تكاثر هؤلاء الفلاحين والرعاة المتوطنين، وارتفاع مداخيلهم الناجمة عن أعمالهم، وخصوصاً أعمال تربية دود القز لصناعة الحرير في القرن الثامن عشر، بدأت تظهر النوى السكنية الصغيرة لإقامتهم، فتقاربت فيها البيوت وجمعها نسيج عمراني ما، ريفي الطابع، ونشأت فيه بعض الاعمال الحرفية المتنوعة. ففي الحقول الزراعية والمراعي، زرعت أشجار التوت التي تتطلها تربية دود الحرير، ثم نصبت الاشجار المثمرة الساحلية، كالحمضيات، في بساتين أقيمت لريها أقنية جُرّت فيها الى السهل مياه جداول المنحدرات الجبلية القريبة وينابيعها.
حتى أربعينات القرن العشرين، ظلت الحياة المحلية في ساحل المتن الجنوبي، بحسب خوري وكزما وشهادات أهالي حارة حريك، موزعة بين نوعين من دوائر الإقامة: دوائر النوى العمرانية او السكنية البلدية (برج البراجنة، الشياح - الغبيري، وحارة حريك) حيث يقيم قدامى السكان المستقرين المتوطنين العاملين في الزراعة والمهن والحرف وغيرهم من ملاّك الاراضي الزراعية. ودوائر المزارع، او السقي بحسب المصطلح البلدي المحلي، أي الاراضي الزراعية المروية، التي ينزل فيها فلاحون ومزارعون يعملون في اراضي الملاّك ويربّون الحيوانات الاليفة والدواجن.
تبرز هاتان الدائرتان (دائرة البلدة المحلية، ودائرة السقي او المزارع) بروزاً واضحاً وجلياً في شهادة ميخائيل عون عن حارة حريك. فبينما كانت البيوت متقاربة ويجمع بينها نسيج عمراني أهلي وعائلي في الحارة، كانت بيوت الفلاحين الصغيرة والمتواضعة، متباعدة في المزارع - السقي، ولا يربطها نسيج عمراني، الا على نحو ضعيف بدأت تظهر ملامحه الطفيفة مع تكاثر الفلاحين في السقي، حيث نشأ ما يشبه ساحة عامة قروية في بستان زيتون به بركة ماء صغيرة، بحسب رواية عون نفسه. وفي حين انتقل بعض الفلاحين النازلين في السقي للاقامة في الحارة، او شيد بعضهم الآخر بيوتاً جديدة في السقي، فإن بعض من أثروا من الملاّك والعاملين في صناعة الحرير وتجارته، أخذوا يغادرون النواة العمرانية في الحارة للاقامة في دور جديدة مستقلة، شيدوها من طبقة او اثنتين على تخوم الاراضي الزراعية والبساتين في السقي.
من أشهر ملاّك البساتين في حارة حريك، يذكر محمد كزما "آل تحومي وعضيمي وكسرواني ودكاش" الذين كانت بساتينهم زاهرة "بأشجار البرتقال والأفندي والحامض". أما "تربية الابقار والجمال والحمير والاغنام عدا الطيور الداجنة، فكان لها مكان خاص (قرب) كل بيت، منعاً لغارات الثعالب عليها ليلاً". والأرجح أن هذه الاماكن المسيجة كانت في المزارع، قرب بيوت الفلاحين الذين كانوا ينزلون فيها ويعملون.
دارة المحامي
الى هذه العائلات من ملاّك البساتين وسكان حارة حريك المسيحيين، اضاف ميخائيل عون آل الشويفاتي وواكد وجبير والمعلم وكنعان. اما زوجته، وهي من آل تحومي، فروت ان عائلتها وفدت من قرية تحوم في بلاد البترون الى حارة حريك، في زمن يعود الى بدايات القرن التاسع عشر، فملكت فيها بساتين، وعملت في صناعة الحرير. وفي أواخر عهد المتصرفية في جبل لبنان (1860 – 1914)، برز من العائلة جدّ الراوية، شربل تحومي الذي كان من أوائل المحامين، بعد تخرجه من كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف ببيروت، وتأسيسه مكتباً شهيراً لمهنة المحاماة، تدرّج فيه الشيخ بشارة الخوري الذي أسس لاحقاً مكتبا مستقلاً للمحاماة وانخرط في العمل السياسي والتمثيل النيابي، وانتخب رئيساً للجمهورية، في بدايات الأربعينات من القرن العشرين.
شيد شربل تحومي المحامي، على تخوم بساتين العائلة في حارة حريك، دارة واسعة من طبقتين لأسرته بعد زواجه. أما ابنه، والد الراوية، فقد تزوج إمرأة من زحلة في البقاع في ثلاثينات القرن العشرين، وورث الدارة عن والده وأقام فيها، قبل أن يتفرق شمل عائلة تحومي المقيمة في حارة حريك وتهمل أملاكها الزراعية وتبيع مساحات واسعة منها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. الراوية، ابنة وارث الدارة عن والده المحامي القديم، تزوجت مطلع الخمسينات من ابن حارة حريك، ميخائيل عون، فورثت الدارة مع إخوتها الذين تفرق شملهم، وأقامت مع زوجها في شقة من البناية الحديثة التي شيدتها عائلته على أملاك لها بسقي الحارة مطالع الستينات. وفي ثمانينات القرن الماصي، كانت الدارة القديمة المشيدة على الطراز المعماري التقليدي، مهجورة مهملة، بعدما هجّرت الحرب الراوية واسرتها هجرات كثيرة اقامت في فترات منها بكنف أهل أمها في زحلة، فاحتلت الدارة جماعة مسلحة بأمرة أبو علي مصطفى في حارة حريك. وبعدما نهبت مكتبتها القديمة ومحتوياتها، أُسكِنت فيها عائلة شيعية جعل نساؤها يتذمرن من الراوية، كلما زارت دارة أهلها وطفولتها وشبابها زيارة استطلاعية عابرة.
ا
مشهد قديم بين الشياح وحارة حريك.
تعليقات: