«الغمة» من بين اصعب الاطباق اللبنانية تحضيرا
بيروت:
الفرق بين كلمة الغمّ وطبق «الغمّة» حرف.
إلا أن هذا الحرف ليس المسألة الوحيدة التي تعطيه خصوصيته، ذلك أن طهو «الغمّة» يكاد يدخل في زمن آخر. ومع هذا يتمسك اللبنانيون به، لا سيما في المناطق الجبلية والأرياف. وقبل الاسترسال لمن لا يعرف الغمّة نفيده أنها طبق لبناني يتكون من رأس الخروف وقوائمه وأمعائه المحشوة بالأرز واللحم المفروم ناعماً مع الحمص والبصل والمطيبات من البهارات التقليدية. وإذا تناهت إليك رائحة هذا الطبق في منزل ما وسألت سيدته عما تطبخ تبادرك إلى القول: «اطبخ الغمّة الله لا يغمك»، وكأنها تنفي عن هذا الطبق أي ضرر، لتضفي عليه الرغبة الجامحة في تناوله.
ويحتاج إعداد طبق الغمّة إلى مسار طويل وشاق. لذا أصبح طهوه اختصاصاً له أربابه. وهو ليس طبقا مدينياً على رغم استساغة أهل المدن له. أما في القرى فقد كانت ربة البيت توصي على مستلزمات الغمة لدى الجزار، أي الأرجل، والكرش والأمعاء والرأس بكامل تفاصيله من اللسان إلى النخاع. والأمر لم يكن سهلا، فجزار القرية يذبح خروفين أو ثلاثة، وبالتالي يجب انتظار الدور للحصول على المطلوب. وعندما يتم ذلك تبدأ عملية التنظيف الشاقة لغسل الأحشاء والقوائم. والعملية لا تتم إلا ببعض الشي والكشط من الداخل والخارج بالماء الساخن. وكانت ربات البيوت ينجزن هذه العملية في فناء المنزل وعلى موقد الحطب.
أما اليوم فقد تخلت معظم ربات البيوت اللواتي يواظبن على تحضير هذا الطبق عن هذه المرحلة الشاقة من عملية الإعداد، خصوصاً بعد توافرها جاهزة في السوبر ماركت أو لدى الجزار نفسه، ولا تحتاج عندها إلا إلى عملية تنظيف أخيرة بالماء الساخن أيضاً، وفرك الكل بأوراق الغار وقطع الليمون الحامض بعد نزع الغشاء الداخلي للكرش ونزع الكتل الدهنية من الفوارغ، وأخيراً تنظيف الرأس. وبعد عملية التنظيف تبدأ مرحلة إعداد «الحشوة» المكونة من الأرز واللحم الناعم والبصل المفروم، والقرفة والبهارات والملح، والكراوية والعقدة الصفراء التي تعطي الحشوة لوناً جميلاً ومذاقاً مثيرا للشهية. ثم يقسم الكرش أقساماً صغيرة، ويحشى كل قسم على حدة لتتم خياطته فيتحول إلى شكل كروي. ويحشى الفارغ بتأنٍ حتى لا يتمزق، وتعمد النساء إلى استخدام نقارة الكوسا لتسهيل عملية الحشو.
وعندما تنجز المرحلة الثانية، كانت القرويات قديماً يطلين طنجرة الألمونيوم أو النحاس بالرماد منعاً لاحتراقها على نار الموقد، ومن ثم ترك محتوياتها «تنخنخ» أي تنضج على مهل. أما اليوم فقد استبدل موقد الحطب بفرن الغاز الذي تُشعل ناره تحت الطنجرة خفيفة. ويوضع داخل الطنجرة كل ما توافر من المطيبات. وما إن يبدأ الماء بالغليان حتى تطفو الرغوة فوق الغمة، وتبادر ربة المنزل عندها إلى سحبها بواسطة ملعقة كبيرة. وبعد سحب كل الرغوة تطفأ النار وتغسل الطنجرة جيداً، كما تغسل محتوياتها حتى لا يكون قد علق منها شيء من الرغوة، ثم توضع الطنجرة مجدداً على النار وقد غمرت المياه محتوياتها وتقفل بالغطاء، وتبقى على نار خفيفة حتى تنضج.
ومن الضروري أن يؤكل هذا الطبق ساخناً لأنه دسم للغاية، وغالباً ما يكتفى به على المائدة من دون أي أطباق أخرى مع صلصة الحامض والثوم أو صلصة الخل والثوم. والواضح أن اللبنانيين درجوا على تناول هذا الطبق التراثي في فصل الشتاء، حيث من الأسهل تحمل دسمه. ولا يعد عادة إلا في وجود عائلات كبيرة، أو في حال وجود مدعوين، لأن العائلة الصغيرة لا تستطيع أن تستهلكه في يوم واحد أو حتى في يومين، إلا إذا كان الطبق مقتصراً على الفوارغ التي تعد مع ورق العنب المحشو، أو على الرأس الذي يطلق عليه اسم «النيفا».
وكون عملية إعداد هذا الطبق الشهي شاقة تنفر منها معظم سيدات البيوت، فقد بات العديد من المطاعم اليوم يعدّه مرة في الأسبوع بشكل دوري، مما يدفع الكثيرين إلى تذوقه خارج المنزل، والاستغناء عن مشقة التحضير. إلا أن بعض المتمسكين بالتقاليد يحرصون على عدم تناول الغمة إلا في المنزل لأن إعدادها يحتاج إلى نظافة فائقة وعناية بالغة.
تعليقات: