المفكر العربي منح الصلح: استفحال العصبيات...
كيف يفكر منح الصلح المحاصر بالإحباط السياسي والاعتكاف الصحي؟
نحتاج إلى ميثاق وطني جديد ومن حق لبنان أن يكون سيداً مستقلاً.
يعتب المفكر العربي منح الصلح على «المفكرين والفئات المثقفة»، ويتهمهم بالتقصير «في البحث عن حلول وتصّور الطريق وتجنب الاخطاء والمزالق» التي أدت الى استفحال ظاهرة العصبيات «حتى بات رأيك يعرف من خلال اسمك». وهذا الشيء برأيه «لم يحصل في لبنان ولم يكن موجوداً فيه ولم يمر عليه خلال تاريخه». ويوجه اللوم في هذا الامر الى العهود السابقة «التي كناّ نتصورها عهود ديموقراطيات وآراء، يظهر أنها لم تنضّج الواقع السياسي».
يعيش الصلح شبه اعتكاف هذه الايام، تمتد أسبابه «من الظروف الموضوعية الصحية»، بعد أن بلغ الرجل الثمانين من عمره، وصولا الى نوع من الاحباط، من المرحلة التي بات الانحدار فيها بلا قعر. من دون أن يعني ذلك أن «البك» الذي طالما صنف بين الفاعليات العروبية التقدمية، لم يعد يجول في شوارع مدينته التي التصق بها طوال حياته المديدة، لكنه يبتعد بقرار إرادي عن الاضواء، بعدما بدا له انه لم يعد يعطي هذه الاضواء توهجا من فكره ومن حسه السياسي، خصوصا أنه يتجنب الحديث في الشأن الشخصي، فهذا الامر برأيه «تبجح» لا يرضى الخوض فيه.
يقرأ «جرائد ومجلات». لا يعتبر أنه توقف عن الكتابة والانتاج الفكري، لكن «لا أجد شيئاً أعتبره هاما. أكتب في بعض الاحيان في جرائد ومجلات من دون توقيع، كتابة مهنية أكثر مما هي كتابة ريادية. ليس هناك أشياء جديدة عليّ مثلما كنت في فترة من الفترات، كان لدي هذا الشعور سابقا، الآن بات غير موجود».
÷ هل هو إحباط مما آلت اليه أمور الامة؟
يرد: «قد يكون هكذا. لكن بالاساس أنا أرى أن الامة نجحت في فترات وفشلت في اخرى، لكنها كانت تتجه الوجهة الصحيحية».
تعوّد الصلح أن يتحدث بلهجة هادئة بعد تفكير عميق، وبات الآن يتحدث بعد تفكير أطول، فالمرض والعمر فعلا فعلهما فيه، وإن لم يستطيعا المس بذاكرته. وهو لا يخفي معارضته للنظام السوري. وقد أثرت أخطاء الادارة السورية للبنان خلال مرحلة العقود الثلاثة المنصرمة في نظرته اليه، حيث تظهر نكهة المرارة بوضوح عندما يتطرق للحديث عنه.
يميل الصلح الى «جهة» 14 آذار أكثر من ميله الى قوى 8 آذار، لان «من حق لبنان أن يكون سيدا مستقلا». ويضيف: «لكنني لا أطعن في المقاومة التي قاتلت اسرائيل». ويرفض التصور «الذي يتحدث عن ملائكة وشياطين، خصوصاً في السياسة، فالسياسيون ليسوا أبالسة ولا ملائكة، فيهم الخّير وفيهم الشرير. وفيهم الخطأ وفيهم الصواب». لا يحبذ مدح الماضي «هناك ناس أخطات وآخرون أصابوا، لكن نطالب الحاضر. الواقع السياسي القائم لا يدافع عنه، لأنه غير قادر على الانجاز، أنا لا أصفه هكذا، هو بنفسه هكذا. والاخفاق لا يحتاج الى وصف». لكنه يعتبر أن هناك «رأياً عاماً كبيراً ومواقف محلية وعربية ودولية، كلها تعتبر أنه أسيء الى لبنان كقطر عربي مميز من الاقطار العربية، حيث ألغي دوره الديموقراطي. وان نوايا الخارج، وعدم مناعة الداخل، سحبت لبنان من دوره الديموقراطي المنفتح على الحضارة العالمية».
÷ ولكن هل يعاني لبنان من مشكلة مع العروبة؟
يأسف الصلح على حال لبنان. ويرى أن حال البلاد العربية كلها تشهد بأن للبنان الحق بأن يكون له دور. وله الحق في السيادة، وبأن يكون سيداً. ويرى أن لبنان «كان محسوداً لان فيه ديموقراطية وحرية كتابة وصحافة وجامعات».
÷ أين أصبحت أحلام وشعارات الوحدة العربية في تخطي الوطنيات نحو انتماءات أوسع؟
يجيب: الوحدة العربية هدف لكل عربي. وهي هدف عزيز نظريا عليهم. وقد جاءت عثراته وضعفه من الذين نادوا به، لأنهم لم يكونوا بحجم المهمة. وهؤلاء آذوا الوحدة أكثر من أعدائها. لم يكونوا في حجم التحدي.
لا يعني الصلح بقوله هذا انه ينتقد جيلاً لم يحقق الاهداف التي رفعها، فهذا الجيل برأيه كان في معظمه مخلصا يحمل نوايا سليمة. إلا انه يحمل المسؤولية، مسؤولية الفشل للمفكرين والكتاب والمثقفين، فهؤلاء «لم يكونوا على قدر المشروع الذي نادوا به». لكنه يستدرك ليوضح «ان ما من أمة حوربت كما حورب العرب». وان الامة العربية «حوربت من قبل البعيد والقريب ومن قوى عالمية كبرى. شنت عليها حرب ضارية وتوقفت وسط الطريق، بسبب تقصير فكري وعملي عانت منه».
فلسطين والعراق
هذا النقد لا يشمل الفلسطينيين، فهؤلاء «ناضلوا وما يزالون دفاعاً عن حقهم. ولا يحق لأحد أن يعطيهم دروساً في ذلك. ولا يمكن تجاهل الصمود الذي تشهده الساحة الفلسطينية». و«من المهم أن تبقى مقاومة في فلسطين، حتى الآن نجح الفلسطينيون في إقامة صلة قوية مع العرب، ونجحوا في عدم ترك المجال لإسرائيل لان تخلف بينهم. واتفاق مكة، حتى لو اختلفت أطرافه لاحقا، يبين أن اتفاق الفلسطينيين يحقق إنجازات.
÷ هل كان يخطر ببال منح الصلح أن يصل العراق الى ما وصل اليه؟
يرى انه لم يكن «أعمى» عن نقاط الضعف الموجودة في كل مكان وفي جملتها العراق. ويستدرك ليقول: لكن هناك تياراً في العراق نادى بكرامة الهوية الوطنية ويدافع عنها ويقدمها على غيرها. وهذا التيار يعول عليه. وقد سمعنا مقتدى الصدر يقول: «أنا عراقي.. أنا عراقي» وهذا الصوت يعبر عن حالة موجودة في العراق، هو صوت شريحة عراقية واسعة. ويجب أن يسجل للعراق أنه هو الذي ألقى الضوء على نقائص وعيوب «الوصفة الدولية» للوضع العراقي. من هذه الناحية، من المهم أن يكون هناك أشخاص في أميركا وفي انكلترا يشعرون بالعجز عن تسيير الامور في العراق بالشكل الذي يريدون.
يميز الصلح بين المشروع الاميركي في العراق وذلك الذي تنفذه أميركا في لبنان «هناك اختلاف وهذه حالات متعددة ومختلفة، تشاهد في سياق واحد، لكن كل واحدة حالة مختلفة». ويوضح موقفه بالقول: «أنا من المدرسة التي تضع الحق على القوى الذاتية للمنطقة. ولست من الذين يعلقون أخطاءهم وذنوبهم على كاهل القوى الخارجية. أنا أقول بتقوية العنصر الذاتي داخل الامة العربية، ولا أشك بوجود تقصير عند العرب عن تصور كم هم مهمون بالنسبة للعالم. هناك «قلّة» خيال عند العرب، بأن يتصوروا أنفسهم، كانوا يرون أنفسهم ضعافا فيما كان الآخرون يعاملونهم على أنهم أقوى الاقوياء». الامر نفسه يراه الصلح بالنسبة الى لبنان: «كان هناك عجز وأخطاء في النظرة الى أهمية لبنان بالنسبة للدول العربية المجاورة».
ومصر ودورها؟
يراه الصلح حاليا «دورا دفاعيا لوقف التردي. ووقف التردي هو حاليا الخط الاقوى في البلاد العربية. همّ الناس الآن هو ضرورة وقف التردي. وهؤلاء كثر».
÷ وهل هؤلاء هم الذين يسمونهم خط الاعتدال؟
يجيب: «لا أعرف ما يسميه الاميركان، لكن أعرف انه لو وجدت إرادة أقوى عند العرب لكانت النتائج أحسن بكثير، لو كان هناك حضور حقيقي، حي، كما نريد وكما نطلب... لكنه لم يكن بالقدر المطلوب».
÷ وماذا عن الادعاء بوجود خطر ايراني؟
يضحك بعمق ثم ينطلق بالقول: «اسرائيل هي الشر المطلق كما يسميها الايرانيون». ويستدرك: «نحن عرب، والقومية العربية فكرة لا يجوز أن نقبل بهزيمتها. هذا تخل، والهزيمة الذاتية أفظع أنواع الهزائم».
يتحسر الصلح على الايام «التي كان مجرد لفظ عبارات الوحدة والحرية والتقدم، ينفتح الطريق بنفسه أمامها. لكن الاخطاء والفئويات وغياب الحريات والهجمة على العروبة، كانت أقوى مما تصور عامة العرب». لكن ذلك ليس مدعاة يأس لدى الصلح «فالعروبة نحن، هي قضية لا يمكن أن نتركها أبدا، هي التصور وهي الطريق».
لا ينكر الصلح وجود تراجع في هذه الناحية، على صعيد الانظمة، من دون إرادة شعبية. ويرى انه بمجرد ما كانت تظهر رائحة توحيد أو تماسك في أي موقع عربي، حتى يستشعر الانسان العربي ويتفاءل ويتجاوب، وهو ليس جاهلا أهمية توحيد الخط في مواجهة المذاهب والحركات.
يتحدث الصلح بلغة قومية حزبية، وفي الوقت نفسه يقول انه لم يكن يوما بعثيا «أنا لم أكن بعثيا ولم أنتسب الى حزب البعث، ولست عروبيا قديما، أنا عربي كنت وما أزال، أنا من الحركة القومية العربية التي تؤمن بالوحدة وتكوين الارادة الذاتية للامة في مواجهة الخارج».
عن تجديد الخطاب القومي يرى ان بشاعة الواقع، إضافة الى الثقة بالذات كما كان الشعب العربي يتصورها، ستدفع الى وحدة الصف والتغلب على الفوارق والعاهات الاجتماعية والتكتلات والغرضيات، والى طلب التماسك والوحدة.
ما يزال الصلح على موقفه النقدي من الوحدة المصرية ـالسورية. لو عادت، ما هو موقفه؟
يقول: «أقف معها، لأنني عرفت عيوبها». ويكمل مع ضحكة كبيرة ذات مغزى: «... وليس لأنني استصوبت كل شيء فيها. أقف معها، لأنني أعتبر أنه بات لدي خبرة جديدة لم تكن موجودة سابقا. ولذلك سأؤيدها، لكن بناء على ثقة بالخبرة الموجودة ايضا عند الناس مما ينجح هذه الخطوة». ويوافق على ان الوحدة لو استمرت بأخطائها وعيوبها لكان أفضل من واقعنا الحالي. ويقول: «لا أعتقد أن هناك حالة أسوأ من حالتنا الراهنة». ويحن الى تلك المرحلة: «طبعا تلك المرحلة كانت مرحلة صاعدة. كان فيها عيوب كبيرة ظهرت مع الوقت. لكن الحركة كانت صاعدة وكان هناك خط تاريخي معيّن هو الخط السليم. هناك ناس يندمون لماذا أقاموا وحدة، بدلا من أن يندموا لماذا لم ينجحوها». أما تلك الايام «فهي أيام لا يندم عليها، لأنها كانت أيام أمل، وأيام اقتناع، يكفي انها لم تتطلب تدوير زوايا أكثر من اللازم، كانت مرحلة تحمل خطوطا عريضة».
÷ وهل المرحلة القائمة تتطلب تدويرا اكثر للزوايا؟
يقول: «نعم، الآن هناك تدوير زوايا أكثر من اللازم».
ميثاق جديد
ينصح الصلح اللبنانيين «بأن يحفظوا لبنان سيدا مستقلا عربيا». وينصح العرب «بأن يعوا أهمية العنصر الايجابي في العمل القومي والنشاط العربي والنشاط الديموقراطي». وهو انطلاقا من تجربته السياسية التي بدأت ايام الانتداب الفرنسي (ولد عام 1927 في بيت سياسي معروف وله دور) كان يتمنى «ان ينجز عملا لبنانيا ـ عربيا. وان تعمل الاحزاب اللبنانية ـ العربية على المواءمة بين الوعي على الذات اللبنانية والذات العربية». كيف؟ مثل ما جرى عام ,1943 عندما أنجز الميثاق الوطني اللبناني. والمطلوب ان ينجز المفكرون ميثاقا جديدا يشكل نجاحا شبيها بالنجاح الذي مثله ذلك الميثاق. ويرى «ان الميثاق الوطني اللبناني أخذ في عين الاعتبار المكونات اللبنانية، وفي الوقت نفسه طرد فرنسا. اجتمعت المكونات اللبنانية على هدف الدولة اللبنانية الحرة. عام 1943 لم يكن الميثاق عمل السياسيين فقط. كان من إنجاز الجو الفكري. ومثل هذا الامر لا يترك للسياسيين وحدهم». أما عناوين هذا الميثاق الجديد، فهي: السيادة اللبنانية والدور القومي العربي. مع السيادة الديموقراطية التي لا يجوز التضحية بها.
يطالب الصلح بالتوقف عن «جلد الذات» و«ان نتكلم الحقائق». ويقول: «لا أتذكر فترة اعتبر فيها الناس أن النهضة العربية والدور اللبناني داخلها أمر سهل. لم تكن هناك سذاجة في هذا الامر. ربما كان هناك تفاؤل زائد، لكنه كان نوعا من التفاؤل المرافق للايمان». ويشير الى ان الامة العربية «وعت على مشروعها القومي مع انتهاء عهد الدولة العثمانية. وكان العرب يعتبرون أن سقوط الدولة والنصر العربي أمران متلازمان، لكن سرعان ما حمل المثقفون والرواد الطليعيون في الامة العربية نظرة معتدلة في هذه الناحية، تقول اننا عرب والقومية العربية حق، والمطلوب إنشاء كيان عربي، لكن الاسلام يمكن أن يكون عاملا مساعدا في النهوض وفي إنجاح المشروع العربي. وهذا الطرح الاسلامي ليس معادياً، وان كان للعروبيين ملاحظات عليه، لكنه ليس جــــداراً وليس خصماً أو عدواً مثل الاستعمار والقوى المعادية».
ويرى الصلح «ان اسرائيل لا تستحق الاعتدال العربي. هي لا تريد سلاماً مع العرب. هي تعتبر أن كراهية العرب تجـــــارة رابحة عند الغــــرب وعند الاجنبي وفي الداخل الاسرائيلي». ويتابع: «ليس العرب أعداء الســــلام، اسرائيل هي عدوة السلام». أما المقاومة «فهي شيء شريف وهي ضرورة للعرب، لكن دليل العمل هو اللبنانية الكاملة والعروبة الكاملة».
ويعتبر الصلح ان هناك ثلاث هويات وطنية عربية مهددة، هي: الهوية العراقية والهوية الفلسطينية والهوية اللبنانية. وما يهدد الهوية اللبنانية هو «التهوّر»، بمعنى ان يظن اللبنانيون انهم وحدهم يستطيعون ان يحرروا العرب وفلسطين.
ويتابع: لست من رأي «حزب الله» في كل شيء. «حزب الله» له أخطاؤه. هو مقاومة وهذه الكلمة في بلد عربي هو لبنان. «حزب الله» لا يعني مصادرة المقاومة والارادة اللبنانية كلها والارادة العربية. والمقاومة ضرورية ولها مكانها ومكانتها التي يجب أن تبقى عليها في كل فكر شمولي في البلاد العربية، وفي كل فكر وطني لبناني.
تعليقات: