الجنرال عون (ارشيف)
كانت مطالعة العماد ميشال عون في «كلام الناس» أكثر من مقنعة. لقد ثبّت موقفه من العناوين الرئيسية، ودافع بجرأة عن تموضعه السياسي المحلي والإقليمي، لافتاً انتباه الآخرين إلى الأخطاء التي ارتكبوها في تقدير الموقف وفي الحركة تالياً. وثبّت عناوين معاركه الانتخابية في كل لبنان، مضيفاً إلى إعادة الاعتبار للتمثيل المسيحي الصحيح، الدور الحقيقي الذي يمكن أن يؤديه المسيحيون كشركاء لا كأجراء في هذا البلد.
وأضاف أفكاراً جديدة بشأن حاجات المعارضة إلى بيان تأسيسي للإصلاح والتغيير، قد تكون له فرصة في حال فوز المعارضة في الانتخابات. وأدرك استخدام المشترك في القواعد المذهبية والطائفية لتقديم صورة عن تآلف حقيقي وممكن بين القواعد الاجتماعية لقوى المعارضة، بدلاً من الاحتفال السنوي لجماعة 14 آذار، فيما يمضون بقية العام يدورون في حلقاتهم المغلقة.
إلا أن خلاصات أساسية يمكن الخروج بها، ليس أقلها قوّة تلك المتعلقة بزعيم وتيار يخوضان الانتخابات في كل لبنان. ليس هناك محافظة ليس له فيها مرشح، وليس هناك قضاء ليس فيه له أصوات وحلفاء. وهي التجربة الأولى التي يعرفها الشارع المسيحي في لبنان منذ اندلاع العواصف التي مهّدت للحرب الأهلية قبل نحو أربعة عقود. وهذه هي التجربة الأولى لكل من يتولى الآن منصباً عاماً في لبنان. لقد تجاوز عون بحضوره السياسي وتحالفاته كل القوى الأخرى، في الموالاة والمعارضة وحتى الأحزاب العابرة للمناطق وللطوائف. ويمكن عون الآن أن يخوض معاركه بأقل التكاليف السياسية، وهو يقدر حتى على الانتقاء بين حلفائه من قوى المعارضة، لو أراد. لكنه، ما زال يمسك بسر القوة خارج قواعده، وهو ما يتعلق بتحالفه المركزي مع حزب الله، أكثر الأطراف الشعبية اللبنانية قوة وحضوراً ونفوذاً.
وعندما يرفض العماد عون ترشح مناصر أو محازب في زغرتا، فهو يفعل ذلك مطمئناً إلى أن قواعده وأنصاره سوف يصوتون لحليفه سليمان فرنجية، ولو لم يكن للتيار مرشح هناك. وعندما يقبل عون ضمناً عدم خوض الانتخابات في قضاءَي الزهراني ومرجعيون، فهو لا يفعل ذلك تحت الضغط، بل هو من يقر بالتمثيل الصحيح لميشال موسى بين المسيحيين في الزهراني، ويقر بقواعد التحالفات السياسية مع حزب ناشط مثل الحزب السوري القومي، الذي يتعاون معه انتخابياً في المتن الشمالي والكورة وزحلة والبقاع الغربي. وعندما يقرّر خوض معركة جادة في الشوف، فهو يفعل ذلك خارج منطق الحسابات المتعلقة بالربح والخسارة، بل لتذكير الجميع بأن مشكلة التمثيل المسيحي لا تُعالج على طريقة أطنان الزفت التي تسبق غطاس الخوري إلى المنطقة، ولا بإرث مفقود لكميل شمعون في المنطقة، ولا بحضور تابع مثل جورج عدوان، ولا بزعامات ذات جذر اجتماعي متصل بزعامة المختارة الدرزية مثل نعمة طعمة ونبيل البستاني وآخرين. وهو قادر على تحقيق نتائج جادة في التأكيد أن العصبية الدرزية التي تعمّقت خلال الأعوام الماضية، لم تحجب التسرب الذي حصل من كتلة وليد جنبلاط باتجاه المنزل أو اتجاه الآخرين. وهو قادر على رمي كرة في مياه الحياة السياسية الراكدة في إقليم الخروب، الذي لم يدفعه تيار «المستقبل» إلى الأمام حضوراً، بل أبقاه على وظيفة الخزان البشري العامل في خدمة زعامة الشوف التقليدية.
أما على صعيد مشكلة عون والرئيس نبيه بري، فإن الجنرال يعي أبعاد التحالف السياسي الوثيق مع الثنائية الشيعية. وهو برغم كل السكينة التي يعيشها إزاء حزب الله، لا يريد أن يقوده قلقه المستمر من أداء الرئيس بري صوب مواجهة تضرب أسس التحالف الذي يمكن أن تكون له فرصة إحداث تغيير أو فتح باب التغيير في البلاد، ولو أن للأمر عدته غير المتوافرة الآن بقوة لدى فريق المعارضة. ومع ذلك، فإن لدى عون خيارات تجعله في منأى عن الصدام مع بري، ولا تتعبه انتخابياً. ففي مقدور عون، وهو أمر يعرفه رئيس المجلس، أن يخوض انتخابات في جزين وبعبدا وجبيل وزحلة والبقاع الغربي من دون أن يكون بحاجة إلى تحالف مع بري وحركة أمل. لأن هذين لا يملكان القوى التجييرية الحاسمة في هذه الأقضية، ما عدا جزين الذي يوجد فيه كتلة مسيحية يقودها النائب الحالي سمير عازار، ولو من دون ضجيج، ويمكن عون، بحسب أكثر من عشر دراسات إحصائية أجريت حتى الآن في تلك الأقضية، أن يفوز من دون أن يكون مضطراً إلى انتظار أصوات أمل وبري.
أكثر من ذلك، كان عون قبل اتفاق الدوحة، مضطراً إلى مسايرة بري أكثر مما كان يود ربطاً بكونه مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وهو عبء تحرر منه، بينما يمكن عون المناورة حتى اللحظة الأخيرة لكون بري هو الآن المرشح لرئاسة المجلس.
لكنّ ثمة فرقاً بين الحسابات الباردة والحسابات السياسية، ولا بد أن يتدخل السيد حسن نصر الله في اللحظة المناسبة وفي المكان الصحيح، كي تسير الأمور بما هو أفضل لقوى المعارضة. إلا أن تدخّل السيد لا يمكن أن يتم بالطريقة التي تجعل المصالحة أو التفاهم قائماً على زغل، وخصوصاً أن المرحلة المقبلة مفتوحة على احتمال انهيار سريع لفريق 14 اذار، ما يتطلب رعاية خاصة لمكوناته الحالية. وتلك مهمة برسم السيد وعون وبري أيضاً.
-------------------------------------------------------
«الملك» و«الباش» وحتميّة تفاهم عون ـ حزب اللّه
غسان سعود
حول طاولة العشاء في منزل مرشح التيار الوطني الحر المفترض عن المقعد الماروني في عكار، المسؤول السابق لحزب الوطنيين الأحرار في الدائرة نفسها، جوزف مخايل، التقى نحو عشرة ناشطين سابقين في أحزاب الكتائب، القوات، والوطنيين الأحرار. بينهم منظّرون سابقون في ما كان يُعرف بالفكر اليميني، ومسؤولون تدرّجوا في العمل الحزبي ارتقاءً إلى مراكز قريبة من صناعة القرار.
على الطاولة، قلّة اهتمام بالطعام، رغم حرص سيدة المنزل على مراعاة صحون الضيوف باهتمام فائق، وانشغال كبير في المقابل بالتفاصيل السياسيّة، في وقت تتقاطع فيه وجهات النظر الكثيرة عند حقيقة يجمع عليها الحاضرون: ولى زمن أحزابنا، والعماد ميشال عون هو آخر ما يربطنا بالسياسة.
بعد العشاء، يجتمع الرفاق ـــــ الخصوم السابقون حول طاولة صغيرة في الصالون. الحديث الرئيسي هو العلاقة المسيحيّة ـــــ الشيعيّة عموماً، وعلاقة عون ـــــ حزب الله خصوصاً. والكلام، دائماً، لقياديين عُرف عن بعضهم يمينيته حتى في الأحزاب اليمينيّة.
يُفتتح الموضوع بالعودة إلى «فخامة الملك»، بالنسبة إلى المسيحيين. كان الرئيس كميل شمعون مؤمناً بالثنائية المسيحيّة ـــــ الشيعيّة. وحقق ذلك بالممارسة عبر محاولته إيجاد أكبر حيثيّة ممكنة في الأوساط الشعبيّة لهذه الطائفة. ويمرّ الدور سريعاً على المجتمعين، فيُدلي كل واحد منهم بما حفظته ذاكرته، ليستنتج أحدهم، أخيراً، أن إحدى أهم نقاط قوة «الملك» قبل تنصيبه رئيساً وخلال ولايته، وبعدها كانت علاقته وأبناء الطائفة الشيعيّة.
ومن شمعون إلى بشير الجميل، يقول أحد أصدقاء الأخير إن ابن بيار الجميل كان يكرر يومياً القول إن «صيغة 43 فشلت ويفترض دفنها ووضع صخرة لا يمكن أيّ قوة دحرجتها عن قبرها». وقبل أن يحاول أحدهم العودة إلى الحديث، يتابع القواتي العائد من الولايات المتحدة بعد غربة طويلة، مشيراً إلى أن «بشير لم يقل يوماً رأيه في الصيغة البديلة، لكنه كان حاسماً في استحالة استمرار الثنائية المسيحيّة ـــــ السنيّة بحكم البلد، كما كانت الأمور قبل الحرب». تُهز الرؤوس موافقة، ويبدأ تدفق الملاحظات: رواية عن علاقات سرية بين بشير ونبيه بري، وأخرى عن تنسيق ميليشياوي ميداني بين القوات وحركة أمل.
يطول الحديث قليلاً قبل أن يتدخل أحدهم ليعيد تصويب الكلام، مبرزاً نقطة جديدة، عنوانها: عدو مشترك للشيعة والمسيحيين. والعدو طبعاً، بحكم هوية الحاضرين، هو التوطين. باختصار، مثّل الشيعة القوة الأساسية في منع التوطين، وهم اليوم يتعرّضون لضغوط كبيرة تحاول فرض الأمر الواقع الفلسطيني عليهم. ومتصالحاً مع نفسه، يجاهر أحد الحاضرين باقتناعه بأن ركيزة التقاء عون وحزب الله كانت هذا الهاجس المشترك من تشريع التقدم الديموغرافي لطائفة على حساب الطوائف الأخرى.
خلال النقاش، يبدو أحد الحاضرين قابضاً على فكرته كمن يقبض على كنز، وفي أول فرصة يبادر إلى القول إن ثمة التقاءً حضارياً بين المسيحي والشيعي المستفيد من مرونة «الاجتهاد» ليراكم التطور. ولتدعيم الفكرة، ينتقل المجتمعون بسرعة إلى إيران: أحاديث عن أعاجيب تكنولوجيّة، وروايات عن بلاد يراها المستمع لألسنة الحاضرين واحات من التقدم في صحاري الدول الإسلاميّة.
هنا، تحضر خاطرة لإحدى السيدات، فتقولها صراحة: الشيعة هم مسيحيو الشرق الجدد. العبارة ـــــ الاكتشاف تستحق بعض الصمت احتراماً. ومن وحي العبارة، يشرح قيادي سابق في القوات أن تديُّن حزب الله مبرر، و«شعب المقاومة المسيحيّة» أكثر قدرة من غيره على تفهّم كل ما يحيط بمظاهر التديُّن هذه، لأن القواتي «كان يصلّب يده على وجهه ويطلق الرصاص»، و«كان يعلّق مسبحة فوق نيشان بندقيته ليحسّن التصويب». وفي السياق الثقافي ـــــ التاريخي تتذكر إحداهن أن المسيحيين والشيعة هم «الفلاحون» في الأصل، وثمة عائلات كثيرة يتداخل في تكوينها الشيعي والمسيحي. تُناقش الفكرة الأخيرة بشغف رغم تعب الساهرين فتُدعم بمزيد من الحجج. وقرابة الساعة الثانية فجراً، تبدأ طقوس الوداع، وسط إجماع الحاضرين على أن العماد ميشال عون لم يعرف كيف يدافع عن التفاهم بصفته ركيزة في استمرار «الوجود المسيحي الحر في الشرق». وفي الطريق إلى السيارة، يختتم أحد «الرفاق» نظرية «حتمية اللقاء المسيحي ـــــ الشيعي»، مذكراً بانتقاد الصحافي ألفرد نقاش لصيغة صناعة الوطن عبر اللاءات، للقول إن وثيقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله تمثّل الخطوة الأولى لبناء لبنان الـ 10452 كلم مربع الذي نادى به حزب الله بعد ربع قرن على اغتيال بشير الجميّل.
تعليقات: