مساء الرابع والعشرين من حزيران عام ,1859 وقع عشرات القتلى والجرحى في ساحة القتال في منطقة «سولفرينو» شمال إيطاليا بعد معركة طاحنة بين ايطاليا وفرنسا من جهة، والنمسا من جهة ثانية، عندما قام امبراطور فرنسا نابليون الثالث بحملة عسكرية ضد النمساويين الذين كانوا يحتلون ايطاليا آنذاك. وصادف مرور شخص سويسري يدعى هنري دونان في تلك المنطقة التي شهدت المعركة فحزن لمشهد القتلى والجرحى وقد علا أنينهم تحت أشعة الشمس، فبدأ يعتني بهم بمساعدة الأهالي، ونقلهم الى الكنائس والمستشفيات في القرى للمعالجة من دون أي تفريق أو تمييز بينهم. عام ,1862 وصف هنري دونان معركة «سولفرينو» والمنظر الرهيب للقتلى والجرحى في كتاب: «تذكار من سولفرينو» دعا فيه الى إنشاء جمعية لإسعاف ضحايا الحروب على أن تكون محمية ومعترف بها دولياً. بعدما لاقت الفكرة نجاحاً، عقد اجتماع عام 1863 اشترك فيه هنري دونان وأربعة أشخاص سويسريين هم العماد هليوم ـ هنري ديفور، والمحامي غوستاف موانيه، والطبيبان تيودور مونوا ولويس آبيا، وألفوا اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى. وبسعي من هؤلاء، دعت الحكومة السويسرية الى عقد مؤتمر ديبلوماسي عام 1864 حضره موفدو 16 دولة، وافقوا على المشروع واتخذوا الصليب الأحمر على خلفية بيضاء شعاراً لهم (أي ألوان العلم السويسري معكوسة). وهكذا، نشأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر واعتمدت الاتفاقية الأولى من اتفاقيات جنيف الأربع.
تجدر الإشارة إلى أن الشارات، إن كانت صليباً أو هلالاً، تأتي تبعاً لما تقرره حكومة البلد المحتضن للجمعية. لا تربط الحركة العالمية للصليب الأحمر والهلال الأحمر اختيار الشارة بالدين، وذلك تفادياً لتكريس انقسام، وتعطي الحركة عن ذلك مثلاً هو أندونيسيا: دولة إسلامية كبرى ومع ذلك اعتمدت الصليب في شارتها. في كانون الثاني ,2006 أضيفت «الكريستالة الحمراء» على شارتي الصليب الأحمر، وباتت شارته الثالثة، وذلك بعدما طالبت إسرائيل بإضافة نجمة داوود إلى شعارات الحركة. فباتت الكريستالة مخرجاً لدول أخرى، غير إسرائيل، لا تريد اعتماد أي من الصليب والهلال شعاراً في أراضيها.
الصليب الأحمر اللبناني
جمعية وطنية مستقلة أسستها المركيزة أليس دو فريج مع مجموعة من السيدات اللبنانيات في 9 تموز .1945 وهي جمعية معترف بها ذات منفعة عامة منذ عام ,1946 وكفريق مساعد للجهاز الطبي في الجيش اللبناني منذ عام 1946 أيضاً.
اعترف بها رسمياً من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ـ جنيف سنة 1947 وهي إحدى مكونات الحركة العالمية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وعضو في الاتحاد الدولي لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر وعضو مؤسس في منظمة الأمانة العامة لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية. تعتمد جمعية «الصليب الأحمر اللبناني» في عملها على جهود وتقديمات المتطوعين في أقسامها التنفيذية المتعددة، وتنتشر الجمعية على معظم الأراضي اللبنانية وتقوم بنشاطاتها وخدماتها عبر عدد من اللجان والمراكز والمعاهد.
بدأ العمل في فرق الاسعاف الأولي في الصليب الاحمر اللبناني سنة ,1964 وكان يضم في حينه 12 متطوعاً. مع بداية الحرب اللبنانية عام ,1975 ونظراً للحاجة، ازداد عدد المتطوعين الى 150 مسعفاً وعدد المراكز إلى خمسة. وعام ,1982 مع تصاعد الأعمال العدائية الاسرائيلية على لبنان، أضحى العدد ألف مسعف و27 مركزاً. أما اليوم فإن تعداد المتطوعين في فرق الاسعاف الأولي يناهز الـ2400 مسعف ومسعفة يتوزعون على 42 مركزاً وثلاث غرف عمليات.
يقوم متطوعو فرق الاسعاف الأولي بتأمين خدمة الاسعاف والطوارئ على الأراضي اللبنانية كافة 24 على 24 على مدار أيام السنة وتتمحور هذه الخدمات بالآتي: إسعاف ونقل طارئ للمصابين في حوادث الطرق والجبال والحوادث المنزلية، إسعاف أولي لضحايا النوبات القلبية (CPR)، إسعاف أولي للأطفال وللمرضى في المنازل (الذين لا يستطيعون الوصول الى مراكز الإسعاف)، تأمين مراكز إسعاف في النشاطات والاحتفالات الوطنية والرياضية والثقافية والفنية ومراكز التزلج، نقل المرضى من وإلى المستشفيات، نقل الجثث (في بعض الحالات الخاصة)، نقل وحدات دم الى المستشفيات (في حال الطوارئ فقط)، تقديم الاسعافات الأولية في مراكز الإسعاف، إسعاف ونقل جرحى وضحايا الحوادث الأمنية.
المبادئ الأساسية
هناك علاقة وثيقة بين القانون الدولي الإنساني والمبادئ الأساسية للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر التي اعتمدت في المؤتمر الدولي العشرين للصليب الأحمر المنعقد عام 1965 في فيينا، وهي تعبر عن غايات الحركة بشكل عام وترشد نشاطها الانساني في جميع الظروف وفي كل مكان، وملخص هذه المبادئ هو: الإنسانية من خلال احترام الكرامة الانسانية وتخفيف المعاناة البشرية، عدم التحيز من خلال تقديم العون والمساعدة من دون تمييز، الحياد أي عدم الانحياز في النزاعات وعدم التورط في السياسة، الاستقلال التام من أجل العمل طبقاً لهذه المبادئ، الخدمة التطوعية عبر توفير الإغاثة التطوعية وعدم توخي الربح، الوحدة وهي جمعية وطنية واحدة في البلد الواحد، والعالمية عبر تبادل الخبرات والمساعدة بين جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في العالم.
ي. ح. ع.
-----------------------------
شهداء الصليب الأحمر اللبناني:
الأخت ماري صوفي الزغبي (مركز بعلبك 1981)، خليل صيدح (مركز بعلبك 1981)، سليم حمود (مركز بعلبك 1981)، أنطوان أسمر (مركز الأشرفية 1984 )، سليم عبدو (مركز الأشرفية 1984)، طه لاشين (مركز طرابلس 1984)، ميشال مكرزل (مركز قرنة شهوان 1985)، جوزف الخوري (مركز قرنة شهوان 1985)، باسل البزري (مركز صيدا 1985)، سليم خيرالله (مركز الأشرفية 1986)، فارس لبّس (مركز قب الياس 1986)، حسين همدر (مركز المريجة 1987)، مخايل جبيلي (مركز زحلة 2006)، بولس معماري (مركز حلبا 2007)، هيثم سليمان (مركز حلبا 2007).
--------------------------------
مَن لا يعرف «شومينيه» و«فاجر»؟
زيارة إلى حياة شباب «الصليب الأحمر اللبناني» في زمن الخطر
يوسف حاج علي
«مية وواحد. مية وواحد. عمليات»، ينادي الشاب عبر الجهاز اللاسلكي من غرفة العمليات المركزية في «الصليب الأحمر اللبناني» فيرد عليه مسعفو «الصليب الأحمر اللبناني» في فرع سبيرز: «عمليات. مية وواحد»، إشارة على تلقي الاتصال. يبلغهم الشاب في غرفة العمليات المركزية بالمهمة: حادث سير في منطقة الحمرا. عدد الإصابات: واحدة. يتراكض المسعفون الى سيارة الاسعاف ذات الرقم 170 وتنطلق المهمة. ملائكة ببذات برتقالية. هكذا هم. متطوعون الى أقصى الحدود. الى ما وراء الواجب.
الصليب الأحمر اللبناني الذي يعمل على تضميد الجراح، نزف في معارك مخيم نهر البارد الأخيرة شابين من مسعفيه هما بولس معماري وهيثم سليمان. في حرب تموز الماضية، نزف شاب آخر: مخايل جبيلي. وفي أثناء الحرب اللبنانية، قدم الصليب الأحمر اللبناني 12 شهيداً.
المنزل الثاني
في مركز سبيرز يتجمع شبان وشابات الاسعاف حول مائدة الطعام ويتسامرون في كل المواضيع. الجلوس بينهم أشبه بالجلوس في المنزل وسط العائلة. هذه الطاولة هي المكان الوحيد الذي يتخففون فيه من جدية المهمات التي يقومون بها. حولها يتكلمون في كل شيء. المهمات. يوم العمل. والدة «زوم» وهو الـ«نيكنايم» أو الاسم الحركي لأحد شبان الاسعاف هي من أعدت طعام العشاء لليوم. «زوم» هو رئيس الدوام اليوم. يفضل الشبان والشابات استعمال الأسماء الحركية التي يطلقونها على بعضهم تحبباً ولا يحبذون استعمال أسمائهم الأصلية. أما الذي يرفض اسمه الحركي فـ«يلتصق» به الاسم أكثر. الاسم الحركي يرتبط عادة بصفات المسعف وشكله وشخصيته. اسم «زوم» ارتبط بحبه لهواية التصوير. في حياته العادية، يعمل مهندساً معمارياً. الليلة عيد زواجه الأول، وهو يقضيه في المركز بعيداً عن زوجته.
يمتد دوام المسعف من السادسة مساء وحتى السادسة صباحاً يوماً واحداً في الأسبوع، بالإضافة إلى «ويك أند» واحد في الشهر يقضيه المسعف في المركز. يبدأ الـ«ويك أند» الرابعة من بعد ظهر أحد أيام السبت وينتهي عند السادسة من صباح الاثنين الذي يليه. إلى جانب الدوام والـ«ويك أند»، يؤدي المسعفون المتطوعون العديد من المهمات أثناء النهار مثل إقامة «بوستات» أو مراكز اسعاف خلال المباريات الرياضية والتظاهرات والتجمعات البشرية الضخمة والنقاط الحساسة مثل مناطق الكوارث والحروب.
تكفّل «زوم» بالعشاء اليوم، ففي المركز مسعفون جدد. عشاء المسعفين الجدد الأول يكون دائماً على عاتق رئيس الدوام. في الأيام العادية، يكون العشاء مداورة بين الشبان والصبايا. أمهات المسعفين يصبحن جزءاً من المشهد أيضاً. تنشأ علاقة غير مباشرة بين والدة المسعف ورفاقه في المركز. تصير الأم تسأل عن موعد دوام ابنها المسعف لتقوم بتحضير وجبة «دسمة» للشبان والصبايا. في أحد الأيام، كان العشاء مسؤولية والدة «كراكوز». في اليوم الثاني، بقي العشاء مسؤولية والدته لكن هذه المرة في أثناء دوام شقيقته المسعفة «باتشي». وفي اليوم الثالث أيضاً، تولت الوالدة ذاتها مهمة تحضير العشاء بسبب دوام شقيقته الثانية والمسعفة بدورها «سميدس». ثلاثة مسعفين وثلاث عشوات متتالية. اقترح الشبان في المركز تقديم درع تذكارية للوالدة مكافأة لها على جهودها المضاعفة في إعداد الطعام للمركز.
للعشاء قصة أخرى. يوضع الطعام على طاولة المركز الثامنة مساء. وجود الطعام على الطاولة لا يعني أنه سيؤكل. تمر أيام يبقى فيها الطعام على الطاولة طوال الليل ولا يمس لأن المسعفين يكونون في مهمات متواصلة. لا يأكل المسعفون إلا إذا كانوا حاضرين جميعاً على الطاولة. تمر أيام أحياناً يتناولون فيها صباحاً ما يفترض أنه كان وجبة عشاء الأمس. دقيقة صمت تسبق وجبة الطعام دائماً تخصص للتأمل الشخصي، يفكر المسعف خلالها بيومه الاسعافي، بالمهمات التي نفذها، بشهداء المؤسسة، بالمريض الذي فقده أهله، بالتفاصيل الصغيرة التي لا يملك الوقت لمتابعتها بسبب العمل المتواصل.
لا تنتهي مهمات المسعف في المركز. عندما لا يكون في مهمات طوارئ أو نقل مرضى أو جرحى، يكون إما في غرفة العناية المخصصة لتغيير جروح المرضى، أو يشارك في تنظيف المركز، أو يراجع تقنيات الإسعاف الأولي التي تعلمها، أو يحضّر سيارة الاسعاف للدوام الذي يليه، أو في اجتماع الفرقة الذي يجري فيه تقييم المهمات السابقة وتقديم الاقتراحات ومناقشة المشاكل.
«شومينيه» و«فاجر»
يقول أحد المسعفين عندما يسأل عن موضوع الخطر في أثناء تأدية الواجب الذي قد يصل الى الاستشهاد كما حصل مع «شومينيه» (بولس معماري) و«فاجر» (هيثم سليمان) إن الهدف النبيل الذي يضحي الشبان من أجله هو ما يطرد الخوف من أداء المهمات. يفضل هذا المسعف عدم إعطاء اسمه الحركي. هو من الشبان الذين شاركوا في الاسعاف والمهمات أثناء حرب تموز من دون علم أهله ولا يريد لوالدته أن تعرف بهذه المشاركة عبر الإعلام حتى لا يفتضح أمره. يعترف أن أكثر ما يخيف المسعف هو مسؤولية حياة الأشخاص المتواجدين معه في سيارة الاسعاف. حياتهم وكيفية وصولهم سالمين إلى المستشفى هو أكثر ما يفكر فيه عندما يكون داخل سيارة الإسعاف. في لحظات الخطر، لا ينكر أنه يفكر بالموت لكنه لا يريد لهذا الموت أن يدركه في أي مكان آخر، ولا يريد لفكرة الموت أن تسيطر عليه. يطمئن نفسه ويتعلم كيف يتعايش مع الموت وإذا كان لا بد منه فليكن دفاعاً عن الهدف النبيل الذي آمن به.
هناك مشاهد لا ينساها المسعفون أثناء تأدية المهمات. عندهم الكثير من نقاط الضعف، ومنها الأطفال والمسنون. في إحدى المرات، في حرب تموز، كان أحدهم في مهمة إخلاء عائلة في منطقة صور. أصيبت الأم وابنتها، طفلة في الرابعة من العمر، وابنها طفل الثلاث سنوات وبترت بعض أعضائهم بعدما سقط الصاروخ في سيارتهم. كان على المسعف أن ينقل هذه العائلة الى بيروت إلا أن العائلة الصغيرة كانت تعاني من «فوبيا» السيارات بعد الحادث الذي تعرضت له. فتوجب عليه أن يهدئ من روعها ويعمل على طمأنتها. على الرغم من هول مشهد إصابات العائلة، ما زالت الكلمات التي نطقت بها الطفلة الصغيرة محفورة في وجدان المسعف حتى اليوم. كانت كلمات لا تنسى. يعترف «زوم» بأنه صدم عندما علم بخبر استشهاد المسعفين في مخيم نهر البارد. كان في المنزل يشاهد التلفزيون مع والدته عندما قرأ الخبر على الشاشة. لم ينبس ببنت شفة وراقب تفاصيل وجه والدته التي لم تنطق الا بأربع كلمات: «الله يصبّر قلب أهله». تخيل نفسه لحظتها مكان الشهيدين وتخيل والدته مكان والدتيهما. المشهد كان أعمق من أي كلام قد يقال.
يرى «كراكوز»، المسعف منذ أربع سنوات، أن خبر الاستشهاد قرّبه أكثر من رفاقه في المركز. هو من المسعفين الذين حضروا دفن الشابين. كان يختنق أثناء التشييع الذي كان أشبه بالعرس منه إلى الدفن. بقي يتساءل عن سبب مقتلهما طوال الوقت وهما يؤديان واجباً انسانياً. استشهاد الشابين أثناء تأدية الواجب الانساني هو الأمر نفسه الذي يؤرق «كرست». يقول: «مهمة المسعف هي اسعاف المصابين سواء كانوا جيشاً أو فتح اسلام أو غيره. طالما هناك شخص مصاب واجب المسعف أن ينقذه». لم يخفف استشهاد الشابين من حماسة «كرست». إذا استدعي إلى هناك، سيكون مستعداً للمشاركة من دون تردد. ما زال «جرس» حتى الساعة غير قابل لفكرة استشهاد الشابين. «جرس» مسعف منذ أكثر من عشر سنوات وهو من الذين شاركوا في عدة نشاطات مع «شومينيه». في إحدى المرات، تعرض «جرس» لعارض صحي وقام «شومينيه» بنقله في الاسعاف الى المستشفى. يؤكد «جرس» أن «شومينيه» هو أصغر مسعف في «الصليب الأحمر اللبناني» يستلم رئاسة منطقة. عندما استلمها كان عمره 25 عاماً. يربط حصوله على هذا الموقع في سن مبكرة بنشاطه وقدرته على تحمل المسؤولية. عندما شاهد «جرس» المهرجانات التي أقيمت في تشييع زميليه، زاد ذلك من حماسه للدفاع عن القضية الانسانية التي يؤمن بها. هكذا هم المسعفون أينما حلوا. يتحدون الموت والخطر والصعاب من أجل إسعاف المرضى والمصابين وإنقاذ حياتهم أينما كانوا ولأي جهة انتموا. لم يبرد الحماس ولم تخفت الهمة. يعلو صوت الجهاز اللاسلكي من جديد مبلغاً عن حالة أخرى، وتنطلق الاسعاف مرة أخرى ودائماً... إلى ما وراء الواجب.
----------------------------
تعليقات: