نعش الشاب حسين دقماق ملفوفاً بعلم النجمة
ما زالت بلدة هونين واحدة من القرى اللبنانية «البلا هوية». هي واحدة من القرى السبع التي خطفها الصهاينة عام .1948 حسين دقماق عاش واستشهد لا يعرف عن بلدته هونين شيئاً. ولد في 13 كانون الأول 1982 في بيروت، وترعرع ثم ووري الثرى فيها. أحب كرة القدم ومارسها هواية بالتزامن مع تشجيعه لفريق النجمة. روى مدرجات النادي بعرقه قبل أن ينتقل في 21 أيار 1997 إلى الملعب فتدرّج في فرق الفئات العمرية. عام ,1999 كانت الإطلالة الأولى لدقماق مع منتخب الناشئين الذي مثّل لبنان في البطولة العربية المدرسية في الاسكندرية، فكان أحد نجومها بامتياز. لكنه هاجر بعدها إلى ألمانيا وطلّق كرة القدم، إذ تعذر عليه الاحتراف في بلده الذي لا يعرف عن الاحتراف شيئاً.
استدعي من المانيا إلى الفريق الأول لنادي النجمة بطلب مباشر من رئيس النادي السابق محمد فنج، فأحرز معه بطولات الدوري مواسم 2002 ـ 2004 ـ ,2005 وشارك النجمة في مسابقة كأس الاتحاد الآسيوي 4 مرات وبلغ معه النهائي عام .2005
كان حسين دقماق وعلي ناصر الدين وعباس عطوي يحظون بمعاملة خاصة من فنج الذي لم يكن يفرّق بينهم وبين فقيده الغالي أحمد. ليلة استشهاد حسين، دخل أبو ابراهيم غرفة أحمد وشاهد صورة تجمع الفقيدين فانهمرت دمعته لأول مرة منذ فقدانه ولده.
عشر دقائق على انتهاء الحصة التدريبية المخصصة لتجربة لاعبين جدد. ثلاثة فقط من الفريق الأول، حسين دقماق ويحيى هاشم وعبدو طافح، موجودون. عصر الأربعاء 13 حزيران، تحجج دقماق بـ«مسمار» في قدمه أمام مدربه ليهرب من التدريب. طلب الإذن من المدرب فادي اليماني الذي أجابه: «يمكنك الغياب عن التدريب يوم الجمعة»، فضحك دقماق ورد: «مش محرزة، مش لهالدرجة». كان يريد الالتحاق بغداء مع صديق عزيز أصر على تأجيله إلى حين انتهاء التدريب. خرج مسرعاً إلى قدره، ودّع رفاقه ومدربه في الصغر عبد اللاذقي، وهرول إلى سيارته أمام بوابة الملعب.
لم يعتد أن يستحم خارج منزله فانتظر زميله حسين نعيم خمس دقائق كانت كفيلة بمرور سيارتي النائب وليد عيدو أمامه. هو موعد مع ضريبة الدم التي دفعتها الرياضة اللبنانية بالدم.
بعد يومين من تفجير «فردان»، افتقد الأصدقاء حسين دقماق في جلسة «الروشة» اليومية. اتصل علي دبوق به مطمئناً، فأجاب دقماق: «التفجيرات بدأت تقترب من البحر والابتعاد عنه أفضل».
بين رفاقه في الفريق ملقب «أبو عجقة». صخب وضجة ومزاح في الملعب وفي الفندق وفي السفر، والبسمة والنكتة لا تفارقان شفتيه. لعبتان غير كرة القدم هو «مولع» بهما أيضاً: الورق، وتحديداً «الليخة» ويلقبونه بـ«الملك»، وطاولة الزهر حيث يطلق عليه لقب «القهار». ويتذكر علي دبوق أجمل المشاهد على طاولة الورق: «يقف دقماق على طوله على أنغام المطرب أيمن زبيب ويرمي (الليخة) في وجه خصمه وهو يرقص». كان يدخن النرجيلة بالسر عن والده علي دقماق. الأخير يسمح بها لابنه الأصغر حسن ويحظرها على حسن كونه لاعب كرة قدم. يبكي والد الشهيد ويقول: «كان يقوم بأمور غريبة لم أفهمها. قبل ثلاثة أيام من استشهاده، قبّل كل من رآه وطلب مني مرافقته الى التمارين. أكثر ما يؤلمني هما ابنتاه نانسي (سنتان) وسيرين (شهران) اللتان أصبحتا يتيمتين، وأتمنى على نادي النجمة ألا يتركهما للقدر». عشية استشهاده، اشترى حسين ملابس جديدة، إلا أنه أصر على أن يرتديها شقيقه حسن قبله: «هيك أحسن، خلي العروس تنبسط فيك». كان حسين دقماق بعيداً عن الموقف السياسي للنائب الشهيد وليد عيدو، إلا أنه رافقه في أمرين: حب نادي النجمة والشهادة معاً. كان يحب جميع السياسيين حتى لو كانوا من 14 أذار: «الشيخ سعد الحريري يحب الرياضة ويدعم الرياضيين، إذاً أنا التقي معه في مكان».
وضعته إدارة النجمة على لائحة الاستغناءات من دون علمه، فرد عليها: «لن أرتدي غير القميص النبيذي».
كان يمكن للجريمة النكراء أن تحصد المزيد من الشهداء من فريق النجمة لولا العناية الإلهية. لاعب الوسط يحيى هاشم والمعالج الفيزيائي مازن الأحمدية لم يبتعدا عن الانفجار سوى أمتار قليلة. لكن المنية كانت خارج الملعب بالمرصاد لحسين نعيم. من مواليد 11 أيلول ,1987 من بلدة سلعا الجنوبية، وقّع على كشوفات النادي في 2 تشرين الثاني .2001 موهبة لفتت الأنظار. تدرج في كافة فئات النادي، ويقول زملاؤه عنه: «بقدر ما افتقدنا زميلاً عزيزاً هادئاً فإن النجمة والكرة اللبنانية افتقدت واحداً من أفضل المهاجمين في المستقبل، نظراً لما يمتلكه من فنيات وذكاء في منطقة الجزاء».
عيدو
«هنا سيموت والدي»... عبارة غالباً ما رددها المحامي الشهيد خالد عيدو على مسمع من رفاقه، تحديداً بسام شعيب، في كل مرة كان الشهيد عيدو يخرج فيها من محيط نادي «سبورتينغ» حيث اعتاد أن يقضي أوقات فراغه مع والده.
كان خالد رياضياً بامتياز متابعة وممارسة، شأنه شأن والده الذي لم يكن يأبه لتحذيرات الأصدقاء شبه الدائمة والتي وصلت الى اتهامه بأنه «مستهتر بحياته».
الاتصالات بين خالد ووالده كانت شبه مفتوحة يومياً: «أين أنت أبا خالد، انتبه لنفسك، حاول ألا تسلك الطرقات غير العامة»، ينصح خالد باستمرار. ويرد القاضي عيدو: «لا تقلق يا بني، عندما تأتي ساعة القدر فليس هناك من مهرب مهما بلغت الحماية التي لم توفر حتى رفيق الحريري».
كان دائماً ينصح والده بتخفيف حدة تصاريحه. قطع خالد رحلته في دبي ذات يوم بعد ساعات من وصوله إليها، إيماناً منه بأن وجوده على مقربة من والده سيجبر «الوليد» على الانتباه لحياته. شاء القدر أن تأتي يد الغدر لتصطحبهما سوياً إلى الشهادة. لم يعتد خالد أن يقود سيارة واحدة إلى جانب والده، كانت المرة الأولى التي يتصل فيها الأب بنجله طالباً منه مرافقته استثنائياً لتقديم واجب العزاء لمدير عام بنك البحر المتوسط محمد الحريري. فكان أن جاء الأخير ليعزي بهما. «بقدر حبه للنجمة، مات في ملعبها»، عبارة رددها بسام شعيب أحد أعز أصدقاء خالد عيدو ورفيقه الدائم في الغداء والعشاء والفطور أحياناً، رفيقه في ملاعب كرة السلة وكرة القدم وفي السهرات والجامع وفي كل مكان... إلى درجة أن زملاءهما اعتادوا أن يخابروا واحداً منهما، فعندما تتصل بخالد لا داعي للاتصال ببسام والعكس صحيح.
عُرف خالد عيدو في النادي الرياضي، ولم يكن محسوباً على أي طرف فيه. كان صديقاً للجميع. يقول كلمته بكل جرأة من دون حسابات تطغى على عشقه للنادي الأصفر الذي دخل لجنته الفنية موسم 2002 ـ .2003 «راح خالد ما بقى رح يتصل ليعرف شو عملو النجمة»... هذه الكلمات رددها بسام شعيب ثم بكى على كتف مدير المنتخبات الوطنية السابق ونجم منتخب لبنان والنادي الرياضي جاسم قانصو، وإلى جانبه وليد دمياطي ومدرب المنتخب قصي حاتم وقال: «كان يحبك يا جاسم».
أحمد فنج مرفوعاً والشهيد ورفاقه من حوله
تعليقات: